فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الإخلاص

وهي أربع آيات وهي مكية في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر ، ومدينة في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسديّ ، وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير وابن خزيمة وابن أبي عاصم في السنة والبغوي في معجمه وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبيّ بن كعب «أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد انسب لنا ربك ، فأنزل الله { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد } الخ ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وإن الله لا يموت ولا يورث { ولم يكن له كفواً أحد } قال : لم يكن له شبيه ولا عدل ، وليس كمثله شيء » ، ورواه الترمذي من طريق أخرى عن أبي العالية مرسلاً ولم يذكر أبيا ، ثم قال : وهذا أصح . وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي عن جابر قال : «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : انسب لنا ربك ، فأنزل الله { قل هو الله أحد } إلى آخر السورة » وحسن السيوطي إسناده . وأخرج الطبراني وأبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود قال : «قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربك فنزلت هذه السورة { قل هو الله أحد } » . وأخرج ابن أبي حاتم وابن عدي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس «أن اليهود جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ، فقالوا : يا محمد صف لنا ربك الذي بعثك ، فأنزل الله { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد } فيخرج منه الولد . ولم يولد ، فيخرج منه شيء » . وأخرج أبو عبيد في فضائله وأحمد والنسائي في اليوم والليلة وابن منيع ومحمد بن نصر وابن مردويه والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ { قل هو الله أحد } فكأنما قرأ ثلث القرآن » ، وأخرج ابن الضريس والبزار والبيهقي في الشعب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : «من قرأ { قل هو الله أحد } مائتي مرة غفر الله له ذنب مائتي سنة » . قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا الحسن بن أبي جعفر والأغلب بن تميم ، وهما يتقاربان في سوء الحفظ . وأخرج أحمد والترمذي وابن الضريس والبيهقي في سننه عن أنس قال : «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أحبّ هذه السورة { قل هو الله أحد } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حبك أياها أدخلك الجنة » . وأخرج ابن الضريس وأبو يعلى وابن الأنباري في المصاحف عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «أما يستطيع أحدكم أن يقرأ { قل هو الله أحد } ثلاث مرات في ليلة ؟ فأنها تعدل ثلث القرآن » وإسناده ضعيف . وأخرج محمد بن نصر وأبو يعلى عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من قرأ { قل هو الله أحد } خمسين مرة غفر له ذنوب خمسين سنة » وإسناده ضعيف . وأخرج الترمذي وابن عديّ والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ { قل هو الله أحد } مائتي مرة ، كتب الله له ألفاً وخمسمائة حسنة ، ومحا عنه ذنوب خمسين سنة ، إلا أن يكون عليه دين » وفي إسناده حاتم بن ميمون ضعفه البخاري وغيره ، ولفظ الترمذي «من قرأ في يوم مائتي مرة { قل هو الله أحد } مُحي عنه ذنوب خمسين سنة ، إلا أن يكون عليه دين » ، وفي إسناده حاتم بن ميمون المذكور . وأخرج الترمذيّ ومحمد بن نصر وأبو يعلى وابن عديّ والبيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أراد أن ينام على فراشه من الليل فنام على يمينه ، ثم قرأ { قل هو الله أحد } مائة مرة ، فإذا كان يوم القيامة يقول له الرب : يا عبدي ادخل على يمينك الجنة » وفي إسناده أيضاً حاتم بن ميمون المذكور . قال الترمذي بعد إخراجه : غريب من حديث ثابت . وقد روي من غير هذا الوجه عنه . وأخرج ابن سعيد وابن الضريس وأبو يعلى والبيهقي في الدلائل عن أنس قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم بالشام ، وفي لفظ : بتبوك فهبط جبريل فقال : يا محمد إن معاوية بن معاوية المزني هلك ، أفتحب أن تصلي عليه ؟ قال : نعم ، فضرب بجناحه الأرض فتضعضع له كل شيء ولزق بالأرض ورفع له سريره فصلّى عليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من أي شيء أوتي معاوية هذا الفضل ، صلّى عليه صفان من الملائكة في كل صف ستة آلاف ملك ؟ قال : بقراءة { قل هو الله أحد } كان يقرأها قائماً وقاعداً وجائياً وذاهباً ونائماً » ، وفي إسناده العلاء بن محمد الثقفي وهو متهم بالوضع . وروي عنه من وجه آخر بأطول من هذا ، وفي إسناده هذا المتهم . وفي الباب أحاديث في هذا المعنى وغيره . وقد روي من غير الوجه أنها تعدل ثلث القرآن ، وفيها ما هو صحيح وفيها ما هو حسن ، فمن ذلك ما أخرجه مسلم والترمذي وصححه وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن ، فحشد من حشد ، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ { قل هو الله أحد } ثم دخل ، فقال بعضنا لبعض : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن ، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني قلت سأقرأ عليكم ثلث القرءان ألا وإنها تعدل ثلث القرآن » . وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن » يعني { قل هو الله أحد } . وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ؟ فشق ذلك عليهم وقالوا : أينا يطيق ذلك ؟ فقال : الله الواحد الصمد ثلث القرآن » . وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي الدرداء نحوه . وقد روي نحو هذا بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة وحديث ابن مسعود ، وحديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وروي نحو هذا عن غير هؤلاء بأسانيد بعضها حسن وبعضها ضعيف ، ولو لم يرد في فضل هذه السورة إلا حديث عائشة عند البخاري ومسلم وغيرهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً في سرية ، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب{ قل هو الله أحد } ، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : سلوه لأي شيء يصنع ذلك ؟ فسألوه فقال : لأنها صفة الرحمن وأنا أحبّ أن أقرأ بها ، فقال : أخبروه أن الله تعالى يحبه » هذا لفظ البخاري في كتاب التوحيد . وأخرج البخاري أيضاً في كتاب الصلاة من حديث أنس قال { كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء ، فكان كلما افتتح سورة فقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح { قل هو الله أحد } حتى يفرغ منها ، ثم يقرأ سورة أخرى معها ، وكان يصنع ذلك في كل ركعة ، فكلمه أصحابه فقالوا : إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى ، فإما أن تقرأ بها وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى . قال : ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت ، وإن كرهتم تركتكم ، وكانوا يرون أنه من أفضلهم فكرهوا أن يؤمهم غيره ، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر ، فقال : يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة ؟ فقال : إني أحبها ، قال : حبك إياها أدخلك الجنة » وقد روي بهذا اللفظ من غير وجه عند غير البخاري .

قوله : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } الضمير يجوز أن يكون عائداً إلى ما يفهم من السياق لما قدمنا من بيان سبب النزول ، وأن المشركين قالوا : يا محمد انسب لنا ربك ، فيكون مبتدأ ، والله مبتدأ ثان ، و { أحد } خبر المبتدأ الثاني ، والجملة خبر المبتدأ الأوّل ، ويجوز أن يكون { الله } بدلاً من { هو } ، والخبر { أحد } . ويجوز أن يكون الله خبراً أوّلاً ، و { أحد } خبراً ثانياً ، ويجوز أن يكون { أحد } خبراً لمبتدأ محذوف : أي هو أحد . ويجوز أن يكون { هو } ضمير شأن لأنه موضع تعظيم ، والجملة بعده مفسرة له وخبر عنه ، والأوّل أولى . قال الزجاج : هو كناية عن ذكر الله ، والمعنى : إن سألتم تبيين نسبته { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } . قيل : وهمزة { أحد } بدل من الواو ، وأصله واحد . وقال أبو البقاء : همزة { أحد } أصل بنفسها غير مقلوبة ، وذكر أن أحد يفيد العموم دون واحد . ومما يفيد الفرق بينهما ما قاله الأزهري : أنه لا يوصف بالأحدية غير الله تعالى ، لا يقال رجل أحد ولا درهم أحد ، كما يقال رجل واحد ودرهم واحد . قيل : والواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل فيه فإذا قلت لا يقاومه واحد جاز أن يقال لكنه يقاومه اثنان بخلاف قولك لا يقاومه أحد . وفرّق ثعلب بين واحد وبين أحد بأن الواحد يدخل في العدد ، وأحد لا يدخل فيه . وردّ عليه أبو حيان بأنه يقال أحد وعشرون ونحوه فقد دخله العدد ، وهذا كما ترى ، ومن جملة القائلين بالقلب الخليل . قرأ الجمهور : { قل هو الله أحد } بإثبات { قل } . وقرأ عبد الله بن مسعود وأبيّ : ( الله أحد ) بدون { قل } . وقرأ الأعمش : ( قل هو الله الواحد ) وقرأ الجمهور : بتنوين { أَحَدٌ } ، وهو : الأصل . وقرأ زيد بن عليّ وأبان بن عثمان وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السماك وأبو عمرو في رواية عنه بحذف التنوين للخفة ، كما في قول الشاعر :

عمرو الذي هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنتون عجاف

وقيل : إن ترك التنوين لملاقاته لام التعريف ، فيكون الترك لأجل الفرار من التقاء الساكنين . ويجاب عنه بأن الفرار من التقاء الساكنين قد حصل مع التنوين بتحريك الأوّل منهما بالكسر .

/خ4