فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (106)

{ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 106 ) } .

{ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ } ، أي : تلفظ وتكلم بالكفر ، أو فعل كفر سواء كان مختارا في ذلك أو مكرها عليه فالاستثناء في قوله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } متصل .

وقال القرطبي : أجمع المفسرون وأهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، وإلا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر .

وحكى عن محمد بن الحسن أنه إذا أظهر الكفر كان مرتدا في الظاهر وفيما بينه وبين الله على الإسلام ، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات ولا يرث أباه إن مات مسلما ، وهذا القول مردود على قائله مدفوع بالكتاب والسنة .

وذهب الحسن البصري والأوزاعي والشافعي وسحنون إلى أن هذه الرخصة إنما جاءت في القول ، وإما في الفعل فلا رخصة مثل أن يكره على السجود لغير الله ، ويدفعه ظاهر الآية فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل كما تقدم ، والمعنى إلا من كفر بإكراه ، والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تغير عقيدته .

أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه : ( تفرقوا عني ، فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوة فليذهب أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرت لي الأرض فالحقوا بي ) .

فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت ، فأخذهم المشركون وأبو جهل ، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ، فجعلوا يضعون درعا من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه ، فإذا ألبسوه إياه قال أحد أحد . وأما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك . وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية ، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها ، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بأمرهم ، واشتد عليه عمار الذي كان تكلم به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف كان قلبك حين قلت ، أكان منشرحا بالذي قلت أم لا ؟ قال : لا . فأنزل الله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } ، وقيل : نزلت في أناس من أهل مكة .

وقيل : نزلت في جبر مولى عامر بن الحضرمي أكرهه سيده على الكفر ، والأول أولى ، والحق أن الآية عامة في كل من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان وإن كان السبب خاصا ، وفيه دليل على أن محل الإيمان هو القلب .

{ وَلَكِن } ، الاستدراك واضح ؛ لأن قوله إلا من أكره قد يسبق الوهم إلى الاستثناء مطلقا فاستدرك هذا ، وقوله : { مطمئن } ، لا ينفي ذلك الوهم . { مَّن } ، موصولة أو شرطية ، والأول أولى .

{ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } ، أي : اختاره ورضي به وطابت به نفسه . { فَعَلَيْهِمْ } فيه مراعاة معنى { من } ، ولو راعى لفظها لأفرد وقال : فعليه ، { غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } في الآخرة .

عن ابن عباس قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر آلهتهم بخير فتركوه ، فلما أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ما وراءك ؟ قال : شر ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، قال : كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئنا بالإيمان ، قال : ( إن عادوا فعد ) ، فنزلت { إلا من أكره } الخ ، قال : فذاك عمار بن ياسر ، ولكن من شرح بالكفر صدرا عبد الله بن أبي سرح ( 1 ) {[1065]} ، أخرجه البيهقي والحاكم وصححه ، وفي الباب روايات مصرحة بأنها نزلت فيه .

وعن محمد بن سيرين قال : نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة ، وعن ابن عباس قال : هو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتل يوم فتح مكة ، فاستجار له عثمان بن عفان ، فأجاره النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وعن الحسن عكرمة مثله ، وليس بعد هذا الوعيد العظيم وهو الجمع للمرتدين بين غضب الله وعظيم عذابه وعيد .


[1065]:المستدرك، كتاب التفسير 2 / 357.