38- { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } .
ها أنتم معشر المسلمين ، يأتيكم أمر الله ودعوته لكم بالإنفاق في سبيل الله ، بإخراج الزكاة والصدقة ، وتجهيز المقاتلين في سبيل الله ، والإنفاق على الجهاد والقتال ، وبعض المسلمين يبخل بالزكاة ، أو بالإنفاق على المجاهدين ، ومن يبخل فإنما وزر بخله يعود عليه ، وإثم منع الزكاة ومنع نفقات الجهاد يعود على المانع .
{ والله الغني . . . } فهو سبحانه غني بذاته ، لا تنفعه طاعتنا ، ولا تضره معصيتنا ، ولا يحتاج إلى إنفاق أموالنا عليه .
{ وأنتم الفقراء . . . } الناس بذاتهم في أشد الفقر إلى رزق الله لهم في الدنيا ، وإلى ثواب الله ورضوانه في الآخرة .
قال تعالى : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } . ( فاطر : 15 ) .
{ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } . وإن تعرضوا عن أحكام الله وشرائع دينه يذهبكم الله كما أذهب المكذبين قبلكم ، ويأت بقوم أطوع لله منكم ، يحرصون على طاعته ومرضاته ، تلك سنة الله ، ولن تجد لسنة الله تبديلا .
وقد اختلف المفسرون في تعيين أولئك القوم الجدد ، فقيل : هم الملائكة ، أو الأنصار ، أو التابعون ، أو أهل اليمن ، أو كندة والنخع ، أو العجم ، أو فارس والروم ، والأولى تفويض ذلك إلى علم الله ، والخطاب لقريش أو لأهل المدينة ، والأولى جعل الخطاب متجددا بتجدد الأجيال والأمم ، سواء كان عند نزول الوحي أو بعد ذلك .
روى مسلم ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } . فقالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ، ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ قال : فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي الله عنه ، ثم قال : ( هذا وقومه ، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس )11 .
موجز مقاصد سورة محمد صلى الله عليه وسلم
اشتملت سورة محمد صلى الله عليه وسلم على ثلاثة مقاصد :
1- وصف الكافرين والمؤمنين من أول السورة إلى قوله سبحانه : { كذلك يضرب الله للناس أمثالهم } . ( محمد : 3 ) .
2- جزاء الفريقين في الدنيا والآخرة ، من خذلان ونصر ، ونار وجنة ، من قوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب . . . } ( محمد : 4 ) إلى قوله تعالى : { والله يعلم متقلبكم ومثواكم } . ( محمد : 19 ) .
3- الوعيد والتهديد للمنافقين والمرتدين ، من قوله تعالى : { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة . . . } ( محمد : 20 ) ، إلى آخر السورة .
ثم بحمد الله تفسير سورة محمد صلى الله عليه وسلم ، ظهر يوم الأحد 28 من ربيع الآخر 1421 ، الموافق 30/7/2000م .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
11 بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 1/430 تحقيق النجار . طبع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، مطابع شركة الإعلانات الشرقية 1964 .
2 التفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ، لبنان ، الجزء 26 ، ص 82 .
رواه مسلم في الإمارة باب : من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين ( 1886 ) ، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين ) .
4 لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة :
رواه البخاري في باب القصاص يوم القيامة ( 6170 ) من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : قال صلى الله عليه وسلم : ( يخلص المؤمنون من النار ، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هُذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ، فوالذي نفس محمد بيده ، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا ) .
رواه البخاري في الأطعمة ، باب : المؤمن يأكل في معي واحد ( 5078 ، 5080 ) ، ومسلم في الأشربة ، باب : المؤمن يأكل في معي واحد ( 2062 ، 2063 ) ، من حديث نافع ، قال : كان ابن عمر لا يأكل حتى يؤتي بمسكين يأكل معه ، فأدخلت رجلا يأكل معه فأكل كثيرا ، فقال : يا نافع ، لا تدخل هذا علي ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : ( المؤمن يأكل في معي واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء ) .
6 مختصر تفسير ابن كثير ، تحقيق محمد علي الصابوني ، المجلد الثالث ص 335 .
ذكره الهيثمي في المجمع ( 10/387 ) عن جندب بن سليمان ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ) . وقال : رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، وفيه حامد بن آدم وهو كذاب .
8 صفوة التفاسير للشيخ محمد علي الصابوني ، المجلد الثالث ، ص 213 ، نقلا عن التسهيل لعلوم التنزيل .
9 تيسير الكريم الرحمان في تفسير كلام المنان ، للعلامة الشيخ عبد الرحمان بن ناصر السعدي 1307-1376ه ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، لبنان .
10 مختصر تفسير ابن كثير ، للشيخ محمد علي الصابوني ، الطبعة الثانية ، ألمانيا الغربية 1396 منقحة ، ( دار القرآن الكريم ) دمشق ، بيروت .
رواه مسلم في باب فضل فارس ( 2546 ) من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس -أو قال : من أبناء فارس- حتى يتناوله ) .
واللهُ قد طلب إليكم الإنفاق في سبيله ، فإن بخلتم فضرر ذلك عائد إليكم .
وهذا حاصل اليوم ، فإن معظم أموال البترول مكدّسة في بلاد الغرب ، والمسيطرون على هذه الأموال ينفقون على ملذّاتهم الملايين ، ويبخلون بالإنفاق في سبيل الله وتسليح المخلصين من العرب ليصدّوا عدونا اليهود وغيرهم من الأعداء .
{ هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء }
كأن الآيةَ نزلت في وقتنا الحاضر ، وهي صريحةٌُ في شرح أحوالنا .
وهنا يأتي التهديد المخيف إذ يقول تعالى :
{ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم }
فإن تعرِضوا وتبخَلوا بأموالكم ولا تنفقوا في سبيل الله ، فإن الله غنيٌّ عنكم يستبدلُ مكانكم قوماً غيركم ، فيكونوا خيراً منكم ، يقيمون دينه ، ويبذلون أموالَهم في سبيلِ الله بسَخاء ، وينصرون هذا الدينَ العظيم . اللهم ألهمنا الصوابَ في القول والعمل .
والدليل على أن الله لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها ، أنكم تمتنعون منها ، أنكم { تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } على هذا الوجه ، الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية .
{ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ } أي : فكيف لو سألكم ، وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة ؟ أليس من باب أولى وأحرى امتناعكم من ذلك .
ثم قال : { وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ } لأنه حرم نفسه ثواب الله تعالى ، وفاته خير كثير ، ولن يضر الله بترك الإنفاق شيئا .
فإن الله هو { الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم ، لجميع أموركم .
{ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا } عن الإيمان بالله ، وامتثال ما يأمركم به { يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } في التولي ، بل يطيعون الله ورسوله ، ويحبون الله ورسوله ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }
قوله تعالى : { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله } يعني إخراج ما فرض الله عليكم ، { فمنكم من يبخل } بما فرض عليه من الزكاة ، { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني } عن صدقاتكم وطاعتكم ، { وأنتم الفقراء } إليه وإلى ما عنده من الخير . { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } بل يكونوا أمثل منكم وأطوع لله منكم . قال الكلبي : هم كندة والنخع ، وقال الحسن : هم العجم . وقال عكرمة : فارس والروم .
أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نصر الكوفاتي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر ، حدثنا بن إسحاق النجبي المصري المعروف بابن النحاس ، أنبأنا أبو الطيب الحسن بن محمد الرياش ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا مسلم بن خالد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ فضرب سلمان الفارسي ثم قال : هذا وقومه ، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس " .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين:"ها أنْتُمْ" أيها الناس "هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ "يقول: تدعون إلى النفقة في جهاد أعداء الله ونُصرة دينه "فمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ" بالنفقة فيه، وأدخلت «ها» في موضعين، لأن العرب إذا أرادت التقريب جعلت المكنيّ بين «ها» وبين «ذا»، فقالت: ها أنت ذا قائما، لأن التقريب جواب الكلام، فربما أعادت «ها» مع «ذا»، وربما اجتزأت بالأولى، وقد حُذفت الثانية، ولا يقدّمون أنتم قبل «ها»، لأن ها جواب فلا تقرب بها بعد الكلمة.
وقال بعض نحويي البصرة: جعل التنبيه في موضعين للتوكيد.
وقوله: "وَمَنْ يَبْخَلْ فإنّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ" يقول تعالى ذكره: ومن يبخل بالنفقة في سبيل الله، فإنما يبخل عن بخل نفسه، لأن نفسه لو كانت جوادا لم تبخل بالنفقة في سبيل الله، ولكن كانت تجود بها.
"وَاللّهُ الغَنِيّ وأنْتُمُ الفُقَرَاءُ" يقول تعالى ذكره: ولا حاجة لله أيها الناس إلى أموالكم ولا نفقاتكم، لأنه الغنيّ عن خلقه والخلق الفقراء إليه، وأنتم من خلقه، فأنتم الفقراء إليه، وإنما حضكم على النفقة في سبيله، ليُكسبكم بذلك الجزيل من ثوابه... وقوله تعالى ذكره: "وَإنْ تَتَوَلّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ" يقول تعالى ذكره: وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم، فترتدّوا راجعين عنه، "يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ" يقول: يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلاً منكم يصدّقون به، ويعملون بشرائعه.
"ثُمّ لا يكُونُوا أمْثالَكُمْ" يقول: ثم لا يبخلوا بما أُمروا به من النفقة في سبيل الله، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يُؤمرون به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{هؤلاء} موصول بمعنى الذين صلته {تُدْعَوْنَ} أي أنتم الذين تدعون. أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، ثم استأنف وصفهم، كأنهم قالوا: وما وصفنا؟ فقيل: تدعون {لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} قيل: هي النفقة في الغزو. وقيل: الزكاة، كأنه قيل: الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء واضطغنتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر، فمنكم ناس يبخلون به، ثم قال: {وَمَن يَبْخَلْ} بالصدقة وأداء الفريضة. فلا يتعداه ضرر بخله، وإنما {يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} يقال بخلت عليه وعنه، وكذلك ضننت عليه وعنه. ثم أخبر أنه لا يأمر بذلك ولا يدعو إليه لحاجته إليه، فهو الغني الذي تستحيل عليه الحاجات، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} معطوف على: وإن تؤمنوا وتتقوا {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} يخلق قوماً سواكم على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى، غير متولين عنهما...
(أحدهما) أن تكون موصولة كأنه قال: أنتم هؤلاء الذين تدعون لتنفقوا في سبيل الله.
(وثانيهما) {هؤلاء} وحدها خبر {أنتم} كما يقال أنت هذا تحقيقا للشهرة والظهور أي ظهر أثركم بحيث لا حاجة إلى الإخبار عنكم بأمر مغاير ثم يبتدئ {تدعون}.
وقوله {تدعون} أي إلى الإنفاق إما في سبيل الله تعالى بالجهاد، وإما في صرفه إلى المستحقين من إخوانكم، وبالجملة ففي الجهتين تخذيل الأعداء ونصرة الأولياء. {فمنكم من يبخل}، ثم بين أن ذلك البخل ضرر عائد إليه فلا تظنوا أنهم لا ينفقونه على غيرهم بل لا ينفقونه على أنفسهم فإن من يبخل بأجرة الطبيب وثمن الدواء وهو مريض فلا يبخل إلا على نفسه، ثم حقق ذلك بقوله {والله الغني} غير محتاج إلى مالكم وأتمه بقوله {وأنتم الفقراء} حتى لا تقولوا إنا أيضا أغنياء عن القتال، ودفع حاجة الفقراء فإنهم لا غنى لهم عن ذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلأنه لولا القتال لقتلوا، فإن الكافر إن [لم] يُغز يَغز، والمحتاج إن لم يدفع حاجته يقصده، لاسيما أباح الشارع للمضطر ذلك، وأما في الآخرة فظاهر فكيف لا يكون فقيرا وهو موقوف مسؤول {يوم لا ينفع مال ولا بنون}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ها أنتم} وحقر أمرهم أو أحضره في الذهن وصوره بقوله: {هؤلاء تدعون} أي- إلى ربكم الذي لا يريد بدعائكم إلا نفعكم وأما هو فلا يلحقه نفع ولا ضر {لتنفقوا} شيئاً يسيراً من الزكاة ...
... {في سبيل الله} أي الملك الأعظم الذي يرجى خيره ويخشى ضيره، بخلاف من يكون وما يكون به اللهو اللعب...
. {فمنكم} أي أيها المدعون {من يبخل} وهو منكم لا شك فيه، وحذف القسم الآخر- وهو "ومنكم من يجود "لأن المراد الاستدلال على ما قبله من البخل. ولما كان بخله عمن أعطاه المال بجزء يسير منه إنما طلبه ليقع المطلوب منه فقط زاد العجب بقوله: {ومن} أي والحال أنه من {يبخل} بذلك {فإنما يبخل} أي بماله بخلاً صادراً {عن نفسه} التي هي منبع الدنايا، فلا تنفس ولا تنافس إلا في الشيء الخسيس، فإن نفع ذلك الذي طلب منه فبخل به إنما هو له، وأكده لأنه لا يكاد أحد يصدق أن عاقلاً يتجاوز بماله عن نفع نفسه...
{والله} أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {الغني} أي وحده {وأنتم} أيها المكلفون خاصة {الفقراء} لأن العطاء ينفعكم والمنع يضركم. فمن افتقر منكم إلى فقير مثله وقع في الذل والهوان، وقد جرت عادتكم أن يداخلكم من السرور ما لا يجد إذا طلب من أحد منكم أحد من- الأجود الأغنياء شيئاً طمعاً في جزائه، فكونوا كذلك وأعظم إذا طلب منكم الغنى المطلق...
{وإن تتولوا} أي توقعوا التولي عنه تكلفوا أنفسكم ضد ما تدعو إليه الفطرة الأولى من السماح بذلك الجزاء اليسير جداً الموجب للثواب الخطير والفوز الدائم، ومن الجهاد في سبيله، والقيام بطاعته، لكونه المحسن الذي لا محسن في الحقيقة غيره {يستبدل} أي يوجد {قوماً} فيهم قوة وكفاية لما يطلب منهم محاولته...
{غيركم} أي بدلاً منكم وهو على غير صفة التولي. ولما كان الناس متقاربين في الجبلات، وكان المال محبوباً، كان من المستبعد جداً أن يكون هذا البذل على غير ما هم عليه، قال تعالى مشيراً إلى ذلك بحرف التراخي تأكيداً لما أفهمه ما قلته من التعبير ب "غير" وتثبيتاً له-: {ثم} أي بعد استبعاد من يستبعد و- علو الهمة في مجاوزة جميع عقبات النفس والشيطان: {لا يكونوا أمثالكم *} في التولي عنه بترك شيء مما أمر به أو فعل شيء مما نهى عنه، ومن قدر على الإيجاد قدر على الإعدام. بل هو أهون في مجاري العادات...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
والدليل على أن الله لو طلب منكم أموالكم وأحفاكم بسؤالها، أنكم تمتنعون منها، أنكم {تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} على هذا الوجه، الذي فيه مصلحتكم الدينية والدنيوية. {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} أي: فكيف لو سألكم، وطلب منكم أموالكم في غير أمر ترونه مصلحة عاجلة؟ أليس من باب أولى وأحرى امتناعكم من ذلك. ثم قال: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} لأنه حرم نفسه ثواب الله تعالى، وفاته خير كثير، ولن يضر الله بترك الإنفاق شيئا. فإن الله هو {الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} تحتاجون إليه في جميع أوقاتكم، لجميع أموركم. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} عن الإيمان بالله، وامتثال ما يأمركم به {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} في التولي، بل يطيعون الله ورسوله، ويحبون الله ورسوله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآية ترسم صورة وصفية لواقع الجماعة المسلمة يومذاك. ولواقع الناس تجاه الدعوة إلى البذل في كل بيئة. فهي تقرر أن منهم من يبخل. ومعنى هذا أن هنالك من لا يبخلون بشيء. وقد كان هذا واقعا، سجلته الروايات الكثيرة الصادقة، وسجله القرآن في مواضع أخرى. وقد حقق الإسلام في هذا المجال مثلا تحسب من خوارق الأمثال في البذل والتضحية عن رضى وعن فرح بالبذل والعطاء. ولكن هذا لم يمنع أن يكون هنالك من يبخل بالمال. ولعل الجود بالنفس أرخص عند بعضهم من الجود بالمال!... فما يبذله الناس إن هو إلا رصيد لهم مذخور، يجدونه يوم يحتاجون إلى رصيد...
(والله الغني وأنتم الفقراء).. فهو الذي أعطاكم أموالكم...
. (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم).. وإنها لنذارة رهيبة لمن ذاق حلاوة الإيمان، وأحس بكرامته على الله، وبمقامه في هذا الكون وهو يحمل هذا السر الإلهي العظيم. ويمشي في الإرض بسلطان الله في قلبه؛ ونور الله في كيانه؛ ويذهب ويجيء وعليه شارة مولاه.. وما يطيق الحياة وما يطعمها إنسان عرف حقيقة الإيمان وعاش بها ثم تسلب منه، ويطرد من الكنف، وتوصد دونه الأبواب. لا بل إن الحياة لتغدو جحيما لا يطاق عند من يتصل بربه ثم يطبق دونه الحجاب. إن الإيمان هبة ضخمة، لا يعدلها في هذا الوجود شيء؛ والحياة رخيصة رخيصة، والمال زهيد زهيد، حين يوضع الإيمان في كفة، ويوضع في الكفة الأخرى كل ما عداه.. ومن ثم كان هذا الإنذار أهول ما يواجهه المؤمن وهو يتلقاه من الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فيجوز أن يكون المعنى: تُدْعَون لتنفقوا في سبيل الله لتدفعوا أعداءكم عنكم وليس ذلك لينتفع به الله كما قال: {والله الغني وأنتم الفقراء}. ونظم الكلام يقتضي أن هذه دعوة للإنفاق في الحال وليس إعلاماً لهم بأنهم سيدعون للإنفاق فهو طلبٌ حاصل. ويحمل {تدْعَون} على معنى تؤمرون أي أمر إيجاب. ويجوز أن يحمل {تدعون} على دعوة الترغيب... {والله الغني وأنتم الفقراء}...
فالله الغني المطلق، والغني المطلق لا يسأل الناس مالاً في شيء، والمخاطبون فقراء فلا يطمع منهم البذل فتعين أن دعاءهم لينفقوا في سبيل الله دعاء بصرف أموالهم في منافعهم كما أشار إلى ذلك قوله: {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه}. والتعريف باللام في {الغني} وفي {الفقراء} تعريف الجنس، وهو فيهما مؤذن بكمال الجنس في المخبر عنه...
{وإن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أمثالكم}...
والتولي: الرجوع، واستعير هنا لاستبدال الإيمان بالكفر، ولذلك جعل جزاؤه استبدال قوم غيرهم كما استبدلوا دينَ الله بدين الشرك. والاستبدال: التبديل...
قوله {غيركم}، فعلم أن المستبدل به هو ما أضيف إليه (غير) لِتعيّن انحصار الاستبدال في شيئين، فإذا ذكر أحدهما علم الآخر. والتقدير: يستبدل قوماً بكم...
.والمعنى: يتخذ قوماً غيركم للإيمان والتقوى، وهذا لا يقتضي أن الله لا يوجد قوماً آخرين إلاّ عند ارتداد المخاطبين، بل المراد: أنكم إن ارتددتم عن الدين كان لله قوم من المؤمنين لا يرتدون وكان لله قوم يدخلون في الإيمان ولا يرتدون...
و {ثم} للترتيب الرتبي لإفادة الاهتمام بصفة الثبات على الإيمان وعلوّها على مجرد الإيمان، أي ولا يكونوا أمثالكم في التولِّي...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم). أجل، إنّ هذا الحمل لن يسقط على الأرض أبداً، وهذه الرسالة العظيمة لا يمكن أن يتوقّف مسيرها، فإن أنتم لم تستمروا في موقفكم في الذب عن دين الله، واستصغرتم شأن هذه الرسالة العظيمة، فإنّ الله سبحانه سوف يأتي بقوم يتحمّلون أعباء هذه الرسالة.. أُولئك قوم يفوقونكم مرّات في الإيثار والتضحية وبذل الأنفس والأموال والإنفاق في سبيل الله!...وقد جاء نظير هذا التهديد في الآية (54) من سورة المائدة، حيث تقول: (يا أيّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)...
{ ها أنتم هؤلاء } يا هؤلاء { تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل }
بالصدقة { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } لأن له ثواب ما أعطي فإذا لم يعط لم يستحق الثواب { والله الغني } عن صدقاتكم { وأنتم الفقراء } إليها في الآخرة { وإن تتولوا } عن الرسول { يستبدل قوما غيركم } أطوع منكم وهم فارس { ثم لا يكونوا } في الطاعة { أمثالكم } بل يكونوا أطوع منكم وهذا الخطاب للعرب اللهم يسر علينا كل عسير
ولما أخبر ببخلهم لو سئلوا جميع أموالهم أو أكثرها ، دل عليه بمن يبخل منهم عما سأله منهم-{[59977]} وهو جزء يسير جداً-{[59978]} من أموالهم ، فقال منبهاً لهم على حسن تدبيره لهم وعفوه عنهم عند من جعل " ها{[59979]} " للتنبيه ، ومن جعل الهاء بدلاً من همزة استفهام{[59980]} جعلها للتوبيخ والتقريع ، لأن من حق من دعاه مولاه أن يبادر للإجابة مسروراً فضلاً أن يبخل ، وفي هاء التنبيه ولا سيما عند من يرى تكررها تأكيد لأجل استبعادهم أن أحداً يبخل عما يأمر الله به سبحانه : { هأنتم } وحقر أمرهم أو أحضره في الذهن وصوره بقوله : { هؤلاء تدعون } أي-{[59981]} إلى ربكم الذي لا يريد بدعائكم إلا نفعكم وأما هو فلا يلحقه نفع ولا ضر{[59982]} { لتنفقوا } شيئاً يسيراً من الزكاة وهي{[59983]} ربع العشر ونحوه ، ومن نفقة الغزو{[59984]} وقد يحصل من الغنيمة أضعافها والحج وقد{[59985]} يحصل من المتجر أو أكثر ، وقد عم ذلك وغيره قوله : { في سبيل الله } أي الملك الأعظم الذي يرجى خيره ويخشى ضيره ، بخلاف من يكون وما يكون به اللهو اللعب .
ولما أخبر بدعائهم ، فصلهم فقال تعالى : { فمنكم } أي أيها المدعون { من يبخل } وهو منكم لا شك فيه ، وحذف القسم الآخر-{[59986]} وهو " ومنكم من يجود " لأن المراد الاستدلال على{[59987]} ما قبله من البخل .
ولما كان بخله عمن أعطاه المال بجزء{[59988]} يسير منه إنما طلبه ليقع المطلوب منه فقط زاد العجب بقوله : { ومن } أي والحال أنه من { يبخل } {[59989]}بذلك { فإنما يبخل } أي بماله بخلاً صادراً { عن نفسه } {[59990]}التي هي منبع الدنايا ، فلا تنفس ولا تنافس إلا في الشيء الخسيس ، فإن نفع ذلك الذي طلب منه فبخل به إنما هو له ، وأكده لأنه لا يكاد أحد يصدق أن عاقلاً يتجاوز بماله عن نفع نفسه ، ولذا حذف " ومن يجد فإنما يجد على نفسه " لفهمه عن السياق واستغناء الدليل عنه ، هذا والأحسن أن يكون " يبخل " متضمناً " يمسك " ثم حذف " يمسك " ودل عليه بحال محذوفة دل عليها التعدية بعن .
ولما كان سؤال المال قد يوهم شيئاً ، قال مزيلاً له مقرراً {[59991]}لأن بخل{[59992]} الإنسان إنما هو عن نفسه عطفاً على ما تقديره : لأن ضرر بخله إنما{[59993]} يعود عليه وهو سبحانه لم يسألكم ذلك لحاجته إليه ولا{[59994]} إلى شيء منكم ، بل لحاجتكم إلى الثواب ، وهو سبحانه قد بنى أمور هذه الدار كما اقتضته الحكمة على الأسباب : { والله } أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال { الغني } أي وحده { وأنتم } {[59995]}أيها المكلفون خاصة { الفقراء } لأن العطاء ينفعكم والمنع يضركم . فمن افتقر منكم إلى فقير مثله وقع في الذل والهوان ، وقد جرت عادتكم أن يداخلكم من{[59996]} السرور ما لا يجد إذا طلب من أحد منكم أحد من-{[59997]} الأجود{[59998]} الأغنياء شيئاً طمعاً في جزائه ، فكونوا كذلك وأعظم إذا طلب منكم الغنى المطلق .
ولما كان التقدير : فإن تقبلوا بنولكم تفلحوا عطف عليه قوله مرهباً لأن الترهيب أردع : { وإن تتولوا } أي توقعوا التولي عنه تكلفوا{[59999]} أنفسكم ضد{[60000]} ما تدعو إليه الفطرة الأولى من السماح بذلك الجزاء اليسير جداً الموجب للثواب الخطير والفوز الدائم ، ومن الجهاد في سبيله ، والقيام بطاعته ، لكونه المحسن الذي لا محسن في الحقيقة غيره { يستبدل } أي يوجد { قوماً } فيهم قوة وكفاية لما يطلب منهم محاولته .
ولما كان ذلك مفهماً أنهم غيرهم ، لكنه لا يمنع أن يكونوا - مع كونهم غير أعيانهم{[60001]} من قومهم أو أن يشأ دونهم في الصفات وإن كانوا من غير قومهم ، نبه على أنهم يكونون{[60002]} من غير قومهم وعلى غير صفاتهم ، بل هم أعلى منهم درجة وأكرم خليقة وأحسن فعلاً فقال تعالى : { غيركم } أي بدلاً منكم وهو على غير صفة التولي{[60003]} .
ولما كان الناس متقاربين في الجبلات ، وكان المال محبوباً ، كان من المستبعد جداً أن يكون هذا البذل على غير ما هم عليه ، قال تعالى مشيراً إلى ذلك بحرف التراخي{[60004]} تأكيداً لما أفهمه ما قلته من التعبير ب " غير " وتثبيتاً له-{[60005]} : { ثم } أي بعد استبعاد من يستبعد و-{[60006]}علو الهمة{[60007]} في مجاوزة جميع عقبات{[60008]} النفس والشيطان : { لا يكونوا أمثالكم * } في التولي عنه بترك شيء مما أمر به أو فعل شيء مما نهى عنه{[60009]} ، ومن قدر على الإيجاد قدر على الإعدام .
بل هو أهون في مجاري العادات ، فقد ثبت أنه-{[60010]} سبحانه لو شاء لانتصر من الكفار ، إما بإهلاكهم {[60011]}أو إما{[60012]} بناس غيركم{[60013]} بضرب رقابهم وأسرهم ، وغير ذلك من أمرهم ، وثبت بمواصلة ذم الكفار مع قدرته عليهم أنه أبطل أعمالهم ، فرجع بذلك أول السورة إلى آخرها ، وعانق موصلها ما ترى من مفصلها ، وعلم أن معنى هذا الآخر وذلك{[60014]}الأول أنه سبحانه لا بد من إذلاله للكافرين وإعزازه للمؤمنين لأنهم إن أقبلوا على ما يرضيه فجاهدوا ونصرهم نصرا عزيزا بما ضمنه قوله تعالى " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " وإن تتولوا{[60015]} أتى بقوم غيركم{[60016]} يقبلون عليه فيصدقهم وعده ، فصار خذلانهم{[60017]} أمرا متحتما ، وهو معنى أول سورة{[60018]} الفتح- والله الموفق {[60019]}لما يريد من الصواب{[60020]} .
{ ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم }
{ ها أنتم } يا { هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله } ما فرض عليكم { فمنكم من يبخل ومن يبخلْ فإنما يبخل عن نفسه } يقال بخل عليه وعنه { والله الغني } عن نفقتكم { وأنتم الفقراء } إليه { وإن تتولوا } عن طاعته { يستبدل قوماً غيركم } أي يجعلهم بدلكم { ثم لا يكونوا أمثالكم } في التوالي عن طاعته بل مطيعين له عز وجل .