تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة التحريم

( سورة للتحريم مدنية ، وآياتها 12 آية ، نزلت بعد سورة الحجرات )

شاء الله أن يكون الرسول بشرا ، فيه قوة الإنسان ، وتجارب الإنسان ، ومحولات الإنسان ، وضعف الإنسان ، لتكون سيرة هذا الرسول الإنسان نموذجا للمحاولة الناجحة ، يراها ويتأثر بها من يريد القدوة الميسرة العملية الواقعية ، التي لا تعيش في هالات ولا في خيالات .

وهذه السورة فيها عتاب للرسول الأمين صلى الله عليه وسلم على تحريمه ما أحل الله له ، ولو كتم النبي من أمر القرآن شيئا لكتم هذا العتاب .

إن هذا القرآن كتاب الحياة بكل ما فيها ، وقد شاء الله أن يواكب الوحي حياة الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ، فيبارك الخطوات الناجحة ، ويُقوّم ما يحتاج إلى تقويم ، وبذلك تكون القدوة في متناول الناس .

قال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } . ( الأحزاب : 21 ) .

لقد عاتب القرآن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبوله الفداء من أسرى بدر ، وفي إذنه للمخلفين بالقعود عن الجهاد ، وفي إعراضه عن الأعمى الذي ألحّ في السؤال ، وفي تحريمه ما أحل الله له .

كما عرض القرآن جوانب القوة والجهاد والتربية والسلوك للنبي الأمين ، وجعل حياته الخاصة والعامة كتابا مفتوحا لأمته وللبشرية كلها ، تقرأ فيه صورة العقيدة ، وترى فيه تطبيقاتها الواقعية ، ومن ثم لا يجعل فيها سرا مخبوءا ولا سترا مطويا ، بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن ، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العادي ، حتى مواضع الضعف البشري الذي لا حيلة فيه لبشر ، بل إن الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم للناس .

إن حياة الرسول ملك للدعوة ، وهي الصورة المنظورة الممكنة التطبيق من العقيدة ، وقد جاء ليعرضها للناس في شخصه وفي حياته ، كما يعرضها بقوله وفعله ، ولهذا خُلق ، ولهذا جاء ، لتكون السنة هي ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير ، وليكون هو النموذج العملي الملموس في دنيا الناس ، يتعرض للأحزان ، ويموت ابنه ، ويصاب في غزوة أحد ، وتنتشر الشائعات عن زوجته عائشة ، ويعيب المنافقون عليه بعض الأمور ، لتكون الصورة كاملة للإنسان بكل ما فيه ، وليكون الوحي بعد ذلك فيصلا ، ودليلا هاديا فيما ينبغي سلوكه في هذه الحياة .

قصة التحريم

تزوج النبي صلى الله عليه وسلم تسع نساء لحكم إلهية ، ولتكون هذه الزوجات مبلغات لشئون الوحي فيما يخص النساء ، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم صدر حياته مع خديجة وكان عمره خمسا وعشرين سنة وعمرها أربعين ، وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنوات ، ولم يتزوج عليها في حياتها ، وكان وفيا لذكراها ، وقد ماتت خديجة وعمره خمسون عاما .

ثم تزوج عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر ، وأم سلمة ، وقد مات زوجها شهيدا فضم النبي صلى الله عليه وسلم إليه عيالها من أبي سلمة وتزوجها ، وزينب بنت جحش زوج مولاه ومتبناه زيد ، ليكون ذلك تشريعا للناس في إباحة زواج الإنسان من زوجة ابنه المتبنى .

قال تعالى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } . ( الأحزاب : 37 ) .

وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق ، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم أعتق الصحابة أقاربها وأسلم أهلها ، وكانت أيمن امرأة على قومها . ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت مهاجرة إلى الحبشة ، ثم ارتد زوجها وتنصر فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءت من الحبشة إلى المدينة ، ثم تزوج إثر فتح خيبر صفية بنت حيى بن أخطب زعيم بني النضير ، وكانت آخر زوجاته ميمونة بنت الحارث بن حزن ، وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عباس .

وكانت لكل زوجة من أزواجه صلى الله عليه وسلم قصة وسبب في زواجه منها ، ولم يكن معظمهن شواب ، ولا ممن يرغب فيهن الرجال لجمال ، وكل نسائه قد سبق لهن الزواج ما عدا عائشة ، فقد كانت البكر الوحيدة بين نسائه .

وقد أنجب النبي صلى الله عليه وسلم جميع أبنائه من خديجة ، فقد رزق منها ولدين وأربع بنات ، وقد مات الولدان في صدر حياته صلى الله عليه وسلم وبقيت البنات على ما بعد الرسالة ، ثم ماتت ثلاث من بناته وهن : رقية ، وزينب ، وأم كلثوم ، وعاشت فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر بعد وفاة أبيها ، ولم ينجب صلى الله عليه وسلم من زوجة أخرى غير خديجة .

وكان المقوقس ملك مصر قد أهدى إليه جاريتين هما مارية وسيرين ، فتسرى بمارية ، وأهدى سيرين إلى حسان بن ثابت ، ولما كانت مارية جارية لم يكن لها بيت بجوار المسجد ، فكان بيتها في عوالي المدينة ، في المحل الذي يقال له الآن : ( مشربة أم إبراهيم ) ، وقد رُزق النبي منها بمولود ذكر سماه إبراهيم تيمنا بإبراهيم الخليل .

وقد ماتت خديجة والنبي صلى الله عليه وسلم في الخمسين ، ولم يرزق بمولود من نسائه جميعا طوال عشر سنوات ، ثم رزق إبراهيم وقد تخطى الستين ، ففاضت نفسه بالمسرة ، وامتلأ قلبه الإنساني الكبير أُنسا وغبطة ، وارتفعت مارية بهذا الميلاد في عينيه إلى مكانه سمت بها عن مقام مواليه إلى مقام أزواجه ، وزادت عنده حظوة وقربا .

كان طبيعيا أن يدس ذلك في نفوس سائر زوجاته غيرة ، تزايدت أضعافا بأنها أم إبراهيم ، وبأنهن جميعا لا ولد لهن ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتردد كل يوم على إبراهيم ويحمله بين يديه ، ويفرح لابتسامته البريئة ، ويُسر بنموه وجماله .

وكانت المرأة في الجاهلية تُسام الخسف صغيرة ، وتُمسك على الذل كبيرة ، فلما جاء الإسلام حرّم وأد البنات ، وسما بالمرأة إلى منزلة سامية ووصى النبي بالنساء خيرا ، وعامل نساءه معاملة حسنة ، وجعل لنسائه من المكانة ما لم يكن معروفا قط عند العرب .

قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا بنسائه ألين الناس ، وأكرم الناس ، ضحاكا بساما .

تحريم مارية :

حدث أن جاءت مارية القبطية من عوالي المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت حفصة في زيارة لبيت أبيها ، فدخلت مارية في حجرة حفصة ، وأقامت بها وقتا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وعادت حفصة فوجدت مارية في بيتها ، فجعلت تنتظر خروجها وهي أشد ما تكون غيرة ، وجعلت كلما طال بها الانتظار تزداد الغيرة بها شدة ، فلما خرجت مارية ودخلت حفصة قالت : يا نبي الله ، لقد جئتَ إليّ شيئا ما جئتَ إلى أحد من أزواجك بمثله ، في يومي وفي دوري وعلى فراشي . قال صلى الله عليه وسلم : " ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها " ، قالت : بلى ، فحرمها ، وقال : " لا تذكري ذلك لأحد " ، فذكرته لعائشة ، فأظهره الله عز وجل عليه ، فأنزل : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ . . . } فبلغنا نبي الله صلى الله عليه وسلم كفّر عن يمينه وأصاب جاريته1

تحريم العسل :

روى البخاري ، عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، ويمكث عندها ، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير2 ، إني أجد منك ريح مغافير ، قال : " لا ، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا " 3

فهذا هو ما حرمه على نفسه وهو حلال له ، وقد نزل بشأنه : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ . . . }

ويبدو أن التي حدثها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث وأمرها بستره قالته لزميلتها المتآمرة معها ، ثم أطلع الله رسوله على حديثهما .

قال ابن جرير الطبري :

والصواب من القول في ذلك أن يقال : كان الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحله له ، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته ، وجائز أن يكون كان شرابا من الأشربة ، وجائز أن يكون كان غير ذلك ، غير أنه أي ذلك كان فإنه كان تحريم شيء كان له حلالا ، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه4

النبي يهجر نساءه :

كان من جراء هذا الحادث ، وهو تحريم مارية أو تحريم العسل ، وما كشف عنه من تآمر ومكايدات في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن غضب النبي فآلى من نسائه لا يقربهن شهرا ، وهمّ بتطليقهن ، ثم نزلت هذه السورة وقد هدأ غضبه صلى الله عليه وسلم فعاد إلى نسائه .

روى الإمام أحمد في مسنده ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، أن ابن عباس سأل عمر عن المرأتين اللتين قال الله تعالى لهما : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا . . . } ( التحريم : 4 ) . فقال عمر : هما عائشة وحفصة ، ثم قال عمر : كنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، قال عمر ، فبينما أنا في أمر آتمره إذ قالت لي امرأتي : لو صنعت كذا وكذا ، فقلت لها : ومالك أنت ولما هاهنا ، وما تكلفك في أمر أريده ؟ فقالت لي : عجبا لك يا ابن الخطاب ، ما تريد أن تراجع أنت ، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان ، وإن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، قال : فانطلقت فدخلت على حفصة ، فقلت : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان ؟ فقالت حفصة : والله إنا لنراجعه ، فقلت : تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله ، يا بنية لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها .

واعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا ، منقطعا عنهن في مشربة منعزلة ، واستأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات حتى أذن له . قال عمر : فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه ، فقلت : أطلّقت يا رسول الله نساءك ؟ فرفع رأسه إليّ وقال : " لا " ، فقلت : الله أكبر ، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرتُ أن تراجعني فقالت : ما تنكر أن أراجعك ؟ فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، قد دخلت على حفصة فقلت : لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك ، فتبسم أخرى ، فقلت : أستأنس يا رسول الله ؟ قال : " نعم " ، فجلست ، فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا هيبة مقامه ، فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك ، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله ، فاستوى جالسا ، وقال : أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " . فقلت : استغفر الله يا رسول الله وكان أقسم ألا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل . 5

اصطفاء الرسول :

يقول الله تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير } . ( الحج : 75 ) .

لقد اصطفى الله محمدا ليبلغ الرسالة الأخيرة للناس ، واختاره إنسانا تتمثل فيه العقيدة الإسلامية بكل خصائصها ، وتتجسم فيه بكل حقيقتها " ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها ، إنسانا قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلها ، ضليع التكوين الجسدي ، قوي البنية ، سليم البناء ، صحيح الحواس ، يقظ الحس ، يتذوق المحسوسات تذوقا كاملا سليما ، وهو في ذات الوقت ضخم العاطفة ، حي الطبع ، سليم الحساسية ، يتذوق الجمال ، متفتح للتلقي والاستجابة ، وهو في الوقت ذاته كبير العقل ، واسع الفكر ، فسيح الأفق ، قوي الإرادة ، يملك نفسه ولا تملكه ، ثم هو بعد ذلك كله النبي الذي تشرق روحه بالنور الكلي ، والذي تطيق روحه الإسراء والمعراج ، والذي ينادي من السماء ، والذي يرى نور ربه ، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كل شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر ، فيسلم عليه الحصى والحجر ، ويحن له الجذع ، ويرتجف به جبل أحد ، ثم تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلها فإذا هي التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها " 6

مع السورة

1- حرّم النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية على نفسه ، أو حرم العسل على نفسه ، مرضاة لزوجاته ، وتنزل وحي السماء يفيد أن ما أحله الله لا ينبغي أن يحرمه الإنسان .

2- أباح الله للإنسان إذا حرّم حلالا أو أقسم على يمين ورأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ثم يكفّر عن يمينه .

3- أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بتحريم مارية ، وأن أبا بكر وعمر يليان أمر هذه الأمة من بعده ، وأمرها أن تكتم ذلك ، ولكنها لم تكتمه ، وأخبرت به عائشة ، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فَلاَمَ حفصة على إفشاء سره ، وأخبرها أنه لم يعلم هذا السر من عائشة ولكن من العليم الخبير .

4- أدّبت السورة عائشة وحفصة ، وبيّنت أن التآمر وإفشاء السر مؤلم للنبي ، ومقلق لهذا القلب الكبير ، وهذا أمر يستحق التوبة والإنابة ، ثم بينت أن إيلام النبي صلى الله عليه وسلم أمر كريه وسيرتد الكيد على صاحبه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم معه قوة غالبة ، يكفي أن معه الله والملائكة وصالح المؤمنين .

5- هدد الله نساء النبي بالطلاق ، وبأن يعوضه الله منهن بنساء هن المثل العليا في القنوت والعبادة والتوبة والجمال ، وقد أثمر هذا التهديد ثمرته ، فعادت نساؤه إلى الطاعة والخضوع ، واستأنف النبي صلى الله عليه وسلم حياته متفرغا لرسالته ، وتبليغ دعوته ومرضاة ربه ، قرير العين في بيته ومع أسرته .

والآيات ترسم صورة من الحياة البيتية لهذا الرجل الذي كان ينهض بإنشاء أمة ، وإقامة دولة ، على غير مثال معروف ، وعلى غير نسق مسبوق ، أمة تنهض بحمل أمانة العقيدة الإلهية في صورتها الأخيرة ، وتنشئ في الأرض مجتمعا ربانيا في صورة واقعية يتأسى بها الناس .

وفي ظلال هذا الحادث تهيب الآيات ( 6-9 ) بالذين آمنوا ليؤدوا واجبهم في بيوتهم ، من التربية والتوجيه والتذكير ، فيقوا أنفسهم وأهليهم من النار ، وترسم لهم مشهدا من مشاهدها وحال الكفار عندها .

ثم تجدد الدعوة إلى التوبة النصوح ، وتصور لهم الجنة التي تنتظر التائبين ، ثم تدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الكفار والمنافقين وحماية المجتمع الإسلامي من الداخل والخارج .

فالآيات الأولى ( 1-5 ) دعوة لتوبة نساء النبي وحماية بيته ونفسه .

والآيات التالية ( 6-9 ) دعوة لتوبة المؤمنين ومحافظتهم على تربية أولادهم وبناتهم لأن الأسرة هي قوام المجتمع .

ثم تجيء الجولة الثالثة والأخيرة ، وكأنها التكملة المباشرة لتهديد عائشة وحفصة ، فقد تحدثت الآيات ( 10-12 ) عن امرأة نوح وامرأة لوط ، كمثل للكفر في بيت مؤمن ، وهو تهديد مستتر لكل زوجة تخون زوجها وتخون رسالته ودعوته ، فلن ينجيها من العذاب أن أقرب الناس إليها نبي رسول أو داعية كريم .

ولا يضر المرأة المؤمنة أن يكون أقرب الناس إليها طاغية جبارا أو ملكا متسلطا معتديا ، وقد ذُكرت امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر ، وجعلت السورة في ختامها نموذجا رفيعا للمرأة المؤمنة يتمثل في آسية امرأة فرعون التي استعلت على المال والملك والجاه والسلطان ورغبت فيما عند الله .

ويتمثل في مريم ابنة عمران ، المتطهرة المؤمنة ، القانتة المصدقة بكلمات ربها وكتبه .

وبذلك نجد المرأة تسير في ركب الإيمان ، ويتحدث القرآن عنها كنموذج للخير يتمثل في أم موسى ، وفي أم عيسى ، وفي بلقيس التي أسلمت لله رب العالمين ، وفي امرأة فرعون التي زهدت في ملك فرعون ورغبت في ثواب الله رب العالمين .

المعنى الإجمالي للسورة

قال الفيروزبادي :

معظم مقصود سورة التحريم ما يأتي : عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في التحريم والتحليل قبل ورود وحي سماوي ، وتعيير الأزواج الطاهرات على إيذائه وإظهار سره ، والأمر بالتحذير والتجنب من جهنم ، والأمر بالتوبة النصوح ، والوعد بإتمام النور في القيامة ، والأمر بجهاد الكفار بطريق السياسة ، ومع المنافقين بالبرهان والحجة ، وبيان أن القرابة غير نافعة بدون الإيمان والمعرفة ، وأن قرب المفسدين لا يضر مع وجود الصدق والإخلاص ، والخبر عن صدق إيمان امرأة فرعون ، وتصديق مريم بقوله : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } . ( التحريم : 12 ) .

بعض أحوال نساء النبي صلى الله عليه وسلم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 1 ) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 2 ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ( 3 ) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ( 4 ) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ( 5 ) }

1

المفردات :

تحرّم : تمتنع

ما أحل الله : العسل ، أو مارية القبطية .

تبتغي : تطلب .

التفسير :

1- { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .

هناك روايتان في سبب نزول هذه الآية :

الرواية الأولى :

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحفصة بنت عمر : لقد حرّمت مارية على نفسي . استرضاء لها ، لأن حفصة كانت في زيارة أبيها ، وجاءت مارية القبطية من عوالي المدينة ، فدخلت في بيت حفصة ، فلما جاءت حفصة أخبروها بأن مارية في حجرتها ، فتغيّظت من ذلك ، وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أراك إلا أعرست بها على سريري ، وما كنت تفعلها لولا هواني عليك ، فقال صلى الله عليه وسلم لحفصة : " إني حرّمت مارية على نفسي فاكتمي علي " . لكنّ حفصة أخبرت عائشة بذلك ، وكانتا متصادقتين ، فعاتبهما الله تعالى .

الرواية الثانية :

أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على زينب فشرب عسلا ، فاتفقت عائشة وحفصة إذا دخل على واحدة منهما أن تقول له : نشمّ منك رائحة مغافير – وهو طعام حلو كريه الريح – فلما قالتا له ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : " شربت عسلا عند زينب ، ولن أعود إليه " ، وحلف فنزلت : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ . . . }

وذكر العلماء : أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما وقع منه الأمران : تحريم مارية ، وبعد فترة قريبة حرّم العسل على نفسه ، فنزلت الآية عقب الأمرين جميعا .

والإمام الطبري يذكر أن المستفاد من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرّم على نفسه شيئا ما قد أحله الله له ، فحرّمه على نفسه تطييبا لخاطر نسائه ، لكن الله تعالى لامه على ذلك ، وأحلّ له العدول عن اليمين ، والاستمتاع بهذا الحلال .

وقد يكون ما حرّمه على نفسه هو مارية القبطية ، وقد يكون العسل ، وقد يكون غير ذلك . 1 . ه .

فعاتبه الله تعالى على ما بدر منه ، رفقا به ، وتنويها بقدره ، وإجلالا لمنصبه صلى الله عليه وسلم ، أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشقّ عليه ، مع أنه أنف لطف الله به .

ومعنى الآية :

يا أيها النبي الموحى إليك ، الذي فضله الله ، وختم به الرسل ، لِمَ تحرِّم على نفسك ما أحله الله لك ، مثل العسل ، أو مارية القبطية ، تبتغي بذلك مرضاة عائشة وحفصة ، والله غفور رحيم ، يغفر لك ويرحمك برحمته الواسعة .

ونلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حرّم العسل أو مارية ، بمعنى التحريم الشرعي ، وإنما كان قد قرر حرمان نفسه من العسل أو من مارية ، فجاء هذا العتاب بأنّ ما جعله الله حلالا ، لا يجوز حرمان النفس من عمدا وقصدا ، إرضاء لأحد .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية ، وآياتها اثنتا عشر

بسم الله الرحمان الرحيم

وتسمى سورة النبي صلى الله عليه وسلم

{ لم تحرم ما أحل الله لك } روى في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زوجه زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا ، كان يحب الحلواء والعسل ؛ فتواصت عائشة وحفصة – لما وقع في نفسهما من الغيرة من ضرتهما – أن أيتهما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير ! أكلت مغافير ! [ هو صمغ حلو ينضجه شجر العرفط يؤخذ ثم ينضح بالماء فيشربن وله رائحة كريهة ] فدخل صلى الله عليه وسلم على حفصة فقالت له ذلك . فقال : ( لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ) . فقالت : جرست نحله العرفط – أي أكلت ورعت - ؛ فحرم العسل وقال : ( لن أعود . وقد حلفت فلا تخبري أحدا ) . فأخبرت عائشة بذلك كله ؛ فأطلعه الله تعالى على إفشائها القصة لعائشة . فأعلم حفصة ببعض الحديث الذي أفشته وقد استكتمها إياه ، ولم يخبرها بباقيه تكرما لما فيه من مزيد خجلتها ، والكريم لا يستقصي فظنت حفصة أن عائشة هي التي أخبرته بالقصة ؛ فقالت له صلى الله عيه وسلم : " من أنبأك هذا " ؟ فقال : " نبأني العليم الخبير " . وقد عاتب الله نبيه – رفقا به ، وتنويها بقدره ، وإجلالا لمنصبه – أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه . وذلك جريا على ما ألف من لطف الله به ، وشرع ولامته التحلل من اليمين بالكفارة رأفة ورحمة . وعاتب حفصة وعائشة إذ مالتا عن الواجب عليهما من مخالفته صلى الله عليه وسلم بحب ما يحبه ، وكراهة ما يكرهه ، إلى مخالفته وتدبيره ما عساه يشق عليه .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التحريم مدنية وآياتها اثنتا عشرة ، نزلت بعد سورة الحجرات . وهي تسمى سورة النبي ، لأنها تعرض في أولها صفحة من الحياة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصورة من الانفعالات الإنسانية بين بعض نسائه ، وبينهن وبينه ، وانعكاس هذه الانفعالات وما يترتب عليها في حياته صلى الله عليه وسلم ، وفي المجتمع الإسلامي آنذاك ، ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ذلك .

وقد مر معنا في سورة الحجرات وصف حجرات النبي ، وأنها كانت بسيطة جدا ، فهي من لبن وسقفها من الجريد ، وأبوابها ستائر من الخيش والشَعر .

وكانت حياته صلى الله عليه وسلم في بيته بسيطة غاية البساطة . وكما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : كان إذا خلا بنسائه ألينَ الناس ، وأكرم الناس ، ضحّاكا بسّاما . وكان يستمتع بنسائه ويمتعهن من ذات نفسه ، ومن فيض قلبه ، ومن حسن أدبه ، ومن كريم معاملته ، وكما تقول عائشة : كان في بيته في خدمة أهله .

فأما حياته المادية وحياة أزواجه فكانت في غالبها كفافا بعد أن افتُتحت له الفتوح وتبحبح المسلمون بالغنائم والفيء ، تقول السيدة عائشة : يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيت رسول الله نار .

وكان يقع بين نسائه بعض الشجار ، يغار بعضهن من بعض ، شأن بقية الناس . وكانت بعضهن تتآمر على غيرها من ضرائرها وهكذا . . .

والحادث الذي نزل بشأنه أول هذه السورة الكريمة واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول الكريم ، وفي حياة أزواجه . وقد وردت في ذلك عدة روايات لا مجال لذكرها ، لكنا سنذكر بعضها عند تفسير الآيات .

أشارت السورة الكريمة إلى أمر من هذه الأمور أغضب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض زوجاته ، فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النفوس مما أحله الله له ، وحذَّرَت زوجاته مغبّة ما أقدمن عليه . ثم انتقلت السورة إلى أمر المؤمنين أن يقوا أنفسهم وأهليهم نارا وقودها الناس والحجارة ، وبينت أنه لا يُقبل من الكافرين اعتذار يوم القيامة ، ودعت المؤمنين إلى التوبة ، كما دعت الرسول الكريم إلى جهاد الكفار والمنافقين والشدة معهم . ثم خُتمت سورة التحريم بضرب بعض الأمثلة : إن صلاح الأزواج لا يرد عذاب الله عن زوجاتهم المنحرفات ، وأن فساد الأزواج لا يضر الزوجات إن كن صالحات مستقيمات ، { كل نفس بما كسبت رهينة } . . .

تحرّم : تمتنع عن .

تبتغي : تطلب .

الحديث في هذه الآيات الكريمة عما كان يجري في بيتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالرسول الكريم بشَرٌ يجري في بيته ما يكونُ في بيوت الناس ، من شِجارٍ بين أزواجه وغيرةٍ وما شابه ذلك .

وقد وردتْ رواياتٌ متعدّدة في سبب نزول الآيات ، من أصحُّها أنه شربَ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش ، فغارت عائشةُ وحفصةُ من ذلك . واتّفقتا أنّ أيّ واحدةٍ منهما دخلَ عليها النبي الكريم تقول له : إنّي أجِدُ منك ريحَ مغافير . ( والمغافيرُ صَمغٌ حلو له رائحةٌ كريهة ) .

وأولَ ما دخل على حفصةَ قالت له ذلك ، فقال لها : بل شربتُ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش ، ولن أعودَ له . وأُقسِم على ذلك ، فلا تُخبري بذلك أحدا .

فأخبرت حفصةُ بذلك عائشةَ وكانتا ، كما تقدّم ، متصافيتَين متفقتين . . . . فعاتبَ الله تعالى نبيَّه على تحريمِه ما أحلَّه الله له كي يُرضيَ بعضَ زوجاته .

وبعدَ عتابِه الرقيق وندائه : يا أيّها النبيّ . . . . قال تعالى { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التحريم

مدنية وآياتها اثنتا عشرة

{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } وسبب نزولها ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبيد الله بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء ويحب العسل ، وكان إذا صلى العصر دخل على نسائه فيدنو منهن ، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس ، فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شربة ، فقلت : أما والله لنحتالن له ، فذكرت ذلك لسودة ، وقلت : إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له : يا رسول الله أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول : لا ، فقولي له : ما هذه الريح وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح ، فإنه سيقول : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي له : يا رسول الله جرست نحله العرفط ، وسأقول ذلك وقوليه أنت يا صفية ، فلما دخل على سودة ، تقول سودة : والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب ، فرقاً منك ، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله أكلت مغافير ؟ قال : لا ، قلت : فما بال هذه الريح ! قال : سقتني حفصة شربة عسل ، قالت : جرست نحلة العرفط ، فلما دخل علي قلت له مثل ذلك ، ودخل على صفية فقالت له مثل ذلك ، فلما دخل على حفصة قالت له : يا رسول الله ألا أسقيك منه قال : لا حاجة لي به ، قالت : تقول سودة : سبحان الله لقد حرمناه ، قالت : قلت لها اسكتي " .

وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحسن بن محمد الصباح ، حدثنا الحجاج عن ابن جريج قال : زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول " سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً فتواطيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها الرسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير ، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك ، فقال : لا بأس شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له ، فنزلت : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك } إلى قوله :{ إن تتوبا إلى الله } لعائشة وحفصة ، { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً } لقوله : بل شربت عسلاً " . وبهذا الإسناد قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا هشام بن يوسف ، عن ابن جريح ، عن عطاء بإسناده وقال : قال : لا ، ولكن كنت أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش فلن أعود له ، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً ، يبتغي بذلك مرضاة أزواجه . وقال المفسرون : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها ، فلما خرجت أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة ، فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت البابا مغلقاً ، فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً ، وحفصة تبكي فقال : ما يبكيك ؟ فقالت : إنما أذنت لي من أجل هذا ، أدخلت أمتك بيتي ، ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي ، أما رأيت لي حرمة وحقاً ؟ ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أليست هي جاريتي أحلها الله لي ؟ اسكتي فهي حرام علي ألتمس بذاك رضاك ، فلا تخبري بهذا امرأة منهن . فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار التي بينها وبين عائشة فقالت : ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية ، وقد أراحنا الله منها ، وأخبرت عائشة بما رأت ، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها ، فأنزل الله عز وجل :{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } يعني العسل ومارية { تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة التحريم مدنية.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

سورة التحريم مدنية في قول الجميع.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

تسمى سورة النبي صلى الله عليه وسلم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

مقصودها:

الحث على تقدير التدبير في الأدب مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم مع سائر العباد والندب إلى التخلق بالأدب الشرعي وحسن المباشرة لا سيما للنساء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في حسن عشرته وكريم صحبته...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

عندما جرى قدر الله أن يجعل الإسلام هو الرسالة الأخيرة؛ وأن يجعل منهجه هو المنهاج الباقي إلى آخر الخليقة؛ وأن تجري حياة المؤمنين به وفق الناموس الكوني العام؛ وأن يكون هذا الدين هو الذي يقود حياة البشرية ويهيمن على نشاطها في كل ميدان..

عندما جرى قدر الله بهذا كله جعل الله هذا المنهج في هذه الصورة، شاملا كاملا متكاملا، يلبي كل طاقات البشر واستعداداتهم، في الوقت الذي يرفع هذه الطاقات وهذه الاستعدادات إلى الأفق اللائق بخليفة الله في الأرض، وبالكائن الذي كرمه الله على كثير من عباده، ونفخ فيه من روحه.

وجعل طبيعة هذا الدين الانطلاق بالحياة إلى الأمام: نموا وتكاثرا، ورفعة وتطهرا، في آن واحد. فلم يعطل طاقة بانية، ولم يكبت استعدادا نافعا. بل نشط الطاقات وأيقظ الاستعدادات وفي الوقت ذاته حافظ على توازن حركة الاندفاع إلى الأمام مع حركة الارتفاع إلى الأفق الكريم، الذي يهيئ الأرواح في الدنيا لمستوى نعيم الآخرة، ويعد المخلوق الفاني في الأرض للحياة الباقية في دار الخلود.

وعندما جرى قدر الله أن يجعل طبيعة هذه العقيدة هكذا جرى كذلك باختيار رسولها [صلى الله عليه وسلم] إنسانا تتمثل فيه هذه العقيدة بكل خصائصها، وتتجسم فيه بكل حقيقتها، ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها. إنسانا قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلها. ضليع التكوين الجسدي، قوي البنية، سليم البناء؛ صحيح الحواس، يقظ الحس، يتذوق المحسوسات تذوقا كاملا سليما. وهو في ذات الوقت ضخم العاطفة، حي الطبع، سليم الحساسية، يتذوق الجمال، متفتح للتلقي والاستجابة. وهو في الوقت ذاته كبير العقل، واسع الفكر، فسيح الأفق، قوي الإرادة، يملك نفسه ولا تملكه.. ثم هو بعد ذلك كله.. النبي.. الذي تشرق روحه بالنور الكلي، والذي تطيق روحه الإسراء والمعراج، والذي ينادى من السماء، والذي يرى نور ربه، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كل شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر، فيسلم عليه الحصى والحجر، ويحن له الجذع، ويرتجف به أحد -الجبل..!.. ثم تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلها. فإذا هو التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها..

ثم يجعل الله حياته الخاصة والعامة كتابا مفتوحا لأمته وللبشرية كلها، تقرأ فيه صور هذه العقيدة، وترى فيه تطبيقاتها الواقعية. ومن ثم لا يجعل فيها سرا مخبوءا، ولا سترا مطويا. بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العادي. حتى مواضع الضعف البشري الذي لا حيلة فيه لبشر. بل إن الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول [صلى الله عليه وسلم] للناس!

إنه ليس له في نفسه شيء خاص. فهو لهذه الدعوة كله. فعلام يختبئ جانب من حياته [صلى الله عليه وسلم] أو يخبأ؟ إن حياته هي المشهد المنظور القريب الممكن التطبيق من هذه العقيدة؛ وقد جاء [صلى الله عليه وسلم] ليعرضها للناس في شخصه، وفي حياته، كما يعرضها بلسانه وتوجيهه. ولهذا خلق. ولهذا جاء.

ولقد حفظ عنه أصحابه [صلى الله عليه وسلم] ونقلوا للناس بعدهم- جزاهم الله خيرا -أدق تفصيلات هذه الحياة. فلم تبق صغيرة ولا كبيرة حتى في حياته اليومية العادية، لم تسجل ولم تنقل.. وكان هذا طرفا من قدر الله في تسجيل حياة هذا الرسول، أو تسجيل دقائق هذه العقيدة مطبقة في حياة الرسول. فكان هذا إلى جانب ما سجله القرآن الكريم من هذه الحياة السجل الباقي للبشرية إلى نهاية الحياة.

وهذه السورة تعرض في صدرها صفحة من الحياة البيتية لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] وصورة من الانفعالات والاستجابات الإنسانية بين بعض نسائه وبعض، وبينهن وبينه! وانعكاس هذه الانفعالات والاستجابات في حياته [صلى الله عليه وسلم] وفي حياة الجماعة المسلمة كذلك.. ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ما وقع في بيوت رسول الله وبين أزواجه.

والوقت الذي وقعت فيه الأحداث التي تشير إليها السورة ليس محددا. ولكن بالرجوع إلى الروايات التي جاءت عنه يتأكد أنه بعد زواج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من زينب بنت جحش قطعا.

ولعله يحسن أن نذكر هنا ملخصا عن قصة أزواج النبي، وعن حياته البيتية يعين على تصور الحوادث والنصوص التي جاءت بصددها في هذه السورة. ونعتمد في هذا الملخص على ما أثبته الإمام ابن حزم في كتابه: "جوامع السيرة".. وعلى السيرة لابن هشام مع بعض التعليقات السريعة:

أول أزواجه [صلى الله عليه وسلم] خديجة بنت خويلد. تزوجها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو ابن خمس وعشرين سنة وقيل ثلاث وعشرون، وسنها- رضي الله عنها -أربعون أو فوق الأربعين، وماتت- رضي الله عنها -قبل الهجرة بثلاث سنوات، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت. وقد تجاوزت سنه الخمسين.

فلما ماتت خديجة تزوج عليه السلام سودة بنت زمعة- رضي الله عنها -ولم يرو أنها ذات جمال ولا شباب. إنما كانت أرملة للسكران بن عمرو بن عبد شمس. كان زوجها من السابقين إلى الإسلام من مهاجري الحبشة. فلما توفي عنها، تزوجها رسول الله- [صلى الله عليه وسلم].

ثم تزوج عائشة -رضي الله عنها- بنت الصديق أبي بكر -رضي الله عنه وأرضاه- وكانت صغيرة، فلم يدخل بها إلا بعد الهجرة. ولم يتزوج بكرا غيرها. وكانت أحب نسائه إليه، وقيل كانت سنها تسع سنوات وبقيت معه تسع سنوات وخمسة أشهر. وتوفي عنها رسول الله [صلى الله عليه وسلم].

ثم تزوج حفصة بنت عمر -رضي الله عنه وعنها- بعد الهجرة بسنتين وأشهر. تزوجها ثيبا. بعدما عرضها أبوها على أبي بكر وعلى عثمان فلم يستجيبا. فوعده النبي خيرا منهما وتزوجها!

ثم تزوج زينب بنت خزيمة. وكان زوجها الأول عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب قد قتل يوم بدر. وتوفيت زينب هذه في حياته [صلى الله عليه وسلم]. وقيل كان زوجها قبل النبي هو عبد الله بن جحش الأسدي المستشهد يوم أحد. ولعل هذا هو الأقرب.

وتزوج أم سلمة. وكانت قبله زوجا لأبي سلمة، الذي جرح في أحد، وظل جرحه يعاوده حتى مات به. فتزوج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أرملته. وضم إليه عيالها من أبي سلمة.

وتزوج زينب بنت جحش. بعد أن زوجها لمولاه ومتبناه زيد بن حارثة فلم تستقم حياتهما فطلقها. وقد عرضنا قصتها في سورة الأحزاب في الجزء الثاني والعشرين، وكانت جميلة وضيئة. وهي التي كانت عائشة -رضي الله عنها- تحس أنها تساميها، لنسبها من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهي بنت عمته، ولوضاءتها!

ثم تزوج جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد غزوة بني المصطلق في أواسط السنة السادسة الهجرية. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها. قالت: " لما قسم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في أسهم الثابت ابن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة مليحة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول لله [صلى الله عليه وسلم] تستعينه في كتابتها. قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها! وعرفت أنه سيرى منها [صلى الله عليه وسلم] ما رأيت، فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله. أنا جويرية بنت الحارث بن أبي صرار سيد قومه. وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس -أو لابن عم له- فكاتبته على نفسي، فجئت أستعينك على كتابتي. قال: " فهل لك في خير من ذلك؟ " قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: " أقضي عنك كتابتك وأتزوجك؟ " قالت: نعم يا رسول الله. قال: " قد فعلت ""..

ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بعد الحديبية. وكانت مهاجرة مسلمة في بلاد الحبشة، فارتد زوجها عبيد الله بن جحش إلى النصرانية وتركها. فخطبها النبي [صلى الله عليه وسلم] وأمهرها عنه نجاشي الحبشة. وجاءت من هناك إلى المدينة.

وتزوج إثر فتح خيبر بعد الحديبية صفية بنت حيي بن أخطب زعيم بني النضير. وكانت زوجة لكنانة ابن أبي الحقيق وهو من زعماء اليهود أيضا. ويذكر ابن إسحاق في قصة زواجه [صلى الله عليه وسلم] منها: أنه أتي بها وبأخرى معها من السبي، فمر بهما بلال -رضي الله عنه- على قتلى من قتلى اليهود فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها. فقال [صلى الله عليه وسلم]: " اعزبوا عني هذه الشيطانة " وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد اصطفاها لنفسه. فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لبلال -فيما بلغني- حين رأى بتلك اليهودية ما رأى: " أنزعت منك الرحمة يا بلال؟ حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟".

ثم تزوج ميمونة بنت الحارث بن حزن، وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عباس، وكانت قبل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عند أبي رهم بن عبد العزى، وقيل حويطب بن عبد العزى، وهي آخر من تزوج [صلى الله عليه وسلم].

وهكذا ترى أن لكل زوجة من أزواجه [صلى الله عليه وسلم] قصة وسببا في زواجه منها. وهن فيمن عدا زينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث، لم يكن شواب ولا ممن يرغب فيهن الرجال لجمال. وكانت عائشة -رضي الله عنها- هي أحب نسائه إليه. وحتى هاتان اللتان عرف عنهما الجمال والشباب كان هناك عامل نفسي وإنساني آخر -إلى جانب جاذبيتهن- ولست أحاول أن أنفي عنصر الجاذبية الذي لحظته عائشة في جويرية مثلا، ولا عنصر الجمال الذي عرفت به زينب. فلا حاجة أبدا إلى نفي مثل هذه العناصر الإنسانية من حياة النبي [صلى الله عليه وسلم] وليست هذه العناصر موضع اتهام يدفعه الأنصار عن نبيهم. إذا حلا لأعدائه أن يتهموه! فقد اختير ليكون إنسانا. ولكن إنسانا رفيعا. وهكذا كان. وهكذا كانت دوافعه في حياته وفي أزواجه [صلى الله عليه وسلم] على اختلاف الدوافع والأسباب.

ولقد عاش في بيته مع أزواجه بشرا رسولا كما خلقه الله، وكما أمره أن يقول: (قل: سبحان ربي! هل كنت إلا بشرا رسولا؟)..

استمتع بأزواجه وأمتعهن، كما قالت عائشة -رضي الله عنها- عنه: " كان إذا خلا بنسائه ألين الناس. وأكرم الناس ضحاكا بساما".. ولكنه إنما كان يستمتع بهن ويمتعهن من ذات نفسه، ومن فيض قلبه، ومن حسن أدبه، ومن كريم معاملته. فأما حياتهن المادية فكانت في غالبها كفافا حتى بعد أن فتحت له الفتوح وتبحبح المسلمون بالغنائم والفيء. وقد سبق في سورة الأحزاب قصة طلبهن الوسعة في النفقة، وما أعقب هذا الطلب من أزمة، انتهت بتخييرهن بين الله ورسوله والدار الآخرة، أو المتاع والتسريح من عصمته [صلى الله عليه وسلم] فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة.

ولكن الحياة في جو النبوة في بيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لم تكن لتقضي على المشاعر البشرية، والهواتف البشرية في نفوس أزواجه -رضي الله عنهن- فقد كان يبدر أو يشجر بينهن، ما لابد أن يشجر في قلوب النساء في مثل هذه الحال. وقد سلف في رواية ابن إسحاق عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كرهت جويرية بمجرد رؤيتها لما توقعته من استملاح رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لها إذا رآها. وصح ما توقعته فعلا! وكذلك روت هي نفسها حادثا لها مع صفية. قالت. " قلت للنبي [صلى الله عليه وسلم]: حسبك من صفية كذا وكذا". قال الراوي: تعني قصيرة! فقال [صلى الله عليه وسلم]: " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته".. كذلك روت عن نفسها أن النبي [صلى الله عليه وسلم] حين نزلت آية التخيير التي في الأحزاب، فاختارت هي الله ورسوله والدار الآخرة، طلبت إليه ألا يخبر زوجاته عن اختيارها! -وظاهر لماذا طلبت هذا!- فقال [صلى الله عليه وسلم]: " إن الله تعالى لم يبعثني معنفا، ولكن بعثني معلما ميسرا. لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها..".

وهذه الوقائع التي روتها عائشة -رضي الله عنها- عن نفسها -بدافع من صدقها ولتربيتها الإسلامية الناصعة- ليست إلا أمثلة لغيرها تصور هذا الجو الإنساني الذي لابد منه في مثل هذه الحياة. كما تصور كيف كان الرسول [صلى الله عليه وسلم] يؤدي رسالته بالتربية والتعلية في بيته كما يؤديها في أمته سواء.

وهذا الحادث الذي نزل بشأنه صدر هذه السورة هو واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول [صلى الله عليه وسلم] وفي حياة أزواجه. وقد وردت بشأنه روايات متعددة ومختلفة سنعرض لها عند استعراض النصوص القرآنية في السورة.

وبمناسبة هذا الحادث وما ورد فيه من توجيهات. وبخاصة دعوة الزوجتين المتآمرتين فيه إلى التوبة. أعقبه في السورة دعوة إلى التوبة وإلى قيام أصحاب البيوت على بيوتهم بالتربية، ووقاية أنفسهم وأهليهم من النار. كما ورد مشهد للكافرين في هذه النار. واختتمت السورة بالحديث عن امرأة نوح وامرأة لوط كمثل للكفر في بيت مؤمن. وعن امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر، وكذلك عن مريم ابنة عمران التي تطهرت فتلقت النفخة من روح الله وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين..

يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك، تبتغي مرضاة أزواجك، والله غفور رحيم. قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم.

وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض، فلما نبأها به قالت: من أنبأك هذا؟ قال: نبأني العليم الخبير.

(إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما، وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير. عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا)..

وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة منها ما رواه البخاري عند هذه الآية قال: حدثنا إبراهيم ابن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها. فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير. إني أجد منك ريح مغافير. قال: " لا. ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له. وقد حلفت. لا تخبري بذلك أحدا".. فهذا هو ما حرمه على نفسه وهو حلال له: (لم تحرم ما أحل الله لك؟).

ويبدو أن التي حدثها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] هذا الحديث وأمرها بستره قالت لزميلتها المتآمرة معها. فأطلع الله رسوله [صلى الله عليه وسلم] على الأمر. فعاد عليها في هذا وذكر لها بعض ما دار بينها وبين زميلتها دون استقصاء لجميعه. تمشيا مع أدبه الكريم. فقد لمس الموضوع لمسا مختصرا لتعرف أنه يعرف وكفى. فدهشت هي وسألته: (من أنبأك هذا؟).. ولعله دار في خلدها أن الأخرى هي التي نبأته! ولكنه أجابها: (نبأني العليم الخبير).. فالخبر من المصدر الذي يعلمه كله. ومضمون هذا أن الرسول [صلى الله عليه وسلم] يعلم كل ما دار، لا الطرف الذي حدثها به وحده!

وقد كان من جراء هذا الحادث وما كشف عنه من تآمر ومكايدات في بيت الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن غضب. فآلى من نسائه لا يقربهن شهرا، وهم بتطليقهن -على ما تسامع المسلمون- ثم نزلت هذه الآيات. وقد هدأ غضبه [صلى الله عليه وسلم] فعاد إلى نسائه بعد تفصيل سنذكره بعد عرض رواية أخرى للحادث.

وهذه الرواية الأخرى أخرجها النسائي من حديث أنس، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها. فأنزل الله عز وجل: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك؛ تبتغي مرضات أزواجك...

وفي رواية لابن جرير ولابن أسحاق أن النبي [صلى الله عليه وسلم] وطئ مارية أم ولده إبراهيم في بيت حفصة. فغضبت وعدتها إهانة لها. فوعدها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بتحريم مارية وحلف بهذا. وكلفها كتمان الأمر. فأخبرت به عائشة.. فهذا هو الحديث الذي جاء ذكره في السورة.

وكلا الروايتين يمكن أن يكون هو الذي وقع. وربما كانت هذه الثانية أقرب إلى جو النصوص وإلى ما أعقب الحادث من غضب كاد يؤدي إلى طلاق زوجات الرسول [صلى الله عليه وسلم] نظرا لدقة الموضوع وشدة حساسيته. ولكن الرواية الأولى أقوى إسنادا. وهي في الوقت ذاته ممكنة الوقوع، ويمكن أن تحدث الآثار التي ترتبت عليها. إذا نظرنا إلى المستوى الذي يسود بيوت النبي، مما يمكن أن تعد فيه الحادثة بهذا الوصف شيئا كبيرا.. والله أعلم أي ذلك كان.

أما وقع هذا الحادث -حادث إيلاء النبي [صلى الله عليه وسلم] من أزواجه، فيصوره الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس- رضي الله عنهما -وهو يرسم كذلك جانبا من صورة المجتمع الإسلامي يومذاك.. قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن ابن عباس قال: " لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] اللتين قال الله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة، فتبرز، ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي [صلى الله عليه وسلم] اللتان قال الله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما)؟ فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس! [قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه] قال: هي عائشة وحفصة. قال: ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم. قال: وكان منزلي في دار أمية بن زيد بالعوالي. قال: فغضبت يوما على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني. فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل! قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله [صلى الله عليه وسلم]؟ قالت: نعم! قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم! قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ولا تسأليه شيئا وسليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم- أي أجمل -وأحب إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] منك- يريد عائشة -قال: وكان لي جار من الأنصار وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ينزل يوما وأنزل يوما، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك. قال: وكنا نتحدث أن غسان تنحل الخيل لتغزونا. فنزل صاحبي يوما ثم أتى عشاء فضرب بابي ثم نادى، فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم. فقلت: وما ذاك؟ أجاءت غسان؟ قال: لا. بل أعظم من ذلك وأطول! طلق رسول الله [صلى الله عليه وسلم] نساءه! فقلت: قد خابت حفصة وخسرت! قد كنت أظن هذا كائنا. حتى إذا صليت الصبح شددت على ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي. فقلت: أطلقكن رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ -فقالت: لا أدري. هو هذا معتزل في هذه المشربة. فأتيت غلاما أسودا فقلت: استأذن لعمر. فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال: ذكرتك له فصمت! فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم. فجلست عنده قليلا، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلي فقال: ذكرتك له فصمت! فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلي فقال: ذكرتك له فصمت! فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني. فقال: ادخل قد أذن لك. فدخلت فسلمت على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه. فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال: " لا". فقلت: الله أكبر! ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوما، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي [صلى الله عليه وسلم] ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله؛ فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقلت: يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] منك! فتبسم أخرى. فقلت: أستأنس يا رسول الله! قال: " نعم " فجلست، فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا هيبة مقامه فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالسا وقال: " أفي شك أنت يا بن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا". فقلت: استغفر لي يا رسول الله.. وكان أقسم ألا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل".. [وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري بهذا النص]..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

سبب نزولها حادثتان حدثتا بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

إحداهما: ما ثبت في الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شرب عسلا عند إحدى نسائه اختلف في أنها زينب بنت جحش، أو حفصة، أو أم سلمة، أو سودة بنت زمعة. والأصح أنها زينب. فعلمت بذلك عائشة فتواطأت هي وحفصة على أن أيتهما دخل عليها تقول له إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، والمغافير صمغ شجر العرفط وله رائحة مختمرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه رائحة، وإنما تواطأتا على ذلك غيرة منهما أن يحتبس عند زينب زمانا يشرب فيه عسلا. فدخل على حفصة فقالت له ذلك، فقال: بل شربت عسلا عند فلانة ولن أعود له، أراد بذلك استرضاء حفصة في هذا الشأن وأوصاها أن لا تخبر بذلك عائشة لأنه يكره غضبها فأخبرت حفصة عائشة فنزلت الآيات.

هذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآيات. والتحريم هو قوله: ولن أعود له. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا صدقا، وكانت سودة تقول لقد حرمناه.

والثانية ما رواه ابن القاسم في المدونة عن مالك عن زيد بن أسلم قال: حرم رسول الله أم إبراهيم جاريته فقال والله أطؤك ثم قال: هي علي حرام فأنزل الله تعالى {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك}.

وتفصيل هذا الخبر ما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة فوجدته حفصة معها، وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها. فقالت حفصة: تدخلها بيتي ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها. قيل: فقالت له حفصة: كيف تحرم عليك وهي جاريتك فحلف لها أن لا يقربها فذكرته حفصة لعائشة فآلى أن لا يدخل على نسائه شهرا فأنزل الله تعالى {يا أيها النبي لما تحرم ما أحل الله لك}. وهو حديث ضعيف.

أغراض هذه السورة:

ما تضمنه سبب نزولها أن أحدا لا يحرم على نفسه ما أحل الله له لإرضاء أحد إذ ليس ذلك بمصلحة له ولا للذي يسترضيه فلا ينبغي أن يجعل كالنذر إذ لا قربة فيه وما هو بطلاق لأن التي حرمها جارية ليست بزوجة، فإنما صلاح كل جانب فيما يعود بنفع على نفسه أو ينفع به غيره نفعا مرضيا عند الله وتنبيه نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن غيرة الله على نبيه أعظم من غيرتهن عليه وأسمى مقصدا.

وأن الله يطلعه على ما يخصه من الحادثات.

وأن من حلف على يمين فرأى حنثها خيرا من برها أن يكفر عنها ويفعل الذي هو خير. وقد ورد التصريح بذلك في حديث وفد عبد القيس عن رواية أبي موسى الأشعري، وتقدم في سورة براءة.

وتعليم الأزواج أن لا يكثرن من مضايقة أزواجهن فإنها ربما أدت إلى الملال فالكراهية فالفراق.

وموعظة الناس بتربية بعض الأهل بعضا ووعظ بعضهم بعضا.

وأتبع ذلك بوصف عذاب الآخرة ونعيمها وما يفضي إلى كليهما من أعمال الناس صالحاتها وسيئاتها.

وذيل ذلك بضرب مثلين من صالحات النساء وضدهن لما في ذلك من العظمة لنساء المؤمنين ولأمهاتهم.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ملاحظة: تتكوّن هذه السورة من أربعة أقسام رئيسيّة: القسم الأوّل: يرتبط بقصّة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع بعض أزواجه حينما حرم بعض أنواع الطعام على نفسه، فنزلت الآيات من 1 -5 وفيها لوم لزوجات الرّسول لأسباب سنذكرها في سبب النزول.

القسم الثّاني: خطاب لكلّ المؤمنين في شؤون التربية ورعاية العائلة ولزوم التوبة من الذنوب، وهو من الآية 6- 8.

القسم الثّالث: وهو الآية التاسعة التي تتضمّن خطاباً إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بضرورة مجاهدة الكفّار والمنافقين.

القسم الرّابع: وهو القسم الأخير للسورة، من الآية 10 – 12، ويتضمّن توضيحاً للأقسام السابقة بذكر نموذجين صالحين للنساء، وهما (مريم العذراء، وزوجة فرعون) ونموذجين غير صالحين (زوجة نوح، وزوجة لوط) ويحذّر نساء النبي من هذين النموذجين الأخيرين ويدعوهنّ إلى الاقتداء بالنموذجين الأوّلين...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبيّ المحرّم على نفسه ما أحلّ الله له، يبتغي بذلك مرضاة أزواجه، لم تحرّم على نفسك الحلال الذي أحله الله لك، تلتمس بتحريمك ذلك مرضاة أزواجك.

واختلف أهل العلم في الحلال الذي كان الله جلّ ثناؤه أحله لرسوله، فحرّمه على نفسه ابتغاء مرضاة أزواجه؛ فقال بعضهم: كان ذلك مارية مملوكته القبطية، حرّمها على نفسه بيمين أنه لا يقربها طالبا بذلك رضا حفصة بنت عمر زوجته، لأنها كانت غارت بأن خلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في يومها وفي حجرتها...

وقال آخرون: بل حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته، فجعل الله عزّ وجلّ تحريمه إياها بمنزلة اليمين، فأوجب فيها من الكفارة مثل ما أوجب في اليمين إذا حنث فيها صاحبها...

وقال آخرون: كان ذلك شرابا يشربه، كان يعجبه ذلك... والصواب من القول في ذلك أن يقال: كان الذي حرّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز أن يكون كان شرابا من الأشربة، وجائز أن يكون كان غير ذلك، غير أنه أيّ ذلك كان، فإنه كان تحريم شيء كان له حلالاً، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان له قد أحله، وبين له تحلّة يمينه كان حلف بها مع تحريمه ما حرّم على نفسه.

فإن قائل قائل: وما برهانك على أنه صلى الله عليه وسلم كان حلف مع تحريمه ما حرم، فقد علمت قول من قال: لم يكن من النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك غير التحريم، وأن التحريم هو اليمين؟ قيل: البرهان على ذلك واضح، وهو أنه لا يعقل في لغة عربية ولا عجمية أن قول القائل لجاريته، أو لطعام أو شراب، هذا عليّ حرام يمين، فإذا كان ذلك غير معقول، فمعلوم أن اليمين غير قول القائل للشيء الحلال له: هو عليّ حرام. وإذا كان ذلك كذلك صحّ ما قلنا، وفسد ما خالفه، وبعد، فجائز أن يكون تحريم النبيّ صلى الله عليه وسلم ما حرّم على نفسه من الحلال الذي كان الله تعالى ذكره، أحله له بيمين، فيكون قوله" لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ "معناه: لم تحلف على الشيء الذي قد أحله الله أن لا تقربه، فتحرّمه على نفسك باليمين...

وقوله: "وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" يقول تعالى ذكره: والله غفور يا محمد لذنوب التائبين من عباده من ذنوبهم، وقد غفر لك تحريمك على نفسك ما أحله الله لك، "رحيم" بعباده أن يعاقبهم على ما قد تابوا منه من الذنوب بعد التوبة.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

تأويله عندنا، والله أعلم، على وجهين:

أحدهما: أن تحريم ما أحل الله تعالى، هو أن يعتقد تحريم المحلل وتحليل المحرم في ما حرم الله تعالى مطلقا. فمن اعتقد تحريمه حكم عليه بالكفر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتقد تحريم ما أحل الله، إذ لم ير جماعها عليه محرما، بل امتنع عن الانتفاع بها باليمين. والحرمة التي تثبت بسبب اليمين، لم تكن من فعل الآدميّ...

والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ندب إلى حسن العشرة مع أزواجه إلى الشفقة عليهن، فبلغ في حسن العشرة والصحبة مبلغا، امتنع عن الانتفاع بما أحل الله له وأباح له التلذذ به، يبتغي به حسن عشرتهن، ويطلب به مرضاتهن. فقال: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل لله لك} أي لا تبلغن بك الشفقة عليهن وحسن العشرة معهن مبلغا تمتنع عن الانتفاع بما أحل الله لك... وقوله تعالى: {والله غفور رحيم} أي غفور لما تقدم من ذنبك وما تأخر، لو كان، أو يكون، {رحيم} حين لم يعاقبك بما اجترأت من الإقدام على اليمين لا بإذن سبق من الله لك فيه...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

الإشارةُ فيه: وجوبُ تقديم حقِّ الله -سبحانه- على كل شيء في كل وقت...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{يا أيها النبي}: نداء إقبال وتشريف وتنبيه بالصفة على عصمته مما يقع فيه من ليس بمعصوم؛ {لم تحرم}: سؤال تلطف، ولذلك قدم قبله {يا أيها النبي}، كما جاء في قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} ومعنى {تحرم}: تمنع، وليس التحريم المشروع بوحي من الله، وإنما هو امتناع لتطييب خاطر بعض من يحسن معه العشرة...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ختم سبحانه الطلاق بإحاطة علمه وتنزل أمره بين الخافقين في تدبيره، دل عليه أول هذه بإعلاء أمور الخلق بأمر وقع بين خير خلقه وبين نسائه اللاتي من خير النساء واجتهد كل في إخفاء ما تعلق به منه فأظهره سبحانه عتاباً لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم في صورة عقابه لأنه أبلغ رفقاً به لأنه يكاد من شفقته أن يبخع نفسه الشريفة رحمة لأمته تارة لطلب رضاهم وأخرى رغبة في هداهم، لأنه صلى الله عليه وسلم بالغ في تهذيب أخلاقه مع ما طهره الله به من نزاهتها عن كل دنس حتى ضيق عليها بالامتناع عن بعض ما أبيح له حفظاً لخاطر الغير، فقال تعالى منادياً له بأداة البعد وهو أقرب أهل الحضرة مع أنها معدة لما يكون ذا خطب جليل ومعنى جسيم جليل، وفيها إيماء إلى تنبيه الغير وإسماعه إرادة لتأديبه وتزكيته وتهذيبه: {يا أيها النبي} مخاطبه بالوصف الذي يعلم بالعصمة ويلائمه أشد الملاءمة خلو البال وسرور القلب وانشراح الصدر لأنه للتلقي عن الله تعالى فيحث كل سامع على البعد عن كل ما يشوش عليه صلى الله عليه وسلم أدنى تشويش {لم تحرم} أي تفعل فعل المحرم بمنع نفسك الشريفة {ما أحل الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه {لك} بالوعد لبعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بالامتناع من شرب العسل الذي كان عند حفصة أو زينب رضي الله عنهما والامتناع من ملامسة سريتك مارية رضي الله تعالى عنها فتضيق على نفسك لإحسان العشرة مع نسائك رضي الله عنهن أجمعين... ثم علل ذلك سبحانه بقوله: {تبتغي} أي تريد إرادة عظيمة من مكارم أخلاقك وحسن صحبتك {مرضات أزواجك} أي الأحوال والمواضع والأمور التي يرضين بها ومن أولى بأن تبتغين رضاك وكذا جميع الخلق لتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد.

ولما كان أعلى ما يقع به المنع من الأشياء من جهة العباد الإيمان، وكان تعالى قد جعل من رحمته لعباده لإيمانهم كفارة قال: {والله} أي تفعل ذلك لرضاهن والحال أن الله الملك الأعلى {غفور رحيم} أي محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

{والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيه تعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم بأن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي الكريم يعد كالذنب وإن لم يكن في نفسه كذلك، وأن عتابه صلى الله عليه وسلم ليس إلا لمزيد الاعتناء به...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هو عتاب مؤثر موح. فما يجوز أن يحرم المؤمن على نفسه ما أحله الله له من متاع. والرسول [صلى الله عليه وسلم] لم يكن حرم العسل أو مارية بمعنى التحريم الشرعي؛ إنما كان قد قرر حرمان نفسه. فجاء هذا العتاب يوحي بأن ما جعله الله حلالا فلا يجوز حرمان النفس منه عمدا وقصدا إرضاء لأحد.. والتعقيب: (والله غفور رحيم).. يوحي بأن هذا الحرمان من شأنه أن يستوجب المؤاخذة، وأن تتداركه مغفرة الله ورحمته. وهو إيحاء لطيف...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{لم تحرم} مستعمل في معنى النفي، أي لا يوجد ما يدعو إلى أن تحرّم على نفسك ما أحلّ اللَّه لك ذلك أنه لما التزم عدم العود إلى ما صدر منه التزاماً بيمين أو بدون يمين أراد الامتناع منه في المستقبل قاصداً بذلك تطمين أزواجه اللائي تمالأْنَ عليه لِفرط غيرتهن، أي ليست غيرتهن مما تجب مراعاته في المعاشرة إن كانت فيما لا هضم فيه لحقوقهن، ولا هي من إكرام إحداهن لزوجها إن كانت الأخرى لم تتمكن من إكرامه بمثل ذلك الإِكرام في بعض الأيام. وهذا يومئ إلى ضبط ما يراعى من الغيرة وما لا يراعَى. وفعل {تحرم}...

.وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حراماً... وفي الإِتيان بالموصول في قوله: {ما أحل الله لك} لما في الصلة من الإِيماء إلى تعليل الحكم هو أن ما أحله الله لعبده ينبغي له أن يتمتع به ما لم يعرض له ما يوجب قطعه من ضر أو مرض لأن تناوله شكرٌ لله واعترافٌ بنعمته والحاجة إليه. وفي قوله: {تبتغي مرضات أزواجك} عذر للنبي صلى الله عليه وسلم فيما فعله من أنه أراد به خيراً وهو جلب رضا الأزواج لأنه أعون على معاشرته مع الإشعار بأن مثل هذه المرضاة لا يعبأ بها لأن الغيرة نشأت عن مجرد معاكسة بعضهن بعضاً وذلك مما يختل به حسن المعاشرة بينهن، فأنبأه الله أن هذا الاجتهاد معارَض بأن تحريم ما أحلّ الله له يفضي إلى قطع كثير من أسباب شكر الله عند تناول نعمه وأن ذلك ينبغي إبطاله في سيرة الأمة. وذيل بجملة {والله غفور رحيم} استئناساً للنبيء صلى الله عليه وسلم من وحشة هذا الملام، أي والله غفور رحيم لك...

أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :

ومحل الاستدلال هو أن من ليس له حق في تحريم ما أحل الله له ابتغاء مرضاة أزواجه لا يحل له إحلال، وتجويز ما لا يجوز ابتغاء مرضاتهن، وهذا ظاهر بين ولله الحمد...

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

قد يفيد أسلوب الآيتين الأولى والثانية أن الله عز وجل لا يحب أن يحرم الإنسان على نفسه ما أباحه وأحله له. وأن الواجب إذا صدر من امرئ يمين بذلك أن يكفر عنه ويتمتع بما أباحه الله وأحله له...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وهذا المعنى لا يخرج عن كونه عتابا رقيقا من الحق سبحانه وتعالى لنبيه عليه السلام في بعض شؤونه العائلية، وتنبيها خفيفا إلى الحل الأمثل في أمره، فقد كان الوحي الإلهي يتتبع خطوات الرسول بالتوجيه والرعاية باستمرار لا فرق في ذلك بين حياته العامة، وحياته الخاصة... وكما أدّب رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجاته على ما فاه به بعضهن من الهفوات في حقه أوفي حق شريكاتهن، فاعتزلهن "من شدة موجدته عليهن " ها هو كتاب الله يدعوه إلى وضع حد لذلك الحادث الطارئ، واستئناف حياته العائلية في وئام وانسجام، بينه وبين زوجاته، وبين زوجاته بعضهن مع بعض، طبقا لما هو معهود في بيته الشريف. وليس غريبا من أمر الرسول عليه السلام أن يتأثر شعوره الرقيق من هفوات بعض الزوجات، لما تثيره بينهن من الحساسيات، ما دام عليه السلام هو في وقت واحد " بشرا رسولا"، وإن كان عند ربه وعند الناس بشرا لا كالبشر، وخاتم الأنبياء والمرسلين، {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم: 4). كما أنه ليس غريبا أن يقف كتاب الله إلى جانب رسوله في هذه الحادثة بالتوجيه والتسديد، ثم بالتأييد المطلق والتعضيد...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرم أمورا على نفسه ولم يحرمها على الناس.

وهنا يوضح له الحق سبحانه: لا تحرم على نفسك ما أحللت لك. إذن: هذا أمرٌ لمصلحة الرسول. فأمر التحريم موکولٌ إلى الخالق سبحانه وكذا أمر التحليل، وليس للإنسان أن يتدخل في ذلك أبدا، فتدخل الإنسان يكون أحيانا بتحريم ما أحل الله وأحيانا يكون تدخله بتحليل ما حرم الله. والله عز وجل يقول: {يأيها الذين آمنوا لا ترموا طيبات ما أحل الله لكم.. (87)} [المائدة].

وآية {يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله..} تشير إلى أمر أغضب النبي صلى الله عليه وسلم، فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النفس البشرية من أمور حلّلها الله.

والنبي لم يحل ما حرم الله بل حرم على نفسه ما أحل الله له، وهذا ضد مصلحته وكأن الحق سبحانه يسائله: لماذا ترهق نفسك؟ فهدا عتب لمصلحة النبي صلى الله عليه وسلم.

والتحريم تضييق على النفس، فالحق سبحانه يعتب على رسوله لأنه ضيق على نفسه، وحرم عليها ما أحله الله له، كما تعتب على ولدك الذي سهر طويلا في المذاكرة حتى أرهق نفسه، فالعتاب لصالح الرسول لا ضده.

والله تعالى أحل أشياء وحرم أشياء، فلا تنقل شيئا مما خرم إلى شيء أحل، ولا شيئا مما أحل إلى شيء محرم، كما قال الحق سبحانه: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق.. (32)} [الأعراف].

وربك يا محمد لا يضيق عليك، وينهاك أن تضيق على نفسك وتحرم عليها ما أحل لها، كما يلومك على أن تحلل ما حرم عليك، لأن ذلك في صالحك.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} من بعض مشتهياتك الذاتية، مما ترتاح له نفسك، فتزداد قوةً على ممارسة مسؤوليتك...

وقد كان النبي (ص) رفيقاً بمن حوله، بحيث كان يضغط على نفسه لحساب راحة الناس المحيطين به، لأنه كان الرؤوف الرحيم في أخلاقه الكريمة. ولهذا أراد الله أن يخفف عنه ذلك، فخاطبه خطاباً يشبه عتاب الحبيب للحبيب، متسائلاً: لماذا تحرّم على نفسك ما أباحه الله لك، {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} في ما كنت تريده من إدخال السرور عليهن، ولو على حساب أعصابك؟ وربما كان التحريم الذي صار سبباً للحرمة، كان ناشئاً من الحلف على ترك ما لا تريده بعض أزواجه، مما يوجب الإلزام بالترك على أساس وجوب التقيد باليمين. ومن هنا، جاءت هذه الآية لتحلّه منه بمقتضى تحليل الله له، فلا إثم في الحنث به. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فهو الذي يفتح مغفرته ورحمته لعباده ليمنحهم رضوانه، سواء كان ما فعلوه مما حرّمه عليهم، أو مما حرموه على أنفسهم باليمين ونحوه، أو بالالتزام الذاتي بالترك لما أباحه لهم...

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية في قول الجميع ، وهي اثنتا عشرة آية . وتسمى سورة " النبي " .

فيه خمس مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " يا أيها النبي لم تحرِّمُ ما أحل الله لك " ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي لله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا ، قالت : فتواطأت أنا وحفصة أن أَيَّتَنَا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير{[15119]} ! أكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك . فقال : ( بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له ) . فنزل : " لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله - إن تتوبا : ( لعائشة وحفصة ) ، " وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا " [ التحريم 30 ] لقوله : ( بل شربت عسلا ) . وعنها أيضا قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ، فكان إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنو منهن ، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس ، فسألت عن ذلك فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل ، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة . فقلت : أما والله لنحتالن له ، فذكرت ذلك لسودة وقلت : إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول لك لا . فقولي له : ما هذه الريح ؟ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح - فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل . فقولي له : جَرَسَتْ نَحْلُه العُرْفُط . وسأقول ذلك له ، وقوليه أنت يا صفية . فلما دخل على سودة - قالت : تقول سودة : والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي ، وإنه لعلى الباب ، فَرَقاً{[15120]} منك . فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ قال : ( لا ) قالت : فما هذه الريح ؟ قال : ( سقتني حفصة شربة عسل ) قال : جَرَسَتْ نحلُه العُرْفُط . فلما دخل علي قلت له مثل ذلك . ثم دخل على صفية فقالت بمثل ذلك . فلما دخل على حفصة قالت : يا رسول الله ، ألا أسقك منه . قال ( لا حاجة لي به ) قالت : تقول سودة سبحان الله ! والله لقد حرمناه{[15121]} . قالت : قلت لها اسكتي . ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة . وفي الأولى زينب . وروي ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة . وقد قيل : إنما هي أم سلمة ، رواه أسباط عن السدي . وقاله عطاء بن أبي مسلم . ابن العربي : وهذا كله جهل أو تصور بغير علم . فقال باقي نسائه حسدا وغيرة لمن شرب ذلك عندها : إنا لنجد منك ريح المغافير . والمغافير : بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة ، فيها حلاوة . واحدها مغفور ، وجرست : أكلت . والعُرْفُط : نبت له ريح كريح الخمر . وكان عليه السلام يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة أو يجدها ، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك . فهذا قول .

وقول آخر - أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها لأجل أزواجه ، قاله ابن عباس وعكرمة . والمرأة أم شريك . وقول ثالث - إن التي حرم مارية القبطية ، وكان قد أهداها له المقوقس ملك الإسكندرية . قال ابن إسحاق : هي من كُورة أنْصِنا{[15122]} من بلد يقال له حفن فواقعها في بيت حفصة . روي الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها - وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها - فقالت له : تدخلها بيتي ! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك . فقال لها : ( لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها ) قالت حفصة : وكيف تحرم عليك وهي جاريتك ؟ فحلف لها ألا يقربها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تذكريه لأحد ) . فذكرته لعائشة ، فآلى لا يدخل على نسائه شهرا ، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة ، فأنزل الله عز وجل " لم تحرم ما أحل الله لك " الآية .

الثانية- أصح هذه الأقوال أولها . وأضعفها أوسطها . قال ابن العربي : " أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته ، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها ؛ لأن من رد ما وهب له لم يحرم عليه ، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل . وأما من روي أنه حرم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى ، لكنه لم يدون في الصحيح . وروي مرسلا . وقد روي ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم فقال : ( أنت علي حرام والله لا آتينك ) . فأنزل الله عز وجل في ذلك : " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " وروي مثله ابن القاسم عنه . وروي أشهب عن مالك قال : راجعت عمر امرأة من الأنصار في شيء فاقشعر من ذلك وقال : ما كان النساء هكذا ! قال : بلى ، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه . فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة فقال لها : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت . فلما بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر نساءه قال : رغم أنف حفصة . وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه ، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك . ونزلت الآية في الجميع .

الثالثة- قوله تعالى : " لم تحرم " إن كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا . ولا يحرم قول الرجل : " هذا علي حرام " شيئا حاشا الزوجة . وقال أبو حنيفة : إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس ، وكانت يمينا توجب الكفارة . وقال زفر : هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون . وعول المخالف على أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل فلزمته الكفارة . وقد قال الله تعالى : " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " [ التحريم : 2 ] فسماه يمينا . ودليلنا قول الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا{[15123]} " [ المائدة : 87 ] ، وقوله تعالى : " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون{[15124]} " [ يونس : 59 ] . فذم الله المحرم للحلال ولم يوجب عليه كفارة . قال الزجاج : ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله . ولم يجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه . فمن قال لزوجته أو أمته : أنت علي حرام ، ولم ينو طلاقا ولا ظهارا ، فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين . ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة . ولو حرم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك . وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة .

الرابعة- واختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته : " أنت علي حرام " على ثمانية عشر قولا : أحدها : لا شيء عليه . وبه قال الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ . وهو عندهم كتحريم الماء والطعام ، قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " [ المائدة : 87 ] والزوجة من الطيبات ومما أحل الله . وقال تعالى : " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام{[15125]} " [ النحل : 116 ] . وما لم يحرمه الله فليس لأحد أن يحرمه ، ولا أن يصير بتحريمه حراما . ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله هو علي حرام . وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله : ( والله لا أقربها بعد اليوم ) فقيل له : لم تحرم ما أحل الله لك ، أي لم تمتنع منه بسبب اليمين . يعني أقدم عليه وكفر .

ثانيها : أنها يمين يكفرها ، قاله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم – والأوزاعي ، وهو مقتضى الآية . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : إذا حرم الرجل عليه امرأته فإنما هي يمين يكفرها . وقال ابن عباس : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرم جاريته فقال الله تعالى : " لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله تعالى - قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " فكفر عن يمينه وصير الحرام يمينا . خرجه الدارقطني .

ثالثها : أنها تجب فيها كفارة وليست بيمين ، قاله ابن مسعود وابن عباس أيضا في إحدى روايتيه ، والشافعي في أحد قوليه ، وفي هذا القول نظر . والآية ترده على ما يأتي .

رابعها : هي ظهار ، ففيها كفارة الظهار ، قال عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق .

خامسها : أنه إن نوى الظهار وهو ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه كان ظهارا . وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين . وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين ، قاله الشافعي .

سادسها : أنها طلقة رجعية ، قاله عمر بن الخطاب والزهري وعبدالعزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون . وسابعها : أنها طلقة بائنة ، قاله حماد بن أبي سليمان وزيد بن ثابت . ورواه ابن خويز منداد عن مالك .

ثامنها : أنها ثلات تطليقات ، قال علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت أيضا وأبو هريرة .

تاسعها : هي في المدخول بها ثلاث ، وينوي في غير المدخول بها ، قاله الحسن وعلي بن زيد والحكم . وهو مشهور مذهب مالك .

عاشرها : هي ثلاث ، ولا ينوي بحال ولا في محل وإن لم يدخل{[15126]} ، قاله عبدالملك في المبسوط ، وبه قال ابن أبي ليلى .

حادي عشرها : هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي التي دخل بها ثلاث ، قاله أبو مصعب ومحمد بن عبدالحكم{[15127]} .

ثاني عشرها : أنه إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى . فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا . فإن نوى ثنتين فواحدة . فإن لم ينو شيئا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته ، قاله أبو حنيفة وأصحابه . وبمثله قال زفر ، إلا أنه قال : إذا نوى اثنتين ألزمناه .

ثالث عشرها : أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما يكون طلاقا ، قاله ابن القاسم .

رابع عشرها : قال يحيى بن عمر : يكون طلاقا ؛ فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار .

خامس عشرها : إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده . وإن نوى واحدة فهي رجعية . وهو قول الشافعي رضي الله عنه . وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين .

سادس عشرها : إن نوى ثلاثا فثلاثا ، وإن واحدة فواحدة . وإن نوى يمينا فهي يمين . وإن لم ينو شيئا فلا شيء عليه . وهو قول سفيان . وبمثله قال الأوزاعي وأبو ثور ، إلا أنهما قالا : إن لم ينو شيئا فهي واحدة .

سابع عشرها : له نيته ولا يكون أقل من واحدة ، قاله ابن شهاب . وإن لم ينو شيئا لم يكن شيء ، قاله ابن العربي . ورأيت لسعيد بن جبير وهو :

الثامن عشر : أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهارا . ولست أعلم لها وجها ولا يبعد{[15128]} في المقالات عندي .

قلت : قد ذكره الدارقطني في سننه عن ابن عباس فقال : حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا روح قال : حدثنا سفيان الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي علي حراما . فقال : كذبت ! ليست عليك بحرام ، ثم تلا " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " عليك أغلظ الكفارات : عتق رقبة . وقد قال جماعة من أهل التفسير : إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة ، وعاد إلى مارية صلى الله عليه وسلم ، قاله زيد بن أسلم وغيره .

قال علماؤنا : سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نص ولا ظاهر صحيح يعتمد عليه في هذه المسألة ، فتجاذبها العلماء لذلك . فمن تمسك بالبراءة الأصلية فقال : لا حكم ، فلا يلزم بها شيء . وأما من قال إنها يمين ، فقال : سماها الله يمينا . وأما من قال : تجب فيها كفارة وليست بيمين ، فبناه على أحد أمرين : أحدهما : أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها وإن{[15129]} لم تكن يمينا . والثاني : أن معنى اليمين عنده التحريم ، فوقعت الكفارة على المعنى . وأما من قال : إنها طلقة رجعية ، فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه ، والرجعية محرمة الوطء كذلك ، فيحمل اللفظ عليه . وهذا يلزم مالكا ، لقوله : إن الرجعية محرمة الوطء . وكذلك وجه من قال : إنها ثلاث ، فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث . وأما من قال : إنه ظهار ، فلأنه أقل درجات التحريم ، فإنه تحريم لا يرفع النكاح . وأما من قال : إنه طلقة بائنة ، فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة ، وأن الطلاق البائن يحرمها . وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا ، فلما ارتجعها احتاط بأن يلزمه الكفارة . ابن العربي : " وهذا لا يصح ؛ لأنه جمع بين المتضادين ، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد ، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل . وأما من قال : إنه ينوى في التي لم يدخل بها ، فلأن الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا . وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته : إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع ، فيكفي أخذا بالأقل المتفق عليه . وأما من قال : إنه ثلاث فيهما ، فلأنه أخذ بالحكم الأعظم ، فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها . ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم " . والله أعلم . وهذا كله في الزوجة . وأما في الأمة فلا يلزم فيها شيء من ذلك ، إلا أنه ينوي به العتق عند مالك . وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين . ابن العربي . والصحيح أنها طلقة واحدة ؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة إلا أن يعدده . كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر ، مثل أن يقول أنت علي حرام إلا بعد زوج ، فهذا نص على المراد .

قلت : أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة لما خلا النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها بجاريته ، ذكره الثعلبي . وعلى هذا فكأنه قال : لا يحرم عليك ما حرمته على نفسك ولكن عليك كفارة يمين ، وإن كان في تحريم العسل والجارية أيضا . فكأنه قال : لم يحرم عليك ما حرمته ، ولكن ضممت إلى التحريم يمينا فكفر عن اليمين . وهذا صحيح ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ثم حلف ، كما ذكره الدارقطني . وذكر البخاري معناه في قصة العسل عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عند زينب بنت جحش عسلا ويمكث عندها ، فتواطأت أنا وحفصة على أيَّتِنَا دخل عليها فلتقل : أكلت مغافير ؟ إني لأجد منك ريح مغافير ! قال : ( لا ولكن شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا ) . يبتغي مرضات أزواجه . فيعني بقوله : ( ولن أعود له على جهة التحريم . وبقوله : ( حلفت ) أي بالله ، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه عند ذلك معاتبته على ذلك ، وحوالته على كفارة اليمين بقوله تعالى : " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " يعني العسل المحرم بقوله : ( لن أعود له ) . " تبتغي مرضات أزواجك " أي تفعل ذلك طلبا لرضاهن . " والله غفور رحيم " غفور لما أوجب المعاتبة ، رحيم برفع المؤاخذة . وقد قيل : إن ذلك كان ذنبا من الصغائر . والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى ، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة .


[15119]:سيذكر المؤلف رحمه الله معنى هذه الكلمة والكلمات الآتية في هذا الحديث.
[15120]:قولها: "أن أبادئه"، أي أبدؤه وأناديه وهو لدى الباب لم يدن مني بعد بالكلام الذي علمتنيه. و"فرقا" أي خوفا من لومك.
[15121]:أي معناه شربة عسل.
[15122]:أنصنا (بالفتح ثم السكون وكسر الصاد المهملة والنون، مقصور): مدينة من نواحي الصعيد على شرقي النيل.
[15123]:راجع جـ 6 ص 260.
[15124]:راجع جـ 8 ص 354.
[15125]:راجع جـ 10 ص 195.
[15126]:كلمة "وإن لم يدخل" ليست في ابن العربي. وعبارة البحر لأبي حيان (جـ 8 ص 289): "هي ثلاث في الوجهين ولا ينوي في شيء" ونسبه أيضا لعبد الملك بن الماجشون وابن أبي ليلى.
[15127]:في ي: "محمد بن الحكم".
[15128]:في ابن العربي: "ولا يتعدد".
[15129]:في ابن العربي: "ولم تكن".
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التحريم{[1]} تسمى سورة النبي صلى الله عليه وسلم .

مقصودها الحث على تقدير التدبير في الأدب مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم مع سائر العباد والندب إلى التخلق بالأدب{[2]} الشرعي وحسن المباشرة لا سيما [ للنساء-{[3]} ] اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في حسن عشرته وكريم صحبته وبيان أن الأدب الشرعي تارة يكون باللين والأناة ، وأخرى بالسوط وماداناه ومرة بالسيف وما والاه ، وكل من اسميها التحريم والنبي{[4]} صلى الله عليه وسلم موضح لذلك ( بسم الله ) الذي له الكمال كله على الدوام ( الرحمان ) الذي عم عاده بعظيم الإنعام ( الرحيم ) الذي أتم على خواصه{[5]} نعمة الإسلام .

لما ختم سبحانه الطلاق بإحاطة علمه{[66296]} وتنزل أمره بين الخافقين في تدبيره ، دل عليه أول هذه بإعلاء أمور الخلق بأمر{[66297]} وقع بين خير خلقه وبين نسائه اللاتي من خير النساء واجتهد{[66298]} كل في إخفاء ما تعلق به منه فأظهره سبحانه عتاباً لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم في صورة عقابه{[66299]} لأنه أبلغ رفقاً به لأنه يكاد{[66300]} من شفقته أن يبخع نفسه الشريفة رحمة لأمته تارة لطلب رضاهم وأخرى رغبة في هداهم ، لأنه صلى الله عليه وسلم بالغ في تهذيب أخلاقه مع ما طهره الله به من نزاهتها عن كل دنس حتى ضيق عليها{[66301]} بالامتناع عن بعض ما أبيح له حفظاً لخاطر الغير ، فقال تعالى منادياً له بأداة البعد وهو أقرب أهل الحضرة مع أنها معدة لما يكون ذا خطب جليل ومعنى جسيم جليل ، وفيها إيماء إلى تنبيه الغير وإسماعه إرادة لتأديبه وتزكيته وتهذيبه : { يا أيها النبي } مخاطبه {[66302]}بالوصف الذي يعلم{[66303]} بالعصمة ويلائمه{[66304]} أشد الملاءمة{[66305]} خلو البال وسرور القلب وانشراح الصدر لأنه للتلقي{[66306]} عن الله تعالى فيحث كل سامع على البعد عن{[66307]} كل ما يشوش عليه صلى الله عليه وسلم أدنى تشويش { لم تحرم } أي تفعل فعل المحرم{[66308]} بمنع نفسك الشريفة { ما أحل الله } أي الملك الذي لا أمر لأحد معه { لك } بالوعد {[66309]}لبعض أمهات{[66310]} المؤمنين رضي الله عنهن بالامتناع من شرب العسل الذي كان عند حفصة أو زينب رضي الله عنهما والامتناع من ملامسة سريتك مارية رضي الله تعالى عنها فتضيق على نفسك لإحسان العشرة مع نسائك رضي الله عنهن أجمعين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب عسلاً عند حفصة بنت عمر أو زينب بنت جحش رضي الله عنهما على اختلاف الروايتين في ذلك في الصحيح{[66311]} ، وفي رواية " أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة دخل على نسائه رضي الله عنهن امرأة امرأة ، وكانت قد أهديت{[66312]} لحفصة بنت عمر{[66313]} رضي الله عنهما عكة من العسل ، فكانت{[66314]} إذا دخل عليها فسلم{[66315]} حبسته{[66316]} وسقته منها ، وأن عائشة رضي الله عنها أنكرت{[66317]} احتباسه عندها فقالت لجويرية عندها حبشية يقال لها خضرة : إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة فادخلي عليها{[66318]} فانظري ماذا يصنع فأخبرتها الخبر فوصت صواحباتها فنفرنه من شربه بإخباره بأنه يوجد منه ريح كريهة لأن نحلة جرست العرفط ، فقال : لن أعود له ، " وروى الطبري{[66319]} و{[66320]}ابن مردوية " أنه صلى الله عليه وسلم خلا بمارية رضي الله عنها أم ولده إبراهيم عليه السلام في بيت حفصة رضي الله عنها فتوجعت من ذلك حفصة رضي الله عنها{[66321]} فقال هي علي{[66322]} حرام ولا تذكري ذلك{[66323]} لأحد وأبشرك على ذلك بشارة ، وهي أن أبا بكر يلي هذا الأمر من بعدي وأباك يليه من بعد أبي بكر رضي الله عنهما ، لا تخبري بذلك أحداً ، فأخبرت عائشة رضي الله عنها "

ويروى أن حفصة رضي الله عنها قالت في يومها من النبي صلى الله عليه وسلم : " إن بي إلى أبي حاجة نفقة لي{[66324]}- عنده فأذن لي أن أزوره وآتي بها ، فأذن لها فلما خرجت أرسل إلى جاريته مارية القبطية رضي الله عنها فوقع عليها فأتت حفصة فوجدت الباب{[66325]} مغلقاً فجلست عنده فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً وحفصة تبكي فقال لها : ما يبكيك ؟ فقالت{[66326]} : إنما أذنت لي{[66327]} من أجل هذا وقعت عليها في يومي وعلى فراشي ، أما رأيت لي{[66328]} حرمة وحقاً ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن ، فقال صلى الله عليه وسلم : أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي اسكتي فهي {[66329]}علي حرام{[66330]} ألتمس بذاك رضاك فلا تخبري بهذا أحداً ، فلما خرج أخبرت عائشة رضي الله عنها فحلفته على ترك مارية رضي الله عنهن " ثم علل ذلك سبحانه بقوله : { تبتغي } أي{[66331]} تريد إرادة عظيمة من مكارم أخلاقك وحسن صحبتك { مرضات أزواجك } أي الأحوال والمواضع والأمور التي يرضين بها ومن أولى بأن{[66332]} تبتغين رضاك وكذا جميع الخلق لتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد .

ولما كان أعلى ما يقع به المنع من الأشياء من جهة العباد الإيمان ، وكان تعالى قد جعل من رحمته لعباده لإيمانهم كفارة قال : { والله } أي{[66333]} تفعل ذلك لرضاهن والحال أن الله الملك الأعلى { غفور رحيم * } أي محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم ،


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[66296]:- من ظ وم، وفي الأصل: علم.
[66297]:- في ظ وم: أمر.
[66298]:- من ظ وم، وفي الأصل: اجتهاد.
[66299]:- من ظ وم، وفي الأصل: عذابه.
[66300]:- من ظ وم، وفي الأصل: لا يكاد.
[66301]:- زيد من ظ وم.
[66302]:- زيد من ظ وم.
[66303]:- وتكرر ما بين الرقمين في الأصل فقط.
[66304]:- من ظ وم، وفي الأصل: بملاءمة.
[66305]:- زيدت الواو في الأصل ولم تكن في ظ وم فحذفناها.
[66306]:- من ظ وم، وفي الأصل: لتلقى.
[66307]:- من ظ وم، وفي الأصل: على.
[66308]:- زيد من ظ وم.
[66309]:- من ظ وم، وفي الأصل: لأمهات.
[66310]:- من ظ وم، وفي الأصل: لأمهات.
[66311]:- راجع أبواب الطلاق.
[66312]:- من ظ وم، وفي الأصل: أهدت.
[66313]:- في الأصل بياض ملأناه من ظ وم.
[66314]:- من ظ وم، وفي الأصل: فكان.
[66315]:-زيد من ظ وم.
[66316]:- من ظ وم، وفي الأصل: احتبسته.
[66317]:- في الأصل بياض ملأناه من ظ وم.
[66318]:- من ظ وم، وفي الأصل: عليه.
[66319]:- راجع التفسير 28/سورة التحريم.
[66320]:-من ظ وم، وفي الأصل: من طريق.
[66321]:-زيد من ظ وم.
[66322]:-زيد من ظ وم.
[66323]:-زيد من ظ وم.
[66324]:-زيد من ظ وم.
[66325]:- في الأصل بياض ملأناه من ظ وم.
[66326]:- من ظ وم، وفي الأصل: فقال.
[66327]:- زيد من م.
[66328]:- زيد من ظ وم.
[66329]:- من ظ وم، وفي الأصل: حرام على.
[66330]:- من ظ وم، وفي الأصل: حرام على.
[66331]:- زيد من ظ وم.
[66332]:- في ظ وم، وفي الأصل: إن.
[66333]:- زيد في الأصل: المحيط بكل شيء علما وقدرة، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.