فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٞۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٞ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخۡوَةٞ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (11)

{ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساءا فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آبائكم وأبنائكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ( 11 ) } .

{ يوصيكم الله في أولادكم } هذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } من أحكام المواريث ، وقد استدل بذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهذه الآية بطولها ركن من أركان الدين وعمدة من عمد الأحكام ، وأم من أمهات الآيات لاشتمالها على ما يهم من علم الفرائض ، وقد كان هذا العلم من أجل علوم الصحابة رضي الله عنهم وأكثر مناظراتهم فيه ، وسيأتي بعد كمال تفسير ما اشتمل عليه كلام الله من الفرائض ، ذكر بعد فرائض هذا العلم إن شاء الله تعالى .

وبدأ بالأولاد لأنهم أقرب الورثة إلى الميت وأكثر بقاء بعد المورث ، والمراد بالوصية في الأولاد الوصية في شأن ميراثهم ، وقد اختلفوا هل يدخل أولاد الأولاد أم لا ؟ فقالت الشافعية إنهم يدخلون مجازا لا حقيقة ، وقالت الحنفية : إنه يتناولهم لفظ الأولاد حقيقة إذا لم يوجد أولاد الصلب .

ولا خلاف أن بني البنين كالبنين في الميراث مع عدمهم ، وإنما هذا الخلاف في دلالة لفظ الأولاد على أولادهم مع عدمهم ، ويدخل في لفظ الأولاد من كان منهم كافرا ويخرج بالسنة ، وكذلك يدخل القاتل عمدا ويخرج أيضا بالسنة والإجماع ، ويدخل فيه الخنثى .

قال القرطبي : وأجمع العلماء أنه يورث من حيث يبول ، فإن بال منهما فمن حيث سبق ، فإن خرج البول منها من غير سبق أحدهما فله نصف نصيب الذكر ، ونصف نصيب الأنثى ، وقيل يعطي أقل النصيبين وهو نصيب الأنثى ، قال يحيى ابن آدم ، وهو قول للشافعي .

وهذه الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من الموارثة بالحلف والهجرة والمعاقدة ، وقد أجمع العلماء على أنه إذا كان مع الأولاد من له فرض مسمى أعطيه وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين للحديث الثابت في الصحيح وغيرهما بلفظ ( ألحقوا الفرائض فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ) إلا إذا كان ساقطا معهم كالإخوة لأم . {[414]}

{ للذكر مثل حظ الأنثيين } جملة مستأنفة لبيان الوصية في الأولاد ، فلا بد من تقدير ضمير يرجع إليهم أي يوصيكم الله في أولادكم للذكر منهم مثل حظ الأنثيين ، والمراد حال اجتماع الذكور والإناث ، وأما حال الإنفراد فللذكر جميع الميراث وللأنثى النصف وللأنثيين الثلثان . {[415]}

وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه لأن القصد إلى بيان فضله والتنبيه على أن التضعيف كاف في التفضيل فلا يحرمن بالكلية وقد اشتركا في الجهة ، وإن فائدة التعصيب أن العاصب إذا انفرد حاز المال كله .

{ فإن كن } الأولاد المتروكات والتأنيث باعتبار الخبر أو البنات أو المولودات { نساء } ليس معهن ذكر { فوق اثنتين } أي زائدات على إثنتين على أن فوق صفة لنساء أو يكون خبرا ثانيا لكان { فلهن ثلثا ما ترك } الميت المدلول عليه بقرينة المقام .

وظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعدا ، ولم يسم للأنثيين فريضة ، ولهذا اختلف أهل العلم في فريضتهما ، فذهب الجمهور إلى أن لهما إذا انفردتا عن البنين الثلثين ، وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف .

احتج الجمهور بالقياس على الأختين فإن الله سبحانه قال في شأنهما فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين كما ألحقوا الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين .

وقيل في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث كان للابنتين إذا انفردتا الثلثان ، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد ، قال النحاس : وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين .

وأيضا للمخالف أن يقول إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف ، فهذا دليل على أن هذا فرضهما ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة النصف إذا انفردت بقوله { وإن كانت واحدة فلها النصف } كان فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة ، وأوجب القياس على الأختين الإقتصار للبنتين على الثلثين .

وقيل : إن فوق زائدة والمعنى إن كن نساء اثنتين كقوله تعالى { فاضربوا فوق الأعناق } أي الأعناق ، ورد هذا النحاس وابن عطية فقالا : هو خطأ لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزداد لغير معنى وقال ابن عطية : ولأن قوله { فوق الأعناق } هو الفصيح ، وليس فوق زائدة بل هي محكمة المعنى ، لأن ضربة العنق إنما يجب أن يكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ كما قال دريد بن الصمة : اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم ، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال انتهى .

وأيضا لو كان لفظ فوق زائدا كما قالوا فلهما ثلثا ما ترك ولم يقل فلهن ثلثا ما ترك .

وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقي في سننه عن جابر قال جاءت امرأة سعد ابن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ، ولا تنكحان إلا ولهما مال ، فقال : يقضي الله في ذلك ، فأنزلت آية الميراث { يوصيكم الله في أولادكم } الآية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال : أعطي ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن ، وما بقي فهو لك ، أخرجوه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال الترمذي ولا يعرف إلا من حديثه{[416]} .

{ وإن كانت واحدة } قرئ بالرفع على أن كان تامة بمعنى فإن وجدت بنت واحدة ، وقرئ بالنصب ، قال النحاس : وهذه قراءة حسنة أي وإن كانت أي المتروكة أو المولودة واحدة { فلها النصف } يعني فرضا لها .

{ ولأبويه } أي الميت وهو كناية عن غير مذكور ، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه والمراد بالأبوين الأب والأم والتثنية على لفظ الأب للتغليب ، وهذا شروع في إرث الأصول { لكل واحد منهما السدس مما ترك } بدل من لأبويه بتكرير العامل ، قاله الزمخشري ، وفائدة هذا البدل أنه لو قيل ولأبويه السدس لكان ظاهرها اشتراكهما فيه ، ولو قيل لأبويه السدسان لأوهم قسمة السدسين عليهما بالسوية وعلى خلافها .

وقد اختلف العلماء في الجد هل هو بمنزلة الأب فيسقط به الأخوة أم لا ؟ فذهب أبو بكر الصديق إلى أنه بمنزلة الأب ، ولم يخالفه أحد من الصحابة أيام خلافته ، واختلفوا في ذلك بعد وفاته فقال بقول أبي بكر : ابن عباس وعبد الله ابن الزبير وعائشة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة وعطاء وطاوس والحسن وقتادة وأبو حنيفة وأبو ثور وإسحق ، واحتجوا بمثل قوله تعالى { ملة أبيكم إبراهيم } وقوله { يا بني آدم } وقوله صلى الله عليه وسلم إرموا يا بني إسماعيل .

وذهب علي ابن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريث الجد مع الأخوة لأبوين أو لأب ولا ينقص معهم من الثلث ولا ينقص مع ذوي الفروض من السدس في قول زيد ومالك والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي ، وقيل يشرك بين الجد والأخوة إلى السدس ولا ينقصه من السدس شيئا مع ذوي الفروض وغيرهم ، وهو قول ابن أبي ليلي وطائفة .

وذهب الجمهور على أن الجد يسقط بني الأخوة ، وروى الشعبي عن علي أنه أجرى بني الأخوة في المقاسمة مجرى الأخوة .

وأجمع العلماء أن للجدة السدس إذا لم تكن للميت أم ، وأجمعوا على أنها ساقطة مع وجود الأم ، وأجمعوا على أن الأب لا يسقط الجدة أم الأم .

واختلفوا في توريث الجدة وابنها حي ، فروى عن زيد ابن ثابت وعثمان وعلي أنها لا ترث وابنها حي ، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ، وروى عن عمر وابن مسعود وأبي موسى أنها ترث معه ، وروى أيضا عن علي وعثمان وبه قال شريح وأحمد وإسحق وابن المنذر .

{ إن كان له ولد } الولد يقع على الذكر والأنثى لكنه إذا كان الموجود الذكر مع الأولاد وحده أو مع الأنثى منهم فليس للجد إلا الثلث ، وإن كان الموجود أنثى كان للجد السدس بالفرض وهو عصبة فيما عدا السدس وأولاد ابن الميت كأولاد الميت .

{ فإن لم يكن له ولد } ولا ولد ابن لما تقدم من الإجماع { وورثه أبواه } منفردين عن سائر الورثة أو مع زوج { فلأمة الثلث } أي ثلث المال كما ذهب إليه الجمهور من أن الأم لا تأخذ ثلث التركة إلا إذا لم يكن للميت وارث غير الأبوين ، أما لو كان معهما أحد الزوجين فليس للأم إلا ثلث الباقي بعد الموجودين من الزوجين .

وروى عن ابن عباس أن للأم ثلث الأصل مع أحد الزوجين وهو يستلزم تفضيل الأم على الأب في مسألة زوج وأبوين مع الاتفاق على أنه أفضل منها عند انفرادهما عن أحد الزوجين .

{ فإن كان له إخوة } يعني ذكورا أو إناثا اثنين فصاعدا { فلأمه السدس } يعني لأم الميت سدس التركة إذا كان معها أب ، وإطلاق الإخوة يدل على أنه لا فرق بين الإخوة لأبوين أو لأحدهما ، وقد أجمع أهل العلم على أن الاثنين من الإخوة يقومان مقام الثلاثة فصاعدا في حجب الأم السدس إلا ما يروي عن ابن عباس أنه جعل الاثنين كالواحد في عدم الحجب ، وأجمعوا أيضا أن الأختين فصاعدا كالأخوين في حجب الأم .

{ من بعد وصية يوصي بها أو دين } يعني أن هذه الأنصبة والسهام إنما تقسم بعد قضاء الدين وإنفاذ وصية الميت في ثلثه ، قرئ يوصى بفتح الصاد وبكسرها واختار الكسر أبو عبيد وأبو حاتم ، لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا .

واختلف في وجه تقديم الوصية على الدين مع كونه مقدما عليها بالإجماع فقيل المقصود تقديم الأمرين على الميراث من غير قصد إلى الترتيب بينهما ، وقيل لما كانت الوصية أقل لزوما من الدين قدمت اهتماما بها ، وقيل قدمت لكثرة وقوعها فصارت كالأمر اللازم لكل ميت وقيل قدمت لكونها حظ المساكين والفقراء ، وأخر الدين لكونه حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان .

وقيل لما كانت الوصية ناشئة من جهة الميت قدمت بخلاف الدين فإنه ثابت مؤدى ذكر أو لم يذكر ، وقيل قدمت لكونها تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض ، فربما يشق على الورثة إخراجها بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة بأدائه ، وهذه الوصية مقيدة بقوله { غير مضار } كما سيأتي .

وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وغيرهم عن علي قال : إنكم تقرءون هذه الآية من بعد وصية يوصي بها أو دين وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية ، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات .

{ آباؤكم وأبناؤكم } قيل خبره مقدر أي هم المقسوم عليهم أو خبره { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } أي نفعه في الدعاء لكم والصدقة عنكم كما في الحديث الصحيح " أو ولد صالح يدعو له " {[417]} وقال ابن عباس والحسن قد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه .

وقال بعض المفسرين إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله أن يرفع إليه أباه ، وإذا كان الأب أرفع درجة من ابنه سأل الله أن يرفع ابنه إليه ، وقيل المراد النفع بالدنيا قاله ابن زيد .

وقيل المعنى أنكم لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم أمن وصى منهم فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا أو من ترك الوصية فهو أقرب لكم نفعا أو من ترك الوصية ووفر عليكم عرض الدنيا ، وقوى هذا صاحب الكشاف قال لأن الجملة اعتراضية ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه ويناسبه .

{ فريضة من الله } نصب على المصدر المؤكد ، قيل على الحال ، والأول أولى ، والمعنى ما قدر من المواريث لأهلها فريضة واجبة { إن الله كان عليما } بقسمة المواريث { حكيما } حكم بقسمتها وبينها لأهلها ، وقال الزجاج : عليما بالأشياء قبل خلقها ، حكيما فيما يقدره ويمضيه منها .


[414]:إنما زاد نصيب الرجل في الميراث لما يجب عليه من الأعباء كالمهر والنفقة.
[415]:مسلم1615 البخاري2496.
[416]:المستدرك كتاب الفرائض 4/334.
[417]:صحيح الجامع الصغير805.