سورة سبأ سورة مكية نزلت بعد سورة لقمان وقد نزلت سورة سبأ في الفترة ما بين السنتين الحادية عشرة والثانية عشرة من حياة الرسول بمكة بعد البعثة فقد جاء الوحي على النبي وعمره أربعين سنة ثم مكث في مكة ثلاثة عشرة عاما ، وفي المدينة عشرة أعوام ومات وعمره ثلاث وستون سنة .
وكانت سورة سبأ ضمن مجموعة السور التي نزلت في السنوات الأخيرة من حياة المسلمين بمكة .
وكانت آيات سورة سبأ 54 آية وسميت بهذا الاسم لاشتمالها على قصة سبأ وهي مدينة من المدن القديمة في اليمن وكانت عاصمة دولة قديمة بها وقد خرجت عند انهيار سد مأرب بسبب سيل العرم .
قال تعالى : { لقد كان لسبإ في مساكنهم ءاية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور*فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل*ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور } . ( سبإ : 15-17 ) .
موضوعات السورة موضوعات سورة سبإ هي موضوعات العقيدة الرئيسية توحيد الله ، والإيمان بالوحي والاعتقاد بالبعث وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية وبيان أن الإيمان والعمل الصالح لا الأموال ولا الأولاد- هما قوما الحكم والجزاء عند الله وأنه ما من قوة تعصم من بطش الله وما من شفاعة عنده إلا بإذنه .
والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء وعلى إحاطة علم الله وشموله ودقته ولطفه وتتركز الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين بطرق متنوعة وأساليب شتى وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية .
فعن قضية البعث تقول السورة : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم } . ( سبإ : 3 ) .
ويرد قرب ختام السورة : { قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب } . ( سبإ : 48 ) .
وقد عرض الفيروزيادي مقصود السورة فقال : بيان حكمة التوحيد وبرهان نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزات داود وسليمان ووفاتهما وهلاك سبإ وشؤم الكفران وعدم الشكر وإلزام الحجة على عباد الأصنام ومناظرة أهل الضلالة وذكر معاملة الأمم الماضية مع النبيين ووعد المنافقين والمتصدقين بالإخلاف والعودة إلى إلزام الحجة على منكري النبوة وتمني الكفار في وقت الوفاة الرجوع إلى الدنيا أه .
ونلاحظ أن هذه القضايا التي تعالجها السورة قد عالجتها السور مكية في مواضع شتى ولكنها تعرض في كل سورة مصحوبة بمؤثرات متنوعة جديدة على القلب في كل مرة ومجال عرضها في سورة سبأ يأتي مصحوبا بمؤثرات عدة ، ممثلة متنوعة ممثلة في رفعة السماوات والأرض الفسيحة وفي عالم الغيب المجهول المرهوب وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة وغريبة وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري موقظ له من الغفلة والشيق والهمود .
فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح العيون على هذا الكون الهائل وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله وعلى مجال علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل .
وتستمر السورة في مناقشة المكذبين وإلزامهم بالحجة وإيقافهم أمام فطرتهم وأمام منطق قلوبهم بعيدا عن الغواشي والمؤثرات المصطنعة . i
قال تعالى : { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } . ( سبأ : 46 ) .
وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في مجالات متنوعة وتواجهه بالحقائق والأدلة والحجج حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة .
يجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة يمكن تقسيمها إلى ستة فصول :
تحدثت الآيات التسع الأولى من السورة عن عظمة الخالق المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة وهو الحكيم الخبير وقررت شمول علمه الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ثم تطرقت للحديث عن إنكار الكافرين لمجيء الساعة وردت عليهم بتأكيد إتيانها لتتم إثابة المؤمنين وعقوبة الكافرين وليستقين العلماء والمؤمنون أن القرآن حق وصدق ، وهداية إلى صراط العزيز المجيد ثم تحدثت عن عجب الكفار من قضية البعث واستبعادهم لوقوعه بعد أن يموتوا ويمزقوا كل ممزق وأجابت عن ذلك بأنه لا وجه لاستبعادهم وهم يرون من كمال قدرته الله ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض وهددت المكذبين بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفا عليهم .
تتناول الآيات من ( 10-14 ) طرفا من قصة داود وسليمان وتذكر نعمة الله عليهما وفضله فقد أعطى داود النبوة والزبور والصوت الحسن وإذا سبح الله سبحت معه الجبال والطير وآلان الله له الحديد وأوحى إليه أن يعمل دروعا سابغات للحرب كما حثه الله على العمل الصالح فإنه سبحانه بصير خبير .
وقد سخر الله لسليمان الريح ذهابها شهر ورجوعها شهر تحمل بساطه هو وخاصته إلى حيث يشاء وقد ذلل الله له الجن تعمل له أنواع المصنوعات فلما انقضى أجله مات واقفا متكئا على عصاه وما دل الجن على موته غلا أرضة قرضت عصاه فانطلقوا بعد أن كانوا مسجونين .
ضرب الله مثلا للشاكرين بداود وسليمان وقليل من الناس من يدرك فضل الله عليه وعظيم نعمائه التي لا تعد ولا تحصى ثم ضرب الله مثلا للبطر وجحود النعمة بمملكة سبأ وقد سبق أن وصفت في سورة النمل بالعظمة والقوة فلما آمنت بلقيس وكفر من جاء بعدها وأعرضوا عن شكر الله أصابهم الدمار .
وسبأ اسم لقوم كانوا يسكنون جنوبي اليمن وكانوا في أرض مخصبة لا تزال منها بقية إلى اليوم وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي تأتيهم من البحر في الجنوب والشرق فأقاموا خزانا طبيعيا يتألف جانباه من جبلين وجعلوا على فم الوادي بينهما سدا به عيون تفتح وتغلق وخزنوا المياه بكميات عظيمة وراء السد وتحكموا فيها وفق حاجتهم فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم وقد عرف باسم سد مأرب .
وهذه الجنان عن اليمين والشمال رمز لذلك الخصب والوفرة والرخاء والمتاع الجميل ولكنهم لم يشكروا نعمة الله ولم يذكروا آلاءه فسلبهم هذا الرخاء وأرسل السيل الجارف الذي يحمل العرم في طريقه وهي الحجارة لشدة تدفقه فحطم السد وانساحت المياه فطفت وأغرقت ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفت الجنان واحترقت وتبدلت تلك الجنان الفيحاء صحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة ، { ذلك جزيناهم بما كفروا . . . } أي بنعمة الله ، { وهل نجازي إلا الكفور } . ( سبأ : 17 ) .
وقد استغرقت قصة سبأ الآيات من ( 15-21 ) .
المتأمل في الآيات من ( 22-27 ) في سورة سبأ يجد ظاهرة متميزة حيث تكرر قول : قل في أول هذه الآيات كما تضمنت عددا من الأسئلة والحقائق في أسلوب رائع قوي .
لقد بدأت الآيات بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمون أنهم آلهة من دون الله وهم لا يملكون نفعا ولا ضرا ولا يملكون شفاعة عند الله- ولو كانوا من الملائكة- فالملائكة يتلقون أمر الله بالخشوع الراجف ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق ويسألهم الله عمن يرزقهم من السموات والأرض والله مالك السماوات والأرض وهو الذي يرزقهم بلا شريك ، ثم يفوض أمر النبي وأمرهم إلى الله وهو الذي يفصل فيما هم فيه مختلفون ويختم هذا الفصل بالتحدي كما بدأه أن يروه الذين يلحقونهم بالله شركاء " كلا بل هو الله العزيز الحكيم . ( سبأ : 27 ) .
وهكذا تطوف الآيات بالقلب البشري في مجال الوجود كله حاضره وغيبه سمائه وأرضه دنياه وآخرته وتقف به أمام رزقه وكسبه وحسابه وجزائه كل ذلك في فواصل قوية ، وضربات متلاحقة وآيات تبدأ كل آية منهال يفعل الأمر قل ، وكل قولة منها تدمغ بالحجة ، وتصدع بالبرهان في قوة وسلطان .
وفي أعقاب هذه الآيات بيان الرسالة الرسول وأنها عامة للناس أجمعين : { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون } . ( سبأ : 28 ) .
يستغرق الفصل الخامس في السورة الآيات من ( 29-32 ) ويبدأ بسؤال يوجهه الكفار للنبي عن يوم القيامة ، استبعادا لوقوعه والجواب أن ميعاده لا يتقدم ولا يتأخر ، وقد اعتز الكفار بالأموال والأولاد وقالوا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب السابقة عليه .
وهنا يعرض القرآن موقف الظالمين أمام ربهم حيث يتحاورون فيراجع بعضهم بعضا كل منهم يحاول أن يلقى التبعة على أخيه فيقول الضعفاء للسادة والكبراء لقد تصديتم لنا بالإغراء والمكر بنا ليلا ونهارا حتى أفسدتم علينا رأينا وجعلتمونا نكفر بالله ونجعل له نظراء من الآلهة الخالية ويحتج الكبراء ويقولون أنحن منعناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ؟ بل كنتم مجرمين إذ أخذتم الكفر عنا بالتقليد .
وعض الجميع بنان الندم حين رأوا العذاب والأغلال في أعناقهم ثم نرى المترفين يقاومون كل إصلاح ويكذبون كل رسالة : { وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون } . ( سبا : 34 ) .
وقد احتج المترفون بكثرة أموالهم وأولادهم واعتقدوا أن فضلهم في الدنيا سيمنعهم من العذاب في الآخرة وهنا يضع القرآن موازين الحق والعدل ويقرر القيم الحقيقية التي يكون عليها الجزاء والحساب وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد .
وفي مشاهد القيامة يتضح أنه لا الملائكة ولا الجن الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا يملكون لهم في الآخرة شيئا .
كما توضح الآيات أن بسط الرزق وقبضه أمران يجريان وفق إرادة الله وليسا دليلا على رضا أو غضب ولا على قرب أو بعد إنما ذلك ابتلاء واختبار .
6- الدعوة إلى التأمل والتفكر :
في الآيات الأخيرة من السورة من ( 43-54 ) حديث عن عناد الكافرين وجحودهم من غير برهان ولا دليل وتنبيه من القرآن بما وقع لأمثالهم الغابرين الذين أخذهم النكير في الدنيا وهم كانوا أقوى منهم وأعلم وأغنى .
ويعقب هنا عدة إيقاعات عنيفة كأنما هي مطارق متوالية يدعوهم في أول إيقاع منها إلى أن يقوموا لله متجردين ثم يتفكروا غير متأثرين بالحواجز التي تمنعهم من الهدى ومن النظر الصحيح وفي الإيقاع الثاني يدعوهم إلى التفكير في حقيقة البواعث التي تجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يلاحقهم بالدعوة وليس له من وراء ذلك نفع ولا هو يطلب على ذلك أجرا فما لهم يتشككون في دعوته ويعرضون ؟
وتوالت الآيات تبدأ بلفظ قل . . . وكل منها يهز القلب هزا ، فمحمد لم يسألهم أجرا بل أجره على الله ومحمد صلى الله عليه وسلم مؤيد بالحق والحق غالب والباطل مغلوب .
ثم تلطف في وعظهم فذكر محمد صلى الله عليه وسلم إن ضل فضلاله إنما يعود عليه وحده ، وإن اهتدى فيهدي الله له ثم بين سوء حالهم إذا فزعوا يوم القيامة إلى ربهم فلا يكون لهم فوت منه ولا مهرب وذكر أنهم يؤمنون به في ذلك الوقت فلا ينفعهم إيمانهم وتختم السورة بمشهد هؤلاء الكفار وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان في غير موعده والإفلات من العذاب والنجاة من أهوال القيامة كما فعل بأشباههم من كفرة الأمم التي قبلهم إنهم كانوا في شك موضع في الارتياب . وهكذا تختم السورة بمشهد يثبت قضية البعث والجزاء وهي القضية التي ظهرت خلال السورة من بدايتها قال تعالى : وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب . ( سبأ : 45 ) .
سورة مكية وعدد آياتها 54 آية وسميت بهذا الاسم لورود قصة سبأ بها
{ الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير( 1 ) يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور( 2 ) }
الحمد لله : الحمد هو الثناء على الله بما هو أهله أو الثناء على الله بجميل صفاته وأفعاله .
الحكيم : الذي أحكم أمر الدارين ودبره بمقتضى الحكمة .
الخبير : الذي يعلم بواطن الأمور .
{ الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير } .
الشكر والثناء على الله تعالى خالق الكون بديع السموات والأرض وله ما فيهما خلقا وإيجادا وعناية ورعاية له ما في السموات من الملائكة والأبراج والشموس والأقمار والنجوم وغير ذلك ، وله ما في الأرض من الإنسان والحيوان والنباتات والبحار وغير ذلك وله الحمد في الدنيا حيث خلق ورزق ويسر ونظم وأبدع وأنزل الكتب وأرسل الرسل وله الحمد في الآخرة حيث يتم الحساب والميزان والصراط وتوزيع الكتب ومكافأة العاملين المخلصين ومعاقبة الكافرين المفسدين فمكافأة العاملين نعمة ، ومعاقبة الظالمين نعمة ، لتحقيق العدل وحسن الجزاء : { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد } . ( فصلت : 46 ) .
{ وهو الحكيم } الذي أتقن كل شيء صنعا وأحسن كل كائن خلقا وإبداعا .
سورة سبأ{[1]}
مقصودها أن الدار الآخرة التي أشار إليها آخر تلك بالعذاب والمغفرة بعد أن أعلم أن الناس يسألون عنها كائنة لا ريب فيها ، لما في ذلك من الحكمة ، وله عليه من القدرة ، وفي تركها من عدم الحكمة والتصوير بصورة الظلم ، ولقصة سبأ التي سميت بها السورة مناسبة كبيرة {[2]}لهذا المقصد{[3]} كما يأتي بيانه ولذلك سميت بها { بسم الله } الذي من شمول قدرته إقامة الحساب { الرحمن } الذي{[4]} من عموم رحمته ترتيب الثواب والعقاب { الرحيم } الذي يمن على أهل كرامته بطاعته حتى لا عقاب يلحقهم ولا عتاب .
لما ختمت سورة الأحزاب بأنه سبحانه عرض أداء الأمانة وحملها وهي جميع ما في الوجود من المنافع على السماوات والأرض والجبال ، فأشفقن منها وحملها الإنسان الذي هو الإنس والجان ، وأن نتيجة العرض والأداء [ والحمل {[5]} ] العذاب والثواب ، فعلم أن الكل ملكه وفي ملكه ، خائفون من عظمته مشفقون من قهر{[6]} سطوته {[7]}وقاهر جبروته{[8]} ، و{[9]}أنه المالك{[10]} التام الملك والملك المطاع المتصرف في كل شيء من غير دفاع ، وختم ذلك بصفتي المغفرة والرحمة ، دل على ذلك كله بأن ابتدأ هذه بقوله : { الحمد } .
قوله { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال من الخلق والأمر كله مطلقاً في الأولى والأخرى وغيرهما مما يمكن أن يكون ويحيط به علمه سبحانه { لله } ذي الجلال والجمال .
ولما كان هذا هو{[56223]} المراد ، وصفه بما يفيد ذلك ، فقال منبهاً على نعمة الإبداء{[56224]} والإبقاء أولاً : { الذي له } أي وحده مِلكاً ومُلكاً وإن نسبتم إلى غيره ملكاً وملكاً ظاهرياً { ما في السموات } أي بأسرها { وما في الأرض } أي كما ترون أنه لا متصرف في شيء من ذلك كمال التصرف{[56225]} غيره ، وقد علم في غير موضع وتقرر في كل فطرة أنه ذو العرش العظيم ، فأنتج ذلك أن{[56226]} له ما يحويه عرشه من السماوات والأراضي{[56227]} وما فيها ، لأن من المعلوم أن العرش محيط بالكل ، فالكل فيه ، وكل سماء في التي فوقها ، وكذا الأراضي{[56228]} ، وقد تقرر أن له ما{[56229]} في الكل ، فأنتج ذلك أن له الكل بهذا البرهان الصحيح ، وهو أبلغ مما لو عبر عن ذلك على وجه التصريح ، {[56230]}وإذ قد{[56231]} كان له ذلك كله فلا نعمة على شيء إلا منه ، فكل شيء يحمده بما له عليه من نعمه بلسان قاله ، فإن لم يكن فبلسان حاله .
ولما أفاد ذلك أن له الدنيا وما فيها ، وقد علم في آخر الأحزاب أن نتيجة الوجود العذاب والمغفرة ، ونحن نرى أكثر الظلمة والمنافقين يموتون من غير عذاب ، وأكثر المؤمنين يموتون لم يوفوا ما وعدوه من الثواب ، ونعلم قطعاً أنه لا يجوز على حكيم أن يترك عبيده سدى يبغي بعضهم على بعض وهو لا يغير عليهم ، فأفاد ذلك أن له داراً أخرى{[56232]} يظهر فيها العدل وينشر الكرم والفضل ، فلذلك قال عاطفاً على ما يسببه الكلام الأول من نحو : فله الحمد في الأولى ، وطواه لأجل خفائه على أكثر الخلق ، وأظهر ما في الآخرة لظهوره لأنها{[56233]} دار كشف الغطاء ، فقال منبهاً على نعمة الإعادة{[56234]} والإبقاء ثانياً : { وله } أي وحده { الحمد } أي الإحاطة بالكمال { في الآخرة } ظاهراً لكل من يجمعه الحشر ، وله كل ما فيها ، لا يدعي ذلك أحد {[56235]}في شيء منه{[56236]} لا{[56237]} ظاهراً ولا باطناً ، فكل شيء فيها لظهور الحمد إذ ذاك بحمده كما ينبغي لجلاله بما له عليه من نعمة أقلها نعمة الإيجاد حتى أهل النار فإنهم يحمدونه بما يحبب إليهم في الدنيا من إسباغ نعمه ظاهرة وباطنة ، ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل على وجه ما أبقى فيه للتحبب موضعاً في دعائهم إليه وإقبالهم عليه ، وبذل النصيحة على وجوه من اللطف كما هو معروف عند من عاناه ، فعلموا أنهم هم المفرطون حيث أبوا في الأولى حيث ينفع الإيمان ، واعترفوا في الآخرة حيث فات الأوان { وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش } - الآيات ، وأيضاً فهم يحمدونه في الآخرة لعلمهم أنه لا يعذب{[56238]} أحداً منهم فوق ما يستحق وهو قادر على ذلك ، ولذلك جعل النار طبقات ، ورتبها دركات ، فكانوا في الأولى حامدين على غير وجهه ، فلم ينفعهم حمدهم لبنائه{[56239]} على غير أساس ، وحمدوا في الآخرة على{[56240]} وجهه فما أغنى عنهم لكونها ليست دار العمل لفوات{[56241]} شرطه ، وهو الإيمان بالغيب ، والآية من الاحتباك : حذف أولاً{[56242]} " له الحمد في الأولى " لما دل عليه ثانياً ، وثانياً " وله كل ما في الآخرة{[56243]} " لما دل عليه أولاً ، وقد علم بهذا وبما{[56244]} قدمته في النحل والفاتحة أن الحمد تارة يكون بالنظر إلى الحامد{[56245]} ، وتارة بالنظر إلى المحمود ، فالثاني{[56246]} اتصاف المحمود بالجميل ، والأول وصف الحامد له بالجميل ، فحمد الله تعالى اتصافه بكل وصف جميل ، وحمد الحامد له وصفه بذلك ، فكل الأكوان ناطقة بألسن أحوالها بحمده سواء{[56247]} أنطق لسان{[56248]} القال بذلك أم لا ، وهو محمود قبل تكوينها ، وذلك هو معنى قولي{[56249]} الإحاطة بأوصاف الكمال ، وحمد غيره له تارة يطلق بالمدلول اللغوي ، وتارة بالمدلول العرفي ، وتحقيق ما قال العلماء في ذلك في نفسه وبالنسبة بينه وبين الشكر أن الحمد في اللغة هو الوصف بالجميل الاختياري على جهة التعظيم ، ومورده اللسان وحده فهو مختص بالظاهر{[56250]} ومتعلقه النعمة وغيرها ، فمورده خاص ومتعلقه عام ، والشكر لغة على العكس من ذلك متعلقه خاص ومورده عام ، لأنه فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب إنعامه فمورده{[56251]} الظاهر والباطن لأنه يعم اللسان والجنان والأركان ، ومتعلقه النعمة الواصلة إلى الشاكر ، ومن موارده القلب وهو أشرف الموارد كلها ، لأنه فعله وإن كان خفياً يستقل بكونه شكراً من غير أن ينضم إليه فعل غيره بخلاف الموردين الآخرين ، إذ لا يكون فعل شيء منهما{[56252]} حمداً ولا شكراً حقيقة ما لم ينضم إليه فعل القلب .
ولما كان تعاكس{[56253]} الموردين والمتعلقين ظاهر الدلالة على النسبة بين الحمد والشكر اللغويين ، علم أن بينهما عموماً وخصوصاً وجهياً ، لأن الحمد قد يترتب على الفضائل المجردة ، والشكر قد يختص بالفواضل ، فينفرد الحمد من هذه الجهة ، وينفرد الشكر بالفعل الظاهر والاعتقاد الباطن على{[56254]} الفواضل من غير قول ، ويجتمعان في الوصف {[56255]}الجناني واللساني{[56256]} على الفواضل ، ففعل القلب اعتقاد اتصاف المشكور بصفات الكمال من الجلال والجمال ، وفعل اللسان ذكر ما يدل على ذلك ، وفعل الأركان الإتيان بأفعال دالة على ذلك .
ولما كان هذا حقيقة الحمد والشكر لغة لا عرفاً ، وكانت الأوهام تسبق {[56257]}إلى أن{[56258]} الحمد ما يشتمل على لفظ ح م د ، قال القطب الرازي في شرح المطالع : وليس الحمد عبارة عن خصوص قول القائل " الحمد لله " وإن كان هذا القول فرداً من أفراد الماهية ، وكذا ليس ماهية الشكر عبارة عن خصوص قول القائل{[56259]} " الشكر لله " ولا القول المطلق الدال على تعظيم الله وإن كان الثاني جزءاً منه والأول فرد من هذا الجزء ، وحقيقة الحمد في العرف ما يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً ، وحقيقة الشكر العرفي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه من القوى{[56260]} إلى ما خلق له كصرف النظر إلى مطالعة مصنوعاته للاعتبار إلى عليّ حضراته ، وإلقاء السمع إلى تلقي ما ينبىء عن مرضاته ، والاجتناب عن منهياته ، فذكر الوصف في اللغوي{[56261]} يفهم الكلام سواء كان نفسانياً أو لسانياً فيشمل حمد الله تعالى نفسه وحمدنا له ، والجميل متناول للأنعام وغيره من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، وعدم تقييد الوصف بكونه في مقابلة نعمه مظهر لأن الحمد قد يكون واقعاً بإزاء النعمة وقد لا يكون ، واشتراط التعظيم يفهم تطابق الظاهر والباطن ، فإن عرى قول اللسان عن مطابقة الاعتقاد أو خالفه فعل الجوارح لم{[56262]} يكن حمداً حقيقة ، بل استهزاء وسخرية ، ومطابقة الجنان والأركان شرط في الحمد لا شطر ، فلا يتداخل التعريفان ، ولا يخرج بالاختيار صفات الله القديمة ، فإنها من حيث قدرته على تعليقها بالأشياء تكون داخلة فيكون الحمد على الوصف الاختياري ، وكذا إذا مدح الشجاع بشجاعته والقدرة على تعليق الوصف بما يتحقق به كانت الشجاعة ممدوحا بها ، وما حصل من آثارها من النعمة محمودا عليه ، وإذا وصف بالشجاعة خاصة لم يكن هناك محمود عليه ، فقد علم من هذا أنه إذا{[56263]} كان هناك اختيار في الآثار كان الحمد عليه وإلا فلا ، فلا يسمى وصف اللؤلؤة بصفاء الجوهر وبهجة المنظر حمداً بل مدحاً ، ويسمى الوصف بالشجاعة للاختيار في إظهار آثارها حمداً ، فاختص الحمد بالفاعل المختار دون المدح ، وعلم أيضاً أن القول المخصوص وهو " الحمد لله " ليس حمداً لخصوصه ، بل لأنه دال على صفة الكمال ومظهر لها ، فيشاركه في التسمية كل ما دل على ذلك من الوصف ، ولذلك قال بعض المحققين من الصوفية : حقيقة الحمد إظهار الصفات الكمالية ، وذلك قد يكون بالقول كما عرف ، وقد يكون بالفعل وهو أقوى ، لأن الأفعال التي هي آثار الأوصاف تدل عليها دلالة عقلية قطعية ، لا يتصور فيها خلف بخلاف الأقوال ، فإن دلالتها عليها{[56264]} وضعية ، وقد يتخلف عنها مدلولها ، وقد حمد الله تعالى نفسه بما يقطع به من القول والفعل ، أما الفعل فإنه بسط بساط الوجود{[56265]} على ممكنات لا تحصى ووضع عليه موائد كرمه التي لا تتناهى ، فكشف ذلك عن صفات كماله وأظهرها بدلالات قطعية تفصيلية غير متناهية ، فإن كل ذرة من ذرات الوجود تدل عليها ، ولا يتصور في عبارات المخلوق مثل هذه الدلالات ، ومن ثمة قال صلى الله عليه وسلم
" لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " ولا بد للتنبه لما قاله الأستاذ أبو الحسن {[56266]}التجيبي المغربي{[56267]} الحرالي في تفسيره بأن حمدلة الفاتحة تتضمن من حيث ظاهرها المدح التام الكامل ممن {[56268]}يرى المدحة{[56269]} سارية في كل ما أبدعه الله وما أحكمه من الأسباب التي احتواها الكون كله ، وعلم أن كلتا يدى ربه{[56270]} يمين مباركة ، وهو معنى ما يظهره إحاطة العلم بإبداء الله حكمته على وجه لا نكرة فيه منه ، ولا ممن هو في أمره خليفته{[56271]} ، وليس من معنى ما بين العبد وربه من وجه إسداء النعم وهو أمر يجده القلب علماً ، لا أمر يوافق النفس غرضاً ، فمن{[56272]} لم يكمل بعلم ذلك تالياً على أثر من علمه ، واجداً بركة تلاوته - انتهى .
وأما القول فإنه سبحانه لما علم أن لسان الحال إنما يرمز رمزاً خفياً لا يفهمه إلا الأفراد وإن كان بعد التحقيق جلياً ، أنزل علينا كتاباً مفصحاً بالمراد أثنى فيه على نفسه ، وبين صفات كماله بالبيان الذي يعجز عنه القوى ، ثم جعل الإعجاز دلالة قطعية على كماله ، وعلى{[56273]} كل ما له من جلاله وجماله ، وقد علم من هذه التعاريف أن بين{[56274]} الحمد والشكر اللغويين عموماً وخصوصاً من وجه ، لأن الحمد قد يترتب على الفضائل وهي الصفات{[56275]} الجميلة{[56276]} التي لا يتجاوز منها أثر ومنفعة إلى غير الممدوح كالشجاعة ، والشكر يختص بالفواضل وهي النعم وهي الصفات{[56277]} والمزايا المتعدية التي يحصل منها منفعة لغير{[56278]} الممدوح كالإحسان والمواهب والعطايا كما مضى ، وبين الحمد والشكر العرفيين{[56279]} عموماً وخصوصاً مطلقاً ، فالحمد أعم مطلقاً لعموم النعم الواصلة إلى الحامد وغيره ، واختصاص الشكر بما يصل إلى الشاكر ، وذلك لأن المنعم المذكور في التعريف مطلق لم يقيد بكونه منعماً على الحامد أو على غيره ، فمتناولهما{[56280]} بخلاف الشكر وقد اعتبر فيه منعم مخصوص{[56281]} وهو الله تعالى ، ونعم واصلة منه إلى الشاكر ، ولعموم هذا الحمد مطلقاً وخصوص هذا الشكر مطلقاً وجه ثان ، وهو أن فعل القلب واللسان مثلاً قد يكون حمداً وليس شكراً أصلاً ، إذ قد اعتبر فيه شمول الآلات ، ووجه ثالث وهو أن الشكر بهذا المعنى لا يتعلق بغيره تعالى بخلاف الحمد ، وما يقال من أن النسبة بالعموم المطلق ، بين العرفيين إنما تصح بحسب الوجود دون الحمل{[56282]} الذي كلامنا فيه ، لأن الحمد بصرف{[56283]} القلب مثلاً فيما خلق لأجله جزء من صرف الجميع غير محمول عليه لامتيازه في الوجود عن سائر أجزائه ، وأما في الحمل فلا يمتاز المحمول عن{[56284]} الموضوع في الوجود الخارجي ، فغلط من باب اشتباه الشيء بما صدق هو عليه ، فإن ما ليس محمولاً على ذلك الصرف{[56285]} هو ما صدق عليه الحمد ، أعني صرف القلب وحده لا مفهومه المذكور ، وهو فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً ، وهذا المفهوم يحمل على صرف الجميع ، وما يقال إن صرف الجميع أفعال متعددة ، فلا يصدق عليه أنه فعل واحد ، جوابه أنه فعل واحد تعدد متعلقه ، فلا ينافي وصفه{[56286]} بالوحدة كما يقال : صدر عن زيد فعل واحد هو إكرام جميع القوم مثلاً ، وتحقيقه أن المركب قد يوصف بالوحدة الحقيقية{[56287]} كبدن واحد ، والاعتبارية كعسكر واحد ، وصدق الجميع من قبيل الثاني كما لا يرتاب فيه ذو مسكة{[56288]} ، والنسبة بين الحمدين اللغوي والعرفي عموم وخصوص من وجه ، لأن الحمد العرفي هو الشكر اللغوي ، وقد مضى بيان ذلك فيهما .
{[56289]}وبين الشكر العرفي{[56290]} {[56291]}واللغوي عموم مطلق{[56292]} لأن الشكر اللغوي يعم النعمة إلى الغير دون العرفي فهو أعم ، والعرفي أخص مطلقاً ، وكذا بين الشكر العرفي والحمد اللغوي لأن الأول مخصوص بالنعمة على الشاكر سواء كان باللسان أو لا ، والثاني وإن خص باللسان فهو مشترط{[56293]} فيه مطابقة الأركان والجنان ، ليكون على وجهة{[56294]} التبجيل ، وقد لا يكون في مقابلة نعمة فهو أعم مطلقاً فكل شكر عرفي حمد لغوي ، ولا ينعكس وهذا{[56295]} بحسب الوجود ، وكذا بين الحمد العرفي والشكر اللغوي عموم مطلق أيضاً إذا قيدت النعمة {[56296]}في اللغوي بوصولها{[56297]} إلى الشاكر{[56298]} كما مر ، وأما إذا لم تقيد{[56299]} فهما متحدان ، وأما الشكر المطلق فهو على قياس ما مضى تعظيم المنعم بصرف نعمته إلى ما يرضيه ، ولا يخفى أنه إذا كان نفس الحمد والشكر من النعم لم يمكن أحداً{[56300]} الإتيان بهما على التمام والكمال لاستلزامه{[56301]} تسلسل الأفعال إلى ما لا يتناهى ، وهذا التحقيق منقول عن إمام الحرمين والإمام الرازي - هذا حاصل ما في شرح المطالع للقطب الرازي وحاشيته للشريف الجرجاني بزيادات ، وقد علم صحة ما أسلفته في شرح الحمد بالنظر إلى الحامد وبالنظر إلى المحمود ، وإذا جمعت أطراف ما تقدم في{[56302]} سورة النحل والفاتحة وغيرهما من أن المادة تدور على الإحاطة علم أنه بالنظر إلى الحامد وصفة المحمود بالإحاطة بأوصاف الكمال ، وبالنظر إلى المحمود اتصافه بالإحاطة بأوصاف الكمال ، فإن الوصف يشترط أن يكون مطابقاً وإلا كان مدحاً لا حمداً ، كما حققه العلامة قاضي دمشق شمس الدين أحمد بن خليل الخويي{[56303]} في كتابه أقاليم التعاليم .
ولما تقرر أن الحكمة لا تتم إلا بإيجاد الآخرة قال : { وهو الحكيم } أي الذي{[56304]} بلغت حكمته النهاية التي لا مزيد عليها ، والحكمة هي العلم بالأمور على وجه الصواب متصلاً{[56305]} بالعمل على وفقه .
ولما كانت الحكمة لا تتهيأ إلا بدقيق العلم وصافيه ولبابه وهو الخبرة قال : { الخبير } أي البليغ الخبر{[56306]} وهو العلم بظواهر الأمور وبواطنها حالاً ومالاً ، فلا يجوز في عقل انه{[56307]} - وهو المتصف بهاتين الصفتين كما هو مشاهد{[56308]} في إتقان أفعاله وإحكام{[56309]} كل شيء سمعناه من أقواله - يخلق الخلق سدى من غير إعادة لدار الجزاء ، وقد مضى في الفاتحة وغيرها عن العلامة سعد الدين التفتازاني أنه قال : التصدير بالحمد إشارة إلى إمهات النعم الأربع ، وهي الإيجاد الأول ، والإيجاد الثاني ، والإبقاء الأول ، والإبقاء الثاني ، وأن الفاتحة لكونها أم الكتاب أشير فيها إلى الكل ، ثم أشير في كل سورة صدرت بعدها بالحمد إلى نعمة منها على الترتيب ، وأنه أشير في الأنعام إلى الإيجاد الأول وهو ظاهر وفي الكهف إلى الإبقاء الأول ، لأن انتظام البقاء الأول والانتفاع بالإيجاد لا يكون إلا بالكتاب والرسول ، وأنه أشير في هذه السورة إلى الإيجاد الثاني لانسياق الكلام إلى إثبات الحشر والرد على منكري الساعة حيث قال سبحانه { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي } انتهى ، وقد علم مما{[56310]} قررته أنها من أولها مشيرة إلى ذلك على طريق البرهان .
وقال أبو جعفر بن الزبير : افتتحت بالحمد لله{[56311]} لما أعقب بها ما انطوت عليه سورة الأحزاب من عظيم الآلاء وجليل النعماء حسب ما أبين - آنفاً - يعني في آخر كلامه على سورة الأحزاب - فكان مظنة الحمد على ما منح عباده المؤمنين وأعطاهم فقال تعالى { الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } ملكاً واختراعاً ، وقد أشار هذا إلى إرغام من توقف منقطعاً عن فهم تصرفه سبحانه في عباده بما تقدم وتفريقهم بحسب ما شاء فكأن{[56312]} قد قيل : إذا كانوا له ملكاً وعبيداً ، فلا يتوقف في فعله بهم{[56313]} ما {[56314]}فعل من تيسير للحسنى{[56315]} أو لغير ذلك مما شاءه بهم على فهم علته واستطلاع سببه ، بل يفعل بهم ما شاء وأراد من غير حجر ولا منع { وهو الحكيم الخبير } وجه الحكمة في ذلك التي خفيت عنكم ، وأشار قوله { وله الحمد في الآخرة } إلى أنه سيطلع عباده المؤمنين - من{[56316]} موجبات حمده ما يمنحهم أو يضاعف لهم من الجزاء أو عظيم الثواب في الآخرة - على ما لم تبلغه عقولهم في الدنيا و{[56317]}لا وفت{[56318]} به أفكارهم{ فلا تعلم نفس ما أخفي{[56319]} لهم من قرة أعين }[ السجدة : 17 ] ثم أتبع سبحانه ما تقدم من حمده على ما هو أهله ببسط شواهد حكمته وعلمه فقال تعالى { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها } إلى قوله { وهو الرحيم } فبرحمته وغفرانه أنال عباده المؤمنين ما خصهم به وأعطاهم ، فله الحمد الذي هو أهله ، ثم أتبع هذا بذكر إمهاله من كذب وكفر مع عظيم اجترائهم لتتبين سعة رحمته ومغفرته فقال تعالى { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } إلى قوله : { إن في ذلك لآية لكل عبد منيب } أي إن في إمهاله سبحانه لهؤلاء بعد عتوهم واستهزائهم في قولهم { لا تأتينا الساعة } وقوله : { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق أنكم لفي خلق جديد } وإغضائهم عن الاعتبار بما بين{[56320]} أيديهم من السماء والأرض وأمنهم أخذهم من أي الجهات وفي إمهالهم وإدرار أرزاقهم مع عظيم مرتكبهم آيات لمن أناب واعتبر ، ثم بسط لعباده المؤمنين من ذكر الآية ونعمه وتصريفه في مخلوقاته{[56321]} ما يوضح استيلاء قهره وملكه ، ويشير إلى عظيم ملكه كما أعلم في قوله سبحانه { الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } فقال سبحانه{[56322]} { ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنّا له الحديد } ثم قال { ولسليمان الريح } إلى قوله : { اعملوا آل داود شكراً } ثم أتبع ذلك{[56323]} بذكر حال من لم يشكر فذكر قصة سبأ إلى آخرها ، ثم وبخ تعالى من عبد غيره معه بعد وضوح الأمر وبيانه فقال { قل ادعوا الذين زعمتم من {[56324]}دون الله{[56325]} } إلى وصفه حالهم الأخراوي{[56326]} ومراجعة متكبريهم ضعفاءهم وضعفائهم متكبريهم { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } ثم التحمت الآي جارية على ما تقدم من لدن افتتاح السورة إلى ختمها - انتهى .