فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ} (30)

ولما ذكر سبحانه حكم الاستئذان أتبعه بذكر حكم النظر على العموم فقال :

{ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } فيندرج تحته غض البصر من المستأذن كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنما جعل الإذن من أجل البصر ) {[1286]} ، وخص المؤمنين مع تحريمه على غيرهم لكون قطع ذرائع الزنا التي منها النظر هم أحق بها من غيرهم ، وأولى بذلك ممن سواهم ، وقيل : إن في الآية دليلا على أن الكفار غير مخاطبين بالشرعيات كما يقوله بعض أهل العلم ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : قل للمؤمنين غضوا يغضوا ، ومعنى غض البصر إطباق الجفن على العين بحيث يمنع الرؤية ، و { من } هي التبعيضية ، وإليه ذهب الأكثرون وعليه اقتصر القاضي كالكشاف ، وبينوه بأن المعنى غض البصر عما يحرم ، والاقتصار به على ما يحل .

وقيل وجه التبعيض أنه يعفى للناظر ، أول نظرة تقع من غير قصد ، وقال الأخفش : إنها زائدة ، وأنكر ذلك سيبويه . وقيل : إنها لبيان الجنس قاله أبو البقاء ، واعتراض عليه بأنه لم يتقدم مبهم حتى يكون مفسرا ب { من } وقيل إنها لابتداء الغاية ، قاله ابن عطية ، وعليه اقتصر أبو حيان في النهر ، وقيل : الغض : النقصان ، يقال . غض فلان من فلان ، أي : وضع منه . فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو مغضوض منه ، ومنقوص ، فتكون { من } صلة للغض ، وليست لمعنى من تلك المعاني الأربعة ، وفي هذه الآية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحل النظر إليه .

قال ابن عباس : يغضوا أبصارهم يعني . من شهواتهم ، مما يكره الله . وأخرج أبو داود ، والترمذي ، والبيهقي في سننه ، عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك الأخرى " {[1287]} .

وفي مسلم ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، عن جرير البجلي قال . سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف{[1288]} . وفي الصحيحين ؛ وغيرهما ؛ من حديث أبي سعيد قال . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " إياكم والجلوس على الطرقات " !قالوا :يارسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها ؛فقال : " إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه " . قالوا : وما حقه يا رسول الله ؟ قال : " غض البصر ؛ وكف الأذى ؛ ورد السلام ؛ والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر " {[1289]} .

{ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } أي يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم ولا يحل لهم . وقيل المراد ستر فروجهم عن أن يراها من لا تحل له رؤيتها ، ولا مانع من إرادة المعنيين ، فالكل يدخل تحت حفظ الفرج ، وقيل وجه المجيء بمن في الأبصار دون الفروج أنه موسع في النظر فإنه لا يحرم منه إلا ما استثنى ، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن ؟ وكذا الإماء المستعرضات للبيع بخلاف حفظ الفرج ، فإنه مضيق فيه . فإنه لا يحل منه إلا ما استثنى .

وقيل الوجه أن غض البصر كلّه كالمعتذر ، بخلاف حفظ الفرج ، فإنه ممكن على الإطلاق قال أبو العالية : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا ما في هذا الموضع فإنه أراد به الإستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه .

{ ذَلِكَ } أي ما ذكر من الغض والحفظ { أَزْكَى } أي أطهر { لَهُمْ } من دنس الريبة ، وأطيب من التلبس بهذه الدنيئة { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } لا يخفى عليه شيء من صنعهم ، فيجازيهم عليه ، وفي ذلك وعيد لمن لم يغض بصره ويحفظ فرجه .


[1286]:مسلم 2156 ـ البخاري 2300.
[1287]:أبو داوود كتاب النكاح باب 43 ـ الترمذي كتاب الأدب 28.
[1288]:مسلم 2159 ـ الترمذي كتاب الأدب باب 28.
[1289]:مسلم 2121 ـ البخاري 1217.