بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } :
هذا بيان من اللّه تعالى لحال القرآن ، وحال المكذبين به معه ومع من جاء به ، فقال : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } أي : ذي القدر العظيم والشرف ، المُذَكِّرِ للعباد كل ما يحتاجون إليه من العلم ، بأسماء اللّه وصفاته وأفعاله ، ومن العلم بأحكام اللّه الشرعية ، ومن العلم بأحكام المعاد والجزاء ، فهو مذكر لهم في أصول دينهم وفروعه .
وهنا لا يحتاج إلى ذكر المقسم عليه ، فإن حقيقة الأمر ، أن المقسم به وعليه شيء واحد ، وهو هذا القرآن ، الموصوف بهذا الوصف الجليل ، فإذا كان القرآن بهذا الوصف ، علم ضرورة العباد إليه ، فوق كل ضرورة ، وكان الواجب عليهم تَلقِّيه بالإيمان والتصديق ، والإقبال على استخراج ما يتذكر به منه .
1- سورة " ص " هي السورة الثامنة والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة " القمر " وهي من السور المكية الخالصة . ويقال لها سورة " داود " .
قال الآلوسي : هي مكية –كما روي عن ابن عباس وغيره- وهي ثمان وثمانون آية في المصحف الكوفي . وست وثمانون في الحجازي والبصري والشامي . . . وهي كالمتممة لسورة الصافات التي قبلها ، من حيث إنه ذكر فيها ما لم يذكر في تلك من الأنبياء ، كداود وسليمان . . .
2- وقد افتتحت سورة " ص " بقسم من الله –تعالى- بالقرآن الكريم ، على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما يبلغه عن ربه .
ثم حكى –سبحانه- ما قاله المشركون فيما بينهم ، لإنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولإنكار يوم القيامة وما فيها من ثواب وعقاب ، ورد عليهم بما يثبت جهلهم وغفلتهم واستكبارهم عن قبول الحق . .
قال –تعالى- : [ وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد . ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاف . أأنزل عليه الذكر من بيننا ، بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب . أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب . أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب ] .
3- ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما لحقه منهم من أذى وكيد ، فحكت له أن أقوام الرسل السابقين قد قابلوا رسلهم بالتكذيب ، وأمرته بالصبر على جهالاتهم ، وساقت جانباً من قصة داود –عليه السلام فذكرت بعض النعم التي أنعم الله –تعالى- بها عليه ، كما ذكرت ما دار بينه وبين الخصوم الذين تسوروا عليه المحراب .
قال –تعالى- : [ كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد . وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب . إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب . وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق . وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب . اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ] . . .
4- وبعد هذا الحديث الذي فيه شيء من التفصيل عن وجوه النعم التي أنعم به –سبحانه- على عبده داود ، وعن لون من ألوان الامتحانات التي امتحنه –تعالى- بها ، وعن الإرشادات الحكيمة التي أرشده الله –عز وجل- إليها . . .
بعد كل ذلك ساق –سبحانه- أنواعاً من الأدلة على وحدانيته وقدرته ، وبين أن حكمته قد اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والفجار .
قال –تعالى- : [ أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ، أم نجعل المتقين كالفجار . كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب ] .
5- ثم أثنى –سبحانه- بعد ذلك على نبيه سليمان –عليه السلام- وبين بعض النعم التي منحها له ، كما بين موقفه مما اختبره –تعالى- به . . .
قال –تعالى- : [ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب . قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب . فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب . والشياطين كل بناء وغواص ] .
6- ثم مدح –سبحانه- نبيه أيوب –عليه السلام- على صبره ، وعلى كثرة تضرعه إلى ربه ، وكيف أنه –تعالى- قد كافأه على ذلك بما يستحقه .
قال –تعالى- : [ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب . ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب ، وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ، إنا وجدناه صابرا ، نعم العبد ، إنه أواب ] .
7- ثم أثنى –سبحانه- على أنبيائه : إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وإسماعيل واليسع وذا الكفل ، وبين ما أعده لهم ولأمثالهم من عباده الأخيار ، كما بين ما توعد به الفجار من عذاب أليم . .
قال –تعالى- : [ هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب . جنات عدن مفتحة لهم الأبواب . متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب . وعندهم قاصرات الطرف أتراب . هذا ما توعدون ليوم الحساب . إن هذا لرزقنا ماله من نفاد . هذا ، وإن للطاغين لشر مآب ] .
8- ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة بالحديث عن قصة آدم وإبليس وكيف أن الملائكة جميعاً سجدوا لآدم إلا إبليس فإنه أبى واستكبر وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين . فكانت عاقبته الطرد من رحمة الله –تعالى- .
9- ومن هذا العرض المجمل لسورة " ص " نرى أنها قد اهتمت اهتماماً واضحاً ، بإقامة الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وقدرته . وعلى صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن يوم القيامة حق ، كما اهتمت بحكاية شبهات المشركين ثم الرد عليها ، كما ذكرت جانباً من قصص بعض الأنبياء ليعتبر بقصصهم كل ذي عقل سليم ، كما أنها قد اهتمت ببيان حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار . ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
سورة " ص " من السور القرآنية التى افتتحت ببعض حروف التهجى ، وقد سبق أن بينا بشئ من التفصيل آراء العلماء فى هذه المسألة ، عند تفسيرنا لسورة البقرة ، وآل عمران ، والأعراف . ويونس . .
وقلنا ما خلاصته : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة قد وردت فى بعض السور القرآنية على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن .
فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم .
فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك ، أو فى الإِتيان بعشر سور من مثله ، أو بسورة واحدة من مثله .
فعجزوا وانقلبوا خاسرين . وثبت أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - .
والواو فى قوله - تعالى - : { والقرآن ذِي الذكر } للقسم . والمقسم به القرآن الكريم . وجواب القسم محذوف ، لدلالة ما بعده عليه .
والذكر ، يطلق على الشرف ونباهة الشأن ، يقال فلان مذكور ، أى : صاحب شرف ونباهة . ومنه قوله - تعالى - : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } ويطلق وبراد به التذكير على أنه مصدر ، لأن القرآن مشتمل على المواعظ والأحكام وقصص الأنبياء . وغير ذلك مما يسعد الناس فى دينهم ودنياهم .
وهذان الإِطلاقان ينطبقان على القرآن الكريم ، فيكون المعنى : وحق القرآن الكريم ذى الشرف العظيم ، وذى التذكير الحكيم المشتمل على ما ينفع الناس فى دنياهم وآخرتهم . .
إنك - أيها الرسول لصادق فى كل ما تبلغه عن ربك ولم يصدر منك إطلاقا ما يخالف الحق الذى أمرناك بتبليغه للناس .
قال بعض العلماء ما ملخصه : اعلم أنهم اختلفوا فى تعيين الشئ الذى أقسم الله - تعالى - عليه فى قوله : { والقرآن ذِي الذكر } .
فقال بعضهم إن المقسم عليه مذكور ، وهو قوله - تعالى - : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } أو قوله - تعالى - : { إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } أو قوله - تعالى - : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } . .
والحق أن القول بأن المقسم عليه مذكور ظاهر السقوط .
وقال آخرون إن المقسم عليه محذوف ، واختلفوا فى تقديره ، فقال صاحب الكشاف : التقدير : { والقرآن ذِي الذكر } إنه لمعجز . وقدره ابن عطية فقال : والتقدير : والقرآن ذى الذكر ليس الأمر كما يقول الكفار . .
القول في تأويل قوله تعالى : { صَ وَالْقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ * بَلِ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزّةٍ وَشِقَاقٍ } .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى قول الله عزّ وجلّ : ص ، فقال بعضهم : هو من المصاداة ، من صاديت فلانا ، وهو أمر من ذلك ، كأن معناه عندهم : صادٍ بعملك القرآن : أي عارضه به ، ومن قال هذا تأويله ، فإنه يقرؤه بكسر الدال ، لأنه أمر ، وكذلك رُوي عن الحسن ذكر الرواية بذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن ص قال : حادث القرآن .
وحُدثت عن عليّ بن عاصم ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن ، في قوله : ص قال : عارض القرآن بعملك .
حدثت عن عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، في قوله : ص والقرآن قال : عارض القرآن ، قال عبد الوهاب : يقول اعرضه على عملك ، فانظر أين عملك من القرآن .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن إسماعيل ، عن الحسن أنه كان يقرأ : ص والقرآن بخفض الدال ، وكان يجعلها من المصاداة ، يقول : عارض القرآن .
وقال آخرون : هي حرف هجاء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أما ص فمن الحروف .
وقال آخرون : هو قسم أقسم الله به . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ص قال : قسم أقسمه الله ، وهو من أسماء الله .
وقال آخرون : هو اسم من أسماء القرآن أقسم الله به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ص قال : هو اسم من أسماء القرآن أقسم الله به .
وقال آخرون : معنى ذلك : صدق الله . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله : ص قال : صدق الله .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ، بسكون الدال ، فأما عبد الله بن أبي إسحاق فإنه كان يكسرها لاجتماع الساكنين ، ويجعل ذلك بمنزلة الاَداة ، كقول العرب : تركته حاثِ باثِ ، وخازِ بازِ يخفضان من أجل أن الذي يلي آخر الحروف ألف فيخفضون مع الألف ، وينصبون مع غيرها ، فيقولون حيث بيث ، ولأجعلنك في حيص بيص : إذا ضيق عليه . وأما عيسى بن عمر فكان يوفّق بين جميع ما كان قبل آخر الحروف منه ألف ، وما كان قبل آخره ياء أو واو فيفتح جميع ذلك وينصبه ، فيقول : ص وق ون ويس ، فيجعل ذلك مثل الاَداة كقولهم : ليتَ ، وأينَ وما أشبه ذلك .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا السكون في كل ذلك ، لأن ذلك القراءة التي جاءت بها قرّاء الأمصار مستفيضة فيهم ، وأنها حروف هجاء لأسماء المسميات ، فيعربن إعراب الأسماء والأدوات والأصوات ، فيسلك بهنّ مسالكهن ، فتأويلها إذ كانت كذلك تأويل نظائرها التي قد تقدم بيانناها قبل فيما مضى .
وكان بعض أهل العربية يقول : ص في معناها كقولك : وجب والله ، نزل والله ، وحقّ والله ، وهي جواب لقوله : والقُرآنِ كما تقول : حقا والله ، نزل والله .
وقوله : والقُرآنِ ذِي الذّكْرِوهذا قسم أقسمه الله تبارك وتعالى بهذا القرآن فقال : والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ذِي الذّكْرِ فقال بعضهم : معناه : ذي الشرف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : حدثنا أبو أحمد ، عن قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد ص والقُرآنِ ذِي الذّكْر قال : ذي الشرف .
حدثنا نصر بن عليّ وابن بشار ، قالا : حدثنا أبو أحمد ، عن مسعر ، عن أبي حصين ذِي الذكْرِ : ذي الشرف .
قال : ثنا أبو أحمد ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح أو غيره ذِي الذّكْرِ : ذي الشرف .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ قال : ذي الشرف .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن يحيى بن عُمارة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ص والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ ذي الشرف .
وقال بعضهم : بل معناه : ذي التذكير ، ذكّركمُ الله به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عن المسيب بن شريك ، عن أبي روق ، عن الضحاك ذِي الذّكْرِ قال : فيه ذكركم ، قال : ونظيرتها : لَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكُمْ كِتابا فِيهِ ذِكرُكُمْ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ذي الذّكْرِ : أي ما ذكر فيه .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : ذي التذكير لكم ، لأن الله أتبع ذلك قولَه : بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزّةٍ وَشِقاقٍ فكان معلوما بذلك أنه إنما أخبر عن القرآن أنه أنزله ذكرا لعباده ذكّرهم به ، وأن الكفار من الإيمان به في عزّة وشقاق .
واختلف في الذي وقع عليه اسم القسم ، فقال بعضهم وقع القسم على قوله : بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزّةٍ وَشِقاقٍ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزّةٍ قال : ها هنا وقع القسم .
وكان بعض أهل العربية يقول : «بل » دليل على تكذيبهم ، فاكتفى ببل من جواب القسم ، وكأنه قيل : ص ، ما الأمر كما قلتم ، بل أنتم في عزّة وشقاق . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : زعموا أن موضع القسم في قوله : إنْ كُلٌ إلاّ كَذّبَ الرّسُلَ . وقال بعض نحويي الكوفة : قد زعم قوم أن جواب والقُرآنِ قوله : إنّ ذلكَ لَحَقّ تَخاصُمُ أهْلِ النّارِ قال : وذلك كلام قد تأخر عن قوله : والقُرآنِ تأخرا شديدا ، وجرت بينهما قصص مختلفة ، فلا نجد ذلك مستقيما في العربية ، والله أعلم .
قال : ويقال : إن قوله : والقُرآنِ يمين اعترض كلام دون موقع جوابها ، فصار جوابها للمعترض ولليمين ، فكأنه أراد : والقرآن ذي الذكر ، لَكَمْ أهلكنا ، فلما اعترض قوله بَل الّذِينَ كَفَرُوا فِي عزّةٍ صارت كم جوابا للعزّة واليمين . قال : ومثله قوله : والشّمْسِ وضُحاها اعترض دون الجواب قوله : وَنَفْسٍ وَما سَوّاها فأَلْهَمَها فصارت قد أفلح تابعة لقوله : فألهمها ، وكفى من جواب القسم ، فكأنه قال : والشمس وضحاها لقد أفلح .
والصواب من القول في ذلك عندي ، القول الذي قاله قتادة ، وأن قوله : بَلْ لما دلّت على التكذيب وحلّت محلّ الجواب استغني بها من الجواب ، إذ عُرف المعنى ، فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك : ص والقُرآنِ ذِي الذّكْرِ ما الأمر ، كما يقول هؤلاء الكافرون : بل هم في عزّة وشقاق .
بسم الله الرحمن الرحيم { ص } وقرئ بالكسر لالتقاء الساكنين ، وقيل إنه أمر من المصاداة بمعنى المعارضة ، ومنه الصدى فإنه يعارض الصوت الأول أي عارض القرآن بعملك ، وبالفتح لذلك أو لحذف حرف القسم وإيصال فعله إليه ، أو إضماره والفتح في موضع الجر فإنها غير مصروفة لأنها علم السورة وبالجر والتنوين على تأويل الكتاب . { والقرآن ذي الذكر } الواو للقسم إن جعل { ص } اسما للحرف أو مذكور للتحدي ، أو للرمز بكلام مثل صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، أو للسورة خبر المحذوف أو لفظ الأمر ، وللعطف إن جعل مقسما به كقولهم : الله لأفعلن بالجر والجواب محذوف دل عليه ما في { ص } من الدلالة على التحدي ، أو الأمر بالمعادلة أي إنه لمعجز أو لواجب العمل به ، أو إن محمدا صادق أو قوله :{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا }
قرأ الحسن وأبي بن كعب وابن أبي إسحاق : «صادِ » بكسر الدال على أنه أمر من صادى يصادي إذا ضاهى وماثل ، أي صار كالصدى الذي يحكي الصياح ، والمعنى : ماثل القرآن بعلمك وقارنه بطاعتك ، وهكذا فسر الحسن ، أي انظر أين عملك منه ؟ ، وقال جمهور الناس : إنه حرف المعجم المعروف ، ويدخله ما يدخل سائر أوائل السور من الأقوال ، ويختص هذا الموضع بأن قال بعض الناس : معناه صدق محمد ، وقال الضحاك معناه : صدق الله ، وقال محمد بن كعب القرظي : هو مفتاح أسماء الله : صمد صادق الوعد ، صانع المصنوعات ، وقرأها الجمهور : «صادْ » بسكون الدال ، وقرأ ابن أبي إسحاق بخلاف عنه «صادٍ » بكسر الدال وتنوينها على القسم ، كما تقول : الله لأفعلن . وحكى الطبري وغيره عن ابن أبي إسحاق : «صادِ » بدون تنوين ، وألحقه بقول العرب : خاث باث ، وخار وباز . وقرأ فرقة منها عيسى بن عمر : «صادَ » بفتح الدال ، وكذلك يفعل في نطقه بكل الحروف ، يقول : قافَ ، ونونَ ، ويجعلها كأين وليت : قال الثعلبي ، وقيل معناه : صاد محمد القلوب ، بأن استمالها للإيمان .
وقوله : { والقرآن ذي الذكر } قسم . وقال السدي وابن عباس وسعيد بن جبير ، معناه ذي الشرف الباقي المخلد . وقال قتادة والضحاك : ذي التذكرة للناس والهداية لهم . وقالت فرقة معناه : ذي الذكر لأمم والقصص والغيوب . وأما جواب القسم فاختلف فيه ، فقالت فرقة : الجواب في قوله : { ص } إذ هو بمعنى صدق محمد ، أو صدق الله . وقال الكوفيون والزجاج ، الجواب قوله : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ ص : 64 ] . وقال البصريين ومنهم الأخفش ، الجواب في قوله : { إن كل كذب الرسل } [ ص : 14 ] .
قال القضي أبو محمد : وهذان القولان بعيدان .
وقال قتادة والطبري : الجواب مقدر قبل بل ، وهذا هو الصحيح ، تقديره : والقرآن ما الأمر كما يزعمون ، ونحو هذا من التقدير فتدبره .
وحكى الزجاج عن قوم أن الجواب قوله : { كم أهلكنا } وهذا متكلف جداً .
سميت في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة والآثار عن السلف { سورة صاد } كما ينطق باسم حرف الصاد تسمية لها بأول كلمة منها هي صاد { بصاد فألف فدال ساكنة سكون وقوف } شأن حروف التهجي عند التهجي بها أن تكون موقوفة ، أي ساكنة الأعجاز . وأما قول المعري يذكر سليمان عليه السلام :
وهو من سخرت له الإنس والج *** ن بما صح من شهـادة صـاد
فإنما هي كسرة القافية الساكنة تغير إلى الكسرة { لأن الكسر أصل في التخلص من السكون } كقول امرئ القيس :
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
وفي الإتقان عن كتاب جمال القراء للسخاوي : أن سورة ص تسمى أيضا سورة داود ولم يذكر سنده في ذلك .
وكتب اسمها في المصاحف بصورة حرف صاد مثل سائر الحروف المقطعة في أوائل السور اتباعا لما كتب في الصحف . وهي مكية في قول الجميع ، وذك في الإتقان أن الجعبري حكى قولا بأنها مدنية قال السيوطي : وهو خلاف حكاية جماعة الإجماع على أنها مكية . وعن الداني في كتاب العدد بأنها مدنية وقال : إنه ليس بصحيح .
وهي السورة الثامنة والثلاثون في عداد نزول السورة نزلت بعد سورة { اقتربت الساعة } وقبل سورة الأعراف .
وعدت آيها ستا وثمانين عند أهل الحجاز والشام والبصرة وعدها أيوب بن المتوكل البصري خمسا وثمانين . وعدت عند أهل الكوفة ثمانا وثمانين . روى الترمذي عن ابن عباس قال : مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وعند أبي طالب مجلس رجل ، فقام أبو جهل يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من أن يجلس وشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا بن أخي ما تريد من قومك? قال : إني أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم العجم الجزية . قال : كلمة واحدة . قال : يا عم يقولوا لا إله إلا الله فقالوا : أإلها واحدا ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاف ، قال فنزل فيهم القرآن { ص والقرءان ذي الذكر } إلى قوله { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق } قال : حديث حسن . فهذا نص في أن نزولها في آخر حياة أبي طالب وهذا المرض مرض موته كما في أبن عطية فتكون هذه الصورة قد نزلت في سنة ثلاث قبل الهجرة .
أصلها ما علمت من حديث الترمذي في سبب نزولها . وما اتصل به من توبيخ المشركين على تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكبرهم عن قبول ما أرسل به ، وتهديدهم بمثل ما حل بالأمم المكذبة قبلهم وأنهم إنما كذبوه لأنه جاء بتوحيد الله تعالى ولأنه اختص بالرسالة من دونه وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وأن يقتدي بالرسل من قبله داود وأيوب وغيرهم وما جوزوا عن صبرهم ، واستطراد الثناء على داود وسليمان وأيوب ، وأتبع ذكر أنبياء آخرين لمناسبة سنذكرها .
وإثبات البعث لحكمة جزاء العاملين بأعمالهم من خير وشر .
وجزاء المؤمنين المتقين وضده من جزاء الطاغين والذين أضلوهم وقبحوا لهم الإسلام والمسلمين .
وذكر أول غواية حصلت وأصل كل ضلالة وهي غواية الشيطان في قصة السجود لآدم . وقد جاءت فاتحتها مناسبة لجميع أغراضها إذ ابتدئت بالقسم بالقرآن الذي كذب به المشركون ، وجاء المقسم عليه أن الذين كفروا في عزة وشقاق وكل ما ذكر فيها من أحوال المكذبين سببه اعتزازهم وشقاقهم ، ومن أحوال المؤمنين سببه ضد ذلك ، مع ما في الافتتاح بالقسم من التشويق إلى ما بعده فكانت فاتحتها مستكملة خصائص حسن الابتداء .
{ ص } القول في هذا الحرف كالقول في نظائره من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل بعض السور بدون فرق أنها مقصودة للتهجِّي تحدِّياً لبلغاء العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن وتورُّكاً عليهم إذ عجزوا عنه واتفق أهل العدّ على أن { ص } ليس بآية مستقلة بل هي في مبدأ آية إلى قوله : { ذِي الذِّكرِ } وإنما لم تعد { ص } آية لأنها حرف واحد كما لم يعد { ق } [ ق : 1 ] و { ن } [ القلم : 1 ] . { والقرءان ذِي الذِّكْرِ } .
الواو للقسم أقسم بالقرآن قسَم تنويه به . ووصف ب { ذِي الذِّكر } لأن { ذي } تضاف إلى الأشياء الرفيعة فتجري على متصف مقصود التنويه به .
و { الذكر } : التذكير ، أي تذكير الناس بما هم عنه غافلون . ويجوز أن يراد بالذكر ذكر اللسان وهو على معنى : الذي يُذكر ، بالبناء للنائب ، أي والقرآن المذكور ، أي الممدوح المستحِق الثناء على أحد التفسيرين في قوله تعالى : { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم } [ الأنبياء : 10 ] أي شرفكم .
وقد تردد المفسرون في تعيين جواب القسم على أقوال سبعة أو ثمانية وأحسن ما قيل فيه هنا أحد وجهين : أولهما أن يكون محذوفاً دلّ عليه حرف { ص } فإن المقصود منه التحدّي بإعجاز القرآن وعجزهم عن معارضته بأنه كلام بلُغتهم ومؤلَّفٌ من حروفها فكيف عجزوا عن معارضته . فالتقدير : والقرآن ذي الذكر أنه لمن عند الله لهذا عجزتم عن الإِتيان بمثله .
وثانيهما : الذي أرى أن الجواب محذوف أيضاً دل عليه الإِضراب الذي في قوله : { بَلِ الذين كفروا في عزَّة وشِقَاقٍ } [ ص : 2 ] بعد أن وُصف القرآن ب { ذِي الذِّكر } ، لأن ذلك الوصف يشعر بأنه ذِكر ومُوقظ للعقول فكأنه قيل : إنه لذكر ولكن الذين كفروا في عزة وشقاق يجحدون أنه ذكر ويقولون : سِحر مفترىً وهم يعلمون أنه حق كقوله تعالى : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات اللَّه يجحدون } [ الأنعام : 33 ] ، فجواب القسم محذوف يدل عليه السياق ، وليس حرف { ص } هو المقسم عليه مقدماً على القسم ، أي ليس دليلُ الجواب من اللفظ بل من المعنى والسياق .
والغرض من حذف جواب القسم هنا الإِعراض عنه إلى ما هو أجدر بالذكر وهو صفة الذين كفروا وكذبوا القرآن عناداً أو شقاقاً منهم .