{ فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } .
فلما قضينا عليه الموت : حكمنا عليه بأن مات .
منسأته : عصاه لأنه ينسأ بها أي يطرد ويزجر .
يعلمون الغيب : كما زعموا لعلموا بموته .
العذاب المهين : الأعمال الشاقة التي كلفوا بها لظنهم حياته .
أي جمع الله لسليمان النبوة والملك ، وتسخير الرياح وتسخير الجن ونبع النحاس من عين كالماء وسخر الله الجن لسليمان تعمل له التماثيل والمحاريب والقصاع الكبيرة والقدور الجميلة الكبيرة الراسية على الأثافي وقيل لهم : الزموا شكر الله على هذه النعم ومع كل هذه النعم فقد مات سليمان متكئا على عصاه والجن مستمرة في العمل الشاق ونزل الموت بسليمان واستمرت الجن حتى أمت عملها ثم أكلت الأرضة من عصا سليمان فخر ساقطا على الأرض فظهر جليا للإنس وللجميع أن الجن لا تعلم الغيب وأن الغيب لا يعلمه إلا الله ولو كانت الجن تعلم الغيب ما ملكت في العذاب المهين عاملة ناصبة في البناء والتشييد .
وذكر القرطبي عن ابن عباس مرفوعا أن سليمان نحت عصا الخرنوبة فتوكأ عليها حولا لا يعلمون فسقطت فعلم الإنسي أن الجن لا يعلمون الغيب فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سنة .
وليس لدينا خبر صحيح نطمئن إليه في تحديد المدة التي قضاها سليمان ميتا والجن تعمل بين يديه فتكتفي بما أشار إليه القرآن من أنه مكث فترة ما ميتا والجن عاملة ناص به لا تعلم بموته حتى أكلت الأرضة عصاه فوقع على الأرض فعلمت الجن بموته .
ولما كان ربما استبعد موت من هو على هذه الصفة من ضخامة الملك بنفوذ الأمر وسعة الحال وكثرة الجنود ، أشار إلى سهولته بقرب زمنه وسرعة إيقاعه على وجه دال على بطلان تعظيمهم للجن بالإخبار بالمغيبات بعد تنبيههم على مثل ذلك باستخدامه لهم بقوله : { فلما } بالفاء ، ولذلك عاد إلى مظهر الجلال فقال : { قضينا } وحقق صفة القدرة بأداة الاستعلاء فقال : { عليه } أي سليمان عيله السلام { الموت ما دلهم } أي جنوده{[56573]} وكل من في ملكه من الجن والإنس وغيرهم من كل قريب وبعيد { على موته } لأنا جعلنا له من سعة العلم ووفور الهيبة ونفوذ الأمر ما تمكن به من إخفاء موته عنهم { إلا دآبة الأرض } فخمها بهذه الإضافة التي من معناها أنه لا دابة للأرض غيرها لما أفادته من العلم ولأنها لكونها تأكل من كل شيء من أجزاء الأرض من الخشب والحجر والتراب والثياب وغير ذلك أحق الدواب بهذا الاسم ، ويزيد ذلك حسناً ان مصدر فعلها أرض بالفتح والإسكان فيصير من قبيل{[56574]} التورية ليشتد التشوف إلى تفسيرها ، ثم بين أنها الأرضة بقوله مستأنفاً في جواب من كأنه قال : أي دابة هي وبما دلت : { تأكل منسأته } أي عصاه التي مات {[56575]}وهو متكىء{[56576]} عليها قائماً في بيت من زجاج ، وليس له باب ، صنعته له{[56577]} الجن لما أعلمه الله بأن أجله قد حضر ، وكان قد بقي في المسجد بقية ليخفي موته على{[56578]} الجن الذين كانوا يعملون في البيت المقدس حتى يتم ؛ قال في القاموس في باب الهمز{[56579]} : نسأه : زجره وساقه وأخره ودفعه عن الحوض ، والمنسأة كمكنسة مرتبة ، ويترك الهمز{[56580]} فيهما{[56581]} : العصا - لأن الدابة تنسأ بها أي تساق ، والبدل فيها لازم ، حكاه سيبويه - انتهى . فالمعنى أن الجن كانوا يزجرون ويساقون بها ، وقرأها المدنيان{[56582]} وأبو عمرو{[56583]} بالإبدال ، وابن عامر من رواية ابن ذكوان والداجوني عن هشام بإسكان الهمزة ، والباقون بهمزة{[56584]} مفتوحة { فلما خر } أي سقط على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه { تبينت الجن } أي علمت علماً بيناً لا يقدرون معه على تدبيج وتدليس ، وانفضح أمرهم وظهر ظهوراً تاماً { أن } أي أنهم { لو كانوا } أي الجن { يعلمون الغيب } أي علمه { ما لبثوا } أي أقاموا حولاً مجرماً { في العذاب المهين * } من ذلك العمل الذي{[56585]} كانوا مسخرين فيه ، والمراد إبطال ما كانوا يدعونه من علم الغيب على وجه الصفة ، لأن المعنى أن دعواهم ذلك إما كذب أو جهل ، فأحسن الأحوال لهم أن يكون جهلاً منهم ، وقد تبين لهم الآن جهلهم بياناً لا يقدرون على إنكاره ، ويجوز أن تكون " أن " تعليلية ، ويكون التقدير : تبين حال الجن فيما يظن بهم من أنهم يعلمون الغيب ، لأنهم إلى آخره ، وسبب علمهم مدة كونه ميتاً قبل ذلك أنهم وضعوا الأرضة على موضع{[56586]} من العصا فأكلت منها يوماً وليلة ، وحسبوا على ذلك النحو فوجدوا المدة سنة ، وفي هذا توبيخ للعرب أنهم يصدقون من ثبت بهذا الأمر أنهم لا يعلمون الغيب في الخرافات اللاتي تأتيهم بها الكهان وغيرهم مما يفتنهم والحال أنهم يشاهدون منه كذباً كبيراً ، فكانوا بذلك مساوين لمن يخبر{[56587]} من الآدميين عن بعض المغيبات بظن يظنه او منام يراه أو غير ذلك ، فيكون كما قال - هذا مع إعراضهم عمن يخبرهم بالآخرة شفقة عليهم ونصيحة لهم ، وما أخبرهم بشيء قط إلا ظهر صدقه قبل ادعائه للنبوة وبعده ، وأظهر لهم من المعجزات ما بهر العقول ، وقد تقرر أن كل شيء ثبت لمن قبل نبينا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء من الخوارق ثبت له مثله أو{[56588]} أعظم منه إما له نفسه أو لأحد من أمته ، وهذا الذي ذكر{[56589]} لسليمان عليه السلام من حفظه بعد موته سنة لا يميل قد ثبت{[56590]} مثله لشخص من هذه الأمة من غير شيء يعتمد عليه ، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته في باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا : وقال أبو عمران{[56591]} الأصطخري : رأيت أبا تراب في البادية قائماً ميتاً{[56592]} لا يمسكه شيء - انتهى .
و ثبت مثل ذلك لشخص في بلاد شروان من بلاد فارس بالقرب من شماخى ، اسم ذلك الولي محمد ، ولقبه دمدمكي ، مات من نحو أربعمائة سنة في المائة الخامسة من الهجرة ، وهو قاعد في مكان من مقامه الذي كان يتعبد فيه على هيئة المتشهد وعليه قميص وعلى رأسه قبع كهيئة قباع{[56593]} الأعاجم البسطامية ، أخبرني من شاهده{[56594]} ممن{[56595]} كذلك لا أتهمه من طلبة العلم العجم ، وهو أمر مشهور متواتر في بلادهم غني عن مشاهدة شخص معين ، قال : زرته غير مرة وله هيبة تمنع المعتقد{[56596]} من الدنو منه دنواً يرى به{[56597]} وجهه كما أشار تعالى إلى مثل ذلك بقوله تعالى{[56598]}
{ لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً }[ الكهف : 18 ] قال : وكان معنا في بعض المرات شخص من طلبة العلم من أهل كيلان غير معتقد يقول : إنما هذا نوع شعبدة يخيل{[56599]} به على عقول الرعاع ، قال : فتقدم إليه بجرأة ولمس صدره ونظر في وجهه ، فأصيب في الحال فلم يرجع إلا محمولاً ، فأقام{[56600]} في المدرسة التي كان يشتغل بها في مدينة شماخي مدة ، وأخبرنا أن{[56601]} الشيخ دمدمكي قال له لما لمسه : لولا أنك من أهل العلم هلكت ، وأنه شيخ خفيف اللحية ، قال : وقد تبت إلى الله تعالى وصرت من المعتقدين لما هوعليه أنه حق ، ولا أكذب بشيء من كرامات الأولياء ، قال الحاكي : وقد دفن ثلاث مرات إحداها{[56602]} بأمر تمرلنك فيصبح جالساً على ما هو عليه الآن - والله الموفق للصواب{[56603]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.