اتل : اقرأ القرآن تقربا إلى الله بقراءته ، واستكشافا لمعانيه .
وأقم الصلاة : أدّها في وقتها بخشوعها وكمال أركانها ، وحضور القلب والتقرب إلى الله تعالى .
تنهى عن الفحشاء والمنكر : تكون سببا في البعد عن المعاصي ، والقبيح السيئ الذي ينكره العقل والشرع ، لأن المصلي يناجي ربه ، ويتقرب إليه مخلصا تائبا راغبا راهبا ؛ فيخلع الله عليه أنواره وهدايته وتوفيقه .
45-{ اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون }
اقرأ يا محمد القرآن الكريم ، ففيه التشريع والهداية ، والحلال والحرام ، والآداب ومكارم الأخلاق ، فاقرأ القرآن ، وبلغ أمتك قراءة القرآن ، والتهجد به والعمل بأحكامه ، فقارئ القرآن يأجره الله عن كل حرف عشر حسنات ، وتشهد الملائكة تلاوته .
حافظ على إقامة الصلاة كاملة الأركان ، مستوفاة الخشوع والخضوع ، وحضور القلب ، ومراقبة الله بأن المصلى مناج ربه فليستحضر عظمته .
{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . . }
إن مداومة الصلاة مع الإخلاص والخشوع ، والخشية من الله وتدبر القراءة ، وتأمل عظمة الخالق ومناجاته ، والانشغال بذكره وتعظيمه ، وتسبيحه وحمده ، من شأن ذلك أن يتبعه نور وهداية ومعونة ، وتوفيق من الله للعبد ، فتراه عازفا عن الفحشاء والمنكر ، مبتعدا عن الكبائر والموبقات .
إن الصلاة فيها ثلاث خصال : الإخلاص ، والخشية ، وذكر الله .
فالإخلاص يأمر بالمعروف ، والخشية تنهاه عن المنكر ، وذكر الله -القرآن- يأمره وينهاه ، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخصال فليس صلاة .
أي : تذكرك عظمة الله ، وذكر الله بلسانك وقلبك في الصلاة أكبر وأعظم ، أو إذا ذكرت الله ذكرك الله ، فذكره لك أكبر وأعظم .
وفي الحديث القدسي : ( من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه )18 .
فالمصلي والمؤمن الذي يذكر الله في حياته وصلاته ، ونهاره وليله ، ويقظته ونومه ، وبيعه وشرائه ، هذا الذكر أكبر من كل شيء في الدنيا .
قال تعالى : { والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما } [ الأحزاب : 35 ] .
وقال سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا* وسبحوه بكرة وأصيلا* هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما* تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما } [ الأحزاب : 41-44 ] .
الله تعالى مطلع وشاهد لأعمالكم وسيجازيكم عليها ، وفي الحديث الشريف : ( والذي نفس محمد بيده لتموتن كما تنامون ، ولتبعثن كما تستيقظون ، ولتحاسبن على ما تعملون ، ولتجزون بالإحسان إحسانا ، وبالسوء سوءا ، وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا ) .
روى ابن أبي حاتم عن عمران بن حصين قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . . } فقال : ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزد بها من الله إلا بعدا )19 .
وروى الحافظ أبو بكر البزار ، قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : ( إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق ، قال : " إنه سينهاه ما تقول " )20 .
وتشتمل الصلاة أيضا على ذكر الله تعالى ، وهو المطلوب الأكبر ، ولهذا قال تعالى :
{ ولذكر الله أكبر . . } أي : أعظم من الأول .
أي : يعلم جميع أعمالكم وأقوالكم .
وعن ابن عباس في قوله تعالى : { ولذكر الله أكبر . . } يقول : ولذكر الله لعباده أكبر-إذا ذكروه- من ذكرهم إياه21 .
وعن عبد الله بن ربيعة قال : قال لي ابن عباس : هل تدري ما قوله تعالى : { ولذكر الله أكبر . . ؟ قلت : نعم ، قال : فما هو ؟ قلت : التسبيح والتحميد في الصلاة وقراءة القرآن ونحو ذلك ، قال : لقد قلت قولا عجيبا ، وما هو كذلك ، ولكنه إنما يقول : ذكر الله إياكم عند ما أمر به أو نهى عنه ، إذا ذكرتموه ، أكبر من ذكركم إياه .
وقد روى هذا من غير وجه ، عن ابن عباس ، واختاره ابن جرير22 .
تم بحمد الله تعالى تفسير الجزء العشرين ، والحمد لله ، له الحمد في الأولى والآخرة ، اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت ضياء السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن ، يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
قوله تعالى : { اتل ما أوحي إليك من الكتاب } يعني القرآن ، { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } الفحشاء : ما قبح من الأعمال ، والمنكر : ما لا يعرف في الشرع . قال ابن مسعود ، وابن عباس : في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله ، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ، ولم تنهه عن المنكر ، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً . وقال الحسن ، وقتادة : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه . وروي عن أنس قال : " كان فتىً من الأنصار يصلي الصلوات الخمس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه ، فوصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاله فقال : إن صلاته تنهاه يوماً ، فلم يلبث أن تاب وحسن حاله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم أل كم إن لاته تنهاه يوما " ؟ وقال ابن عون : معنى الآية : إن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها . وقيل : أراد بالصلاة القرآن ، كما قال تعالى : { ولا تجهر بصلاتك } أي : بقراءتك ، وقيل أراد أنه يقرأ القرآن في الصلاة ، فالقرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، أنبأنا علي بن الجعد ، أنبأنا قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : " إن رجلاً يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق ، قال : ستنهاه قراءته " . وفي رواية قيل : " يا رسول الله إن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل ، فقال : إن صلاته لتردعه " . قوله عز وجل : { ولذكر الله أكبر } أي : ذكر الله أفضل الطاعات .
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري ، أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ببغداد ، أنبأنا أبو علي الحسين بن صفوان البردعي ، أنبأنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا ، أنبأنا هارون بن معروف ، أنبأنا أبو علي الضرير ، أنبأنا أنس بن عياض ، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عباس ، عن أبي مخرمة ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لمن من أن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى قال ذكر الله " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنبأنا حميد بن زنجويه ، أنبأنا أبو الأسود ، أنبأنا ابن لهيعة عن دراج ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العباد أفضل درجةً عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات قيل : يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر و يختضب دماً ، لكان الذاكر لله كثيراً أفضل منه درجة " . وروينا " أن أعرابياً قال : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج القشيري ، أنبأنا أمية بن بسطام العبسي ، أنبأنا يزيد بن زريع ، أنبأنا روح بن القاسم ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان ، فقال : جيروا ، هذا جمدان ، سبق المفردون ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيراً والذاكرات " .
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا خلاد بن أسلم ، حدثنا النضر ، أنبأنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت الأغر قال أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده " . وقال قوم معنى قوله : ( ولذكر الله أكبر ) أي : ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه . ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ويروى ذلك مرفوعاً عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عطاء في قوله : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ، قال : ولذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية . { والله يعلم ما تصنعون } قال عطاء : يريد لا يخفى عليه شيء .