{ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 106 ) } .
{ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ } ، أي : تلفظ وتكلم بالكفر ، أو فعل كفر سواء كان مختارا في ذلك أو مكرها عليه فالاستثناء في قوله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } متصل .
وقال القرطبي : أجمع المفسرون وأهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، وإلا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر .
وحكى عن محمد بن الحسن أنه إذا أظهر الكفر كان مرتدا في الظاهر وفيما بينه وبين الله على الإسلام ، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات ولا يرث أباه إن مات مسلما ، وهذا القول مردود على قائله مدفوع بالكتاب والسنة .
وذهب الحسن البصري والأوزاعي والشافعي وسحنون إلى أن هذه الرخصة إنما جاءت في القول ، وإما في الفعل فلا رخصة مثل أن يكره على السجود لغير الله ، ويدفعه ظاهر الآية فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل كما تقدم ، والمعنى إلا من كفر بإكراه ، والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تغير عقيدته .
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه : ( تفرقوا عني ، فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوة فليذهب أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرت لي الأرض فالحقوا بي ) .
فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت ، فأخذهم المشركون وأبو جهل ، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ، فجعلوا يضعون درعا من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه ، فإذا ألبسوه إياه قال أحد أحد . وأما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك . وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية ، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها ، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بأمرهم ، واشتد عليه عمار الذي كان تكلم به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف كان قلبك حين قلت ، أكان منشرحا بالذي قلت أم لا ؟ قال : لا . فأنزل الله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } ، وقيل : نزلت في أناس من أهل مكة .
وقيل : نزلت في جبر مولى عامر بن الحضرمي أكرهه سيده على الكفر ، والأول أولى ، والحق أن الآية عامة في كل من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان وإن كان السبب خاصا ، وفيه دليل على أن محل الإيمان هو القلب .
{ وَلَكِن } ، الاستدراك واضح ؛ لأن قوله إلا من أكره قد يسبق الوهم إلى الاستثناء مطلقا فاستدرك هذا ، وقوله : { مطمئن } ، لا ينفي ذلك الوهم . { مَّن } ، موصولة أو شرطية ، والأول أولى .
{ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } ، أي : اختاره ورضي به وطابت به نفسه . { فَعَلَيْهِمْ } فيه مراعاة معنى { من } ، ولو راعى لفظها لأفرد وقال : فعليه ، { غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } في الآخرة .
عن ابن عباس قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر آلهتهم بخير فتركوه ، فلما أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ما وراءك ؟ قال : شر ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، قال : كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئنا بالإيمان ، قال : ( إن عادوا فعد ) ، فنزلت { إلا من أكره } الخ ، قال : فذاك عمار بن ياسر ، ولكن من شرح بالكفر صدرا عبد الله بن أبي سرح ( 1 ) {[1065]} ، أخرجه البيهقي والحاكم وصححه ، وفي الباب روايات مصرحة بأنها نزلت فيه .
وعن محمد بن سيرين قال : نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة ، وعن ابن عباس قال : هو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتل يوم فتح مكة ، فاستجار له عثمان بن عفان ، فأجاره النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وعن الحسن عكرمة مثله ، وليس بعد هذا الوعيد العظيم وهو الجمع للمرتدين بين غضب الله وعظيم عذابه وعيد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.