تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة التحريم

( سورة للتحريم مدنية ، وآياتها 12 آية ، نزلت بعد سورة الحجرات )

شاء الله أن يكون الرسول بشرا ، فيه قوة الإنسان ، وتجارب الإنسان ، ومحولات الإنسان ، وضعف الإنسان ، لتكون سيرة هذا الرسول الإنسان نموذجا للمحاولة الناجحة ، يراها ويتأثر بها من يريد القدوة الميسرة العملية الواقعية ، التي لا تعيش في هالات ولا في خيالات .

وهذه السورة فيها عتاب للرسول الأمين صلى الله عليه وسلم على تحريمه ما أحل الله له ، ولو كتم النبي من أمر القرآن شيئا لكتم هذا العتاب .

إن هذا القرآن كتاب الحياة بكل ما فيها ، وقد شاء الله أن يواكب الوحي حياة الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ، فيبارك الخطوات الناجحة ، ويُقوّم ما يحتاج إلى تقويم ، وبذلك تكون القدوة في متناول الناس .

قال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } . ( الأحزاب : 21 ) .

لقد عاتب القرآن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبوله الفداء من أسرى بدر ، وفي إذنه للمخلفين بالقعود عن الجهاد ، وفي إعراضه عن الأعمى الذي ألحّ في السؤال ، وفي تحريمه ما أحل الله له .

كما عرض القرآن جوانب القوة والجهاد والتربية والسلوك للنبي الأمين ، وجعل حياته الخاصة والعامة كتابا مفتوحا لأمته وللبشرية كلها ، تقرأ فيه صورة العقيدة ، وترى فيه تطبيقاتها الواقعية ، ومن ثم لا يجعل فيها سرا مخبوءا ولا سترا مطويا ، بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن ، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العادي ، حتى مواضع الضعف البشري الذي لا حيلة فيه لبشر ، بل إن الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم للناس .

إن حياة الرسول ملك للدعوة ، وهي الصورة المنظورة الممكنة التطبيق من العقيدة ، وقد جاء ليعرضها للناس في شخصه وفي حياته ، كما يعرضها بقوله وفعله ، ولهذا خُلق ، ولهذا جاء ، لتكون السنة هي ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير ، وليكون هو النموذج العملي الملموس في دنيا الناس ، يتعرض للأحزان ، ويموت ابنه ، ويصاب في غزوة أحد ، وتنتشر الشائعات عن زوجته عائشة ، ويعيب المنافقون عليه بعض الأمور ، لتكون الصورة كاملة للإنسان بكل ما فيه ، وليكون الوحي بعد ذلك فيصلا ، ودليلا هاديا فيما ينبغي سلوكه في هذه الحياة .

قصة التحريم

تزوج النبي صلى الله عليه وسلم تسع نساء لحكم إلهية ، ولتكون هذه الزوجات مبلغات لشئون الوحي فيما يخص النساء ، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم صدر حياته مع خديجة وكان عمره خمسا وعشرين سنة وعمرها أربعين ، وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنوات ، ولم يتزوج عليها في حياتها ، وكان وفيا لذكراها ، وقد ماتت خديجة وعمره خمسون عاما .

ثم تزوج عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر ، وأم سلمة ، وقد مات زوجها شهيدا فضم النبي صلى الله عليه وسلم إليه عيالها من أبي سلمة وتزوجها ، وزينب بنت جحش زوج مولاه ومتبناه زيد ، ليكون ذلك تشريعا للناس في إباحة زواج الإنسان من زوجة ابنه المتبنى .

قال تعالى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } . ( الأحزاب : 37 ) .

وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق ، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم أعتق الصحابة أقاربها وأسلم أهلها ، وكانت أيمن امرأة على قومها . ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت مهاجرة إلى الحبشة ، ثم ارتد زوجها وتنصر فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءت من الحبشة إلى المدينة ، ثم تزوج إثر فتح خيبر صفية بنت حيى بن أخطب زعيم بني النضير ، وكانت آخر زوجاته ميمونة بنت الحارث بن حزن ، وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عباس .

وكانت لكل زوجة من أزواجه صلى الله عليه وسلم قصة وسبب في زواجه منها ، ولم يكن معظمهن شواب ، ولا ممن يرغب فيهن الرجال لجمال ، وكل نسائه قد سبق لهن الزواج ما عدا عائشة ، فقد كانت البكر الوحيدة بين نسائه .

وقد أنجب النبي صلى الله عليه وسلم جميع أبنائه من خديجة ، فقد رزق منها ولدين وأربع بنات ، وقد مات الولدان في صدر حياته صلى الله عليه وسلم وبقيت البنات على ما بعد الرسالة ، ثم ماتت ثلاث من بناته وهن : رقية ، وزينب ، وأم كلثوم ، وعاشت فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر بعد وفاة أبيها ، ولم ينجب صلى الله عليه وسلم من زوجة أخرى غير خديجة .

وكان المقوقس ملك مصر قد أهدى إليه جاريتين هما مارية وسيرين ، فتسرى بمارية ، وأهدى سيرين إلى حسان بن ثابت ، ولما كانت مارية جارية لم يكن لها بيت بجوار المسجد ، فكان بيتها في عوالي المدينة ، في المحل الذي يقال له الآن : ( مشربة أم إبراهيم ) ، وقد رُزق النبي منها بمولود ذكر سماه إبراهيم تيمنا بإبراهيم الخليل .

وقد ماتت خديجة والنبي صلى الله عليه وسلم في الخمسين ، ولم يرزق بمولود من نسائه جميعا طوال عشر سنوات ، ثم رزق إبراهيم وقد تخطى الستين ، ففاضت نفسه بالمسرة ، وامتلأ قلبه الإنساني الكبير أُنسا وغبطة ، وارتفعت مارية بهذا الميلاد في عينيه إلى مكانه سمت بها عن مقام مواليه إلى مقام أزواجه ، وزادت عنده حظوة وقربا .

كان طبيعيا أن يدس ذلك في نفوس سائر زوجاته غيرة ، تزايدت أضعافا بأنها أم إبراهيم ، وبأنهن جميعا لا ولد لهن ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتردد كل يوم على إبراهيم ويحمله بين يديه ، ويفرح لابتسامته البريئة ، ويُسر بنموه وجماله .

وكانت المرأة في الجاهلية تُسام الخسف صغيرة ، وتُمسك على الذل كبيرة ، فلما جاء الإسلام حرّم وأد البنات ، وسما بالمرأة إلى منزلة سامية ووصى النبي بالنساء خيرا ، وعامل نساءه معاملة حسنة ، وجعل لنسائه من المكانة ما لم يكن معروفا قط عند العرب .

قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا بنسائه ألين الناس ، وأكرم الناس ، ضحاكا بساما .

تحريم مارية :

حدث أن جاءت مارية القبطية من عوالي المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت حفصة في زيارة لبيت أبيها ، فدخلت مارية في حجرة حفصة ، وأقامت بها وقتا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وعادت حفصة فوجدت مارية في بيتها ، فجعلت تنتظر خروجها وهي أشد ما تكون غيرة ، وجعلت كلما طال بها الانتظار تزداد الغيرة بها شدة ، فلما خرجت مارية ودخلت حفصة قالت : يا نبي الله ، لقد جئتَ إليّ شيئا ما جئتَ إلى أحد من أزواجك بمثله ، في يومي وفي دوري وعلى فراشي . قال صلى الله عليه وسلم : " ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها " ، قالت : بلى ، فحرمها ، وقال : " لا تذكري ذلك لأحد " ، فذكرته لعائشة ، فأظهره الله عز وجل عليه ، فأنزل : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ . . . } فبلغنا نبي الله صلى الله عليه وسلم كفّر عن يمينه وأصاب جاريته1

تحريم العسل :

روى البخاري ، عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، ويمكث عندها ، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير2 ، إني أجد منك ريح مغافير ، قال : " لا ، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا " 3

فهذا هو ما حرمه على نفسه وهو حلال له ، وقد نزل بشأنه : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ . . . }

ويبدو أن التي حدثها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث وأمرها بستره قالته لزميلتها المتآمرة معها ، ثم أطلع الله رسوله على حديثهما .

قال ابن جرير الطبري :

والصواب من القول في ذلك أن يقال : كان الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحله له ، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته ، وجائز أن يكون كان شرابا من الأشربة ، وجائز أن يكون كان غير ذلك ، غير أنه أي ذلك كان فإنه كان تحريم شيء كان له حلالا ، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه4

النبي يهجر نساءه :

كان من جراء هذا الحادث ، وهو تحريم مارية أو تحريم العسل ، وما كشف عنه من تآمر ومكايدات في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن غضب النبي فآلى من نسائه لا يقربهن شهرا ، وهمّ بتطليقهن ، ثم نزلت هذه السورة وقد هدأ غضبه صلى الله عليه وسلم فعاد إلى نسائه .

روى الإمام أحمد في مسنده ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، أن ابن عباس سأل عمر عن المرأتين اللتين قال الله تعالى لهما : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا . . . } ( التحريم : 4 ) . فقال عمر : هما عائشة وحفصة ، ثم قال عمر : كنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، قال عمر ، فبينما أنا في أمر آتمره إذ قالت لي امرأتي : لو صنعت كذا وكذا ، فقلت لها : ومالك أنت ولما هاهنا ، وما تكلفك في أمر أريده ؟ فقالت لي : عجبا لك يا ابن الخطاب ، ما تريد أن تراجع أنت ، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان ، وإن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، قال : فانطلقت فدخلت على حفصة ، فقلت : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان ؟ فقالت حفصة : والله إنا لنراجعه ، فقلت : تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله ، يا بنية لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها .

واعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا ، منقطعا عنهن في مشربة منعزلة ، واستأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات حتى أذن له . قال عمر : فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه ، فقلت : أطلّقت يا رسول الله نساءك ؟ فرفع رأسه إليّ وقال : " لا " ، فقلت : الله أكبر ، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرتُ أن تراجعني فقالت : ما تنكر أن أراجعك ؟ فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، قد دخلت على حفصة فقلت : لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك ، فتبسم أخرى ، فقلت : أستأنس يا رسول الله ؟ قال : " نعم " ، فجلست ، فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا هيبة مقامه ، فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك ، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله ، فاستوى جالسا ، وقال : أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " . فقلت : استغفر الله يا رسول الله وكان أقسم ألا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل . 5

اصطفاء الرسول :

يقول الله تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير } . ( الحج : 75 ) .

لقد اصطفى الله محمدا ليبلغ الرسالة الأخيرة للناس ، واختاره إنسانا تتمثل فيه العقيدة الإسلامية بكل خصائصها ، وتتجسم فيه بكل حقيقتها " ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها ، إنسانا قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلها ، ضليع التكوين الجسدي ، قوي البنية ، سليم البناء ، صحيح الحواس ، يقظ الحس ، يتذوق المحسوسات تذوقا كاملا سليما ، وهو في ذات الوقت ضخم العاطفة ، حي الطبع ، سليم الحساسية ، يتذوق الجمال ، متفتح للتلقي والاستجابة ، وهو في الوقت ذاته كبير العقل ، واسع الفكر ، فسيح الأفق ، قوي الإرادة ، يملك نفسه ولا تملكه ، ثم هو بعد ذلك كله النبي الذي تشرق روحه بالنور الكلي ، والذي تطيق روحه الإسراء والمعراج ، والذي ينادي من السماء ، والذي يرى نور ربه ، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كل شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر ، فيسلم عليه الحصى والحجر ، ويحن له الجذع ، ويرتجف به جبل أحد ، ثم تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلها فإذا هي التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها " 6

مع السورة

1- حرّم النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية على نفسه ، أو حرم العسل على نفسه ، مرضاة لزوجاته ، وتنزل وحي السماء يفيد أن ما أحله الله لا ينبغي أن يحرمه الإنسان .

2- أباح الله للإنسان إذا حرّم حلالا أو أقسم على يمين ورأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ثم يكفّر عن يمينه .

3- أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بتحريم مارية ، وأن أبا بكر وعمر يليان أمر هذه الأمة من بعده ، وأمرها أن تكتم ذلك ، ولكنها لم تكتمه ، وأخبرت به عائشة ، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فَلاَمَ حفصة على إفشاء سره ، وأخبرها أنه لم يعلم هذا السر من عائشة ولكن من العليم الخبير .

4- أدّبت السورة عائشة وحفصة ، وبيّنت أن التآمر وإفشاء السر مؤلم للنبي ، ومقلق لهذا القلب الكبير ، وهذا أمر يستحق التوبة والإنابة ، ثم بينت أن إيلام النبي صلى الله عليه وسلم أمر كريه وسيرتد الكيد على صاحبه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم معه قوة غالبة ، يكفي أن معه الله والملائكة وصالح المؤمنين .

5- هدد الله نساء النبي بالطلاق ، وبأن يعوضه الله منهن بنساء هن المثل العليا في القنوت والعبادة والتوبة والجمال ، وقد أثمر هذا التهديد ثمرته ، فعادت نساؤه إلى الطاعة والخضوع ، واستأنف النبي صلى الله عليه وسلم حياته متفرغا لرسالته ، وتبليغ دعوته ومرضاة ربه ، قرير العين في بيته ومع أسرته .

والآيات ترسم صورة من الحياة البيتية لهذا الرجل الذي كان ينهض بإنشاء أمة ، وإقامة دولة ، على غير مثال معروف ، وعلى غير نسق مسبوق ، أمة تنهض بحمل أمانة العقيدة الإلهية في صورتها الأخيرة ، وتنشئ في الأرض مجتمعا ربانيا في صورة واقعية يتأسى بها الناس .

وفي ظلال هذا الحادث تهيب الآيات ( 6-9 ) بالذين آمنوا ليؤدوا واجبهم في بيوتهم ، من التربية والتوجيه والتذكير ، فيقوا أنفسهم وأهليهم من النار ، وترسم لهم مشهدا من مشاهدها وحال الكفار عندها .

ثم تجدد الدعوة إلى التوبة النصوح ، وتصور لهم الجنة التي تنتظر التائبين ، ثم تدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الكفار والمنافقين وحماية المجتمع الإسلامي من الداخل والخارج .

فالآيات الأولى ( 1-5 ) دعوة لتوبة نساء النبي وحماية بيته ونفسه .

والآيات التالية ( 6-9 ) دعوة لتوبة المؤمنين ومحافظتهم على تربية أولادهم وبناتهم لأن الأسرة هي قوام المجتمع .

ثم تجيء الجولة الثالثة والأخيرة ، وكأنها التكملة المباشرة لتهديد عائشة وحفصة ، فقد تحدثت الآيات ( 10-12 ) عن امرأة نوح وامرأة لوط ، كمثل للكفر في بيت مؤمن ، وهو تهديد مستتر لكل زوجة تخون زوجها وتخون رسالته ودعوته ، فلن ينجيها من العذاب أن أقرب الناس إليها نبي رسول أو داعية كريم .

ولا يضر المرأة المؤمنة أن يكون أقرب الناس إليها طاغية جبارا أو ملكا متسلطا معتديا ، وقد ذُكرت امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر ، وجعلت السورة في ختامها نموذجا رفيعا للمرأة المؤمنة يتمثل في آسية امرأة فرعون التي استعلت على المال والملك والجاه والسلطان ورغبت فيما عند الله .

ويتمثل في مريم ابنة عمران ، المتطهرة المؤمنة ، القانتة المصدقة بكلمات ربها وكتبه .

وبذلك نجد المرأة تسير في ركب الإيمان ، ويتحدث القرآن عنها كنموذج للخير يتمثل في أم موسى ، وفي أم عيسى ، وفي بلقيس التي أسلمت لله رب العالمين ، وفي امرأة فرعون التي زهدت في ملك فرعون ورغبت في ثواب الله رب العالمين .

المعنى الإجمالي للسورة

قال الفيروزبادي :

معظم مقصود سورة التحريم ما يأتي : عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في التحريم والتحليل قبل ورود وحي سماوي ، وتعيير الأزواج الطاهرات على إيذائه وإظهار سره ، والأمر بالتحذير والتجنب من جهنم ، والأمر بالتوبة النصوح ، والوعد بإتمام النور في القيامة ، والأمر بجهاد الكفار بطريق السياسة ، ومع المنافقين بالبرهان والحجة ، وبيان أن القرابة غير نافعة بدون الإيمان والمعرفة ، وأن قرب المفسدين لا يضر مع وجود الصدق والإخلاص ، والخبر عن صدق إيمان امرأة فرعون ، وتصديق مريم بقوله : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } . ( التحريم : 12 ) .

بعض أحوال نساء النبي صلى الله عليه وسلم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 1 ) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 2 ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ( 3 ) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ( 4 ) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ( 5 ) }

1

المفردات :

تحرّم : تمتنع

ما أحل الله : العسل ، أو مارية القبطية .

تبتغي : تطلب .

التفسير :

1- { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .

هناك روايتان في سبب نزول هذه الآية :

الرواية الأولى :

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحفصة بنت عمر : لقد حرّمت مارية على نفسي . استرضاء لها ، لأن حفصة كانت في زيارة أبيها ، وجاءت مارية القبطية من عوالي المدينة ، فدخلت في بيت حفصة ، فلما جاءت حفصة أخبروها بأن مارية في حجرتها ، فتغيّظت من ذلك ، وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أراك إلا أعرست بها على سريري ، وما كنت تفعلها لولا هواني عليك ، فقال صلى الله عليه وسلم لحفصة : " إني حرّمت مارية على نفسي فاكتمي علي " . لكنّ حفصة أخبرت عائشة بذلك ، وكانتا متصادقتين ، فعاتبهما الله تعالى .

الرواية الثانية :

أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على زينب فشرب عسلا ، فاتفقت عائشة وحفصة إذا دخل على واحدة منهما أن تقول له : نشمّ منك رائحة مغافير – وهو طعام حلو كريه الريح – فلما قالتا له ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : " شربت عسلا عند زينب ، ولن أعود إليه " ، وحلف فنزلت : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ . . . }

وذكر العلماء : أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما وقع منه الأمران : تحريم مارية ، وبعد فترة قريبة حرّم العسل على نفسه ، فنزلت الآية عقب الأمرين جميعا .

والإمام الطبري يذكر أن المستفاد من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرّم على نفسه شيئا ما قد أحله الله له ، فحرّمه على نفسه تطييبا لخاطر نسائه ، لكن الله تعالى لامه على ذلك ، وأحلّ له العدول عن اليمين ، والاستمتاع بهذا الحلال .

وقد يكون ما حرّمه على نفسه هو مارية القبطية ، وقد يكون العسل ، وقد يكون غير ذلك . 1 . ه .

فعاتبه الله تعالى على ما بدر منه ، رفقا به ، وتنويها بقدره ، وإجلالا لمنصبه صلى الله عليه وسلم ، أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشقّ عليه ، مع أنه أنف لطف الله به .

ومعنى الآية :

يا أيها النبي الموحى إليك ، الذي فضله الله ، وختم به الرسل ، لِمَ تحرِّم على نفسك ما أحله الله لك ، مثل العسل ، أو مارية القبطية ، تبتغي بذلك مرضاة عائشة وحفصة ، والله غفور رحيم ، يغفر لك ويرحمك برحمته الواسعة .

ونلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حرّم العسل أو مارية ، بمعنى التحريم الشرعي ، وإنما كان قد قرر حرمان نفسه من العسل أو من مارية ، فجاء هذا العتاب بأنّ ما جعله الله حلالا ، لا يجوز حرمان النفس من عمدا وقصدا ، إرضاء لأحد .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التحريم مدنية وآياتها اثنتا عشرة ، نزلت بعد سورة الحجرات . وهي تسمى سورة النبي ، لأنها تعرض في أولها صفحة من الحياة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصورة من الانفعالات الإنسانية بين بعض نسائه ، وبينهن وبينه ، وانعكاس هذه الانفعالات وما يترتب عليها في حياته صلى الله عليه وسلم ، وفي المجتمع الإسلامي آنذاك ، ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ذلك .

وقد مر معنا في سورة الحجرات وصف حجرات النبي ، وأنها كانت بسيطة جدا ، فهي من لبن وسقفها من الجريد ، وأبوابها ستائر من الخيش والشَعر .

وكانت حياته صلى الله عليه وسلم في بيته بسيطة غاية البساطة . وكما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : كان إذا خلا بنسائه ألينَ الناس ، وأكرم الناس ، ضحّاكا بسّاما . وكان يستمتع بنسائه ويمتعهن من ذات نفسه ، ومن فيض قلبه ، ومن حسن أدبه ، ومن كريم معاملته ، وكما تقول عائشة : كان في بيته في خدمة أهله .

فأما حياته المادية وحياة أزواجه فكانت في غالبها كفافا بعد أن افتُتحت له الفتوح وتبحبح المسلمون بالغنائم والفيء ، تقول السيدة عائشة : يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيت رسول الله نار .

وكان يقع بين نسائه بعض الشجار ، يغار بعضهن من بعض ، شأن بقية الناس . وكانت بعضهن تتآمر على غيرها من ضرائرها وهكذا . . .

والحادث الذي نزل بشأنه أول هذه السورة الكريمة واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول الكريم ، وفي حياة أزواجه . وقد وردت في ذلك عدة روايات لا مجال لذكرها ، لكنا سنذكر بعضها عند تفسير الآيات .

أشارت السورة الكريمة إلى أمر من هذه الأمور أغضب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض زوجاته ، فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النفوس مما أحله الله له ، وحذَّرَت زوجاته مغبّة ما أقدمن عليه . ثم انتقلت السورة إلى أمر المؤمنين أن يقوا أنفسهم وأهليهم نارا وقودها الناس والحجارة ، وبينت أنه لا يُقبل من الكافرين اعتذار يوم القيامة ، ودعت المؤمنين إلى التوبة ، كما دعت الرسول الكريم إلى جهاد الكفار والمنافقين والشدة معهم . ثم خُتمت سورة التحريم بضرب بعض الأمثلة : إن صلاح الأزواج لا يرد عذاب الله عن زوجاتهم المنحرفات ، وأن فساد الأزواج لا يضر الزوجات إن كن صالحات مستقيمات ، { كل نفس بما كسبت رهينة } . . .

تحرّم : تمتنع عن .

تبتغي : تطلب .

الحديث في هذه الآيات الكريمة عما كان يجري في بيتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالرسول الكريم بشَرٌ يجري في بيته ما يكونُ في بيوت الناس ، من شِجارٍ بين أزواجه وغيرةٍ وما شابه ذلك .

وقد وردتْ رواياتٌ متعدّدة في سبب نزول الآيات ، من أصحُّها أنه شربَ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش ، فغارت عائشةُ وحفصةُ من ذلك . واتّفقتا أنّ أيّ واحدةٍ منهما دخلَ عليها النبي الكريم تقول له : إنّي أجِدُ منك ريحَ مغافير . ( والمغافيرُ صَمغٌ حلو له رائحةٌ كريهة ) .

وأولَ ما دخل على حفصةَ قالت له ذلك ، فقال لها : بل شربتُ عسلاً عند زينبَ بنتِ جحش ، ولن أعودَ له . وأُقسِم على ذلك ، فلا تُخبري بذلك أحدا .

فأخبرت حفصةُ بذلك عائشةَ وكانتا ، كما تقدّم ، متصافيتَين متفقتين . . . . فعاتبَ الله تعالى نبيَّه على تحريمِه ما أحلَّه الله له كي يُرضيَ بعضَ زوجاته .

وبعدَ عتابِه الرقيق وندائه : يا أيّها النبيّ . . . . قال تعالى { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة التحريم [ وهي مدنية ]

{ 1-5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }

هذا عتاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، حين حرم على نفسه سريته " مارية " أو شرب العسل ، مراعاة لخاطر بعض زوجاته ، في قصة معروفة ، فأنزل الله [ تعالى ] هذه الآيات { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } أي : يا أيها الذي أنعم الله عليه بالنبوة والوحي والرسالة { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } من الطيبات ، التي أنعم الله بها عليك وعلى أمتك .

{ تَبْتَغِيَ } بذلك التحريم { مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } هذا تصريح بأن الله قد غفر لرسوله ، ورفع عنه اللوم ، ورحمه ، وصار ذلك التحريم الصادر منه ، سببًا لشرع حكم عام لجميع الأمة ، فقال تعالى حاكما حكما عاما في جميع الأيمان :

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية في قول الجميع ، وهي اثنتا عشرة آية . وتسمى سورة " النبي " .

فيه خمس مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " يا أيها النبي لم تحرِّمُ ما أحل الله لك " ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي لله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا ، قالت : فتواطأت أنا وحفصة أن أَيَّتَنَا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير{[15119]} ! أكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك . فقال : ( بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له ) . فنزل : " لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله - إن تتوبا : ( لعائشة وحفصة ) ، " وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا " [ التحريم 30 ] لقوله : ( بل شربت عسلا ) . وعنها أيضا قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ، فكان إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنو منهن ، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس ، فسألت عن ذلك فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل ، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة . فقلت : أما والله لنحتالن له ، فذكرت ذلك لسودة وقلت : إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول لك لا . فقولي له : ما هذه الريح ؟ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح - فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل . فقولي له : جَرَسَتْ نَحْلُه العُرْفُط . وسأقول ذلك له ، وقوليه أنت يا صفية . فلما دخل على سودة - قالت : تقول سودة : والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي ، وإنه لعلى الباب ، فَرَقاً{[15120]} منك . فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ قال : ( لا ) قالت : فما هذه الريح ؟ قال : ( سقتني حفصة شربة عسل ) قال : جَرَسَتْ نحلُه العُرْفُط . فلما دخل علي قلت له مثل ذلك . ثم دخل على صفية فقالت بمثل ذلك . فلما دخل على حفصة قالت : يا رسول الله ، ألا أسقك منه . قال ( لا حاجة لي به ) قالت : تقول سودة سبحان الله ! والله لقد حرمناه{[15121]} . قالت : قلت لها اسكتي . ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة . وفي الأولى زينب . وروي ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة . وقد قيل : إنما هي أم سلمة ، رواه أسباط عن السدي . وقاله عطاء بن أبي مسلم . ابن العربي : وهذا كله جهل أو تصور بغير علم . فقال باقي نسائه حسدا وغيرة لمن شرب ذلك عندها : إنا لنجد منك ريح المغافير . والمغافير : بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة ، فيها حلاوة . واحدها مغفور ، وجرست : أكلت . والعُرْفُط : نبت له ريح كريح الخمر . وكان عليه السلام يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة أو يجدها ، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك . فهذا قول .

وقول آخر - أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها لأجل أزواجه ، قاله ابن عباس وعكرمة . والمرأة أم شريك . وقول ثالث - إن التي حرم مارية القبطية ، وكان قد أهداها له المقوقس ملك الإسكندرية . قال ابن إسحاق : هي من كُورة أنْصِنا{[15122]} من بلد يقال له حفن فواقعها في بيت حفصة . روي الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها - وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها - فقالت له : تدخلها بيتي ! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك . فقال لها : ( لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها ) قالت حفصة : وكيف تحرم عليك وهي جاريتك ؟ فحلف لها ألا يقربها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تذكريه لأحد ) . فذكرته لعائشة ، فآلى لا يدخل على نسائه شهرا ، فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة ، فأنزل الله عز وجل " لم تحرم ما أحل الله لك " الآية .

الثانية- أصح هذه الأقوال أولها . وأضعفها أوسطها . قال ابن العربي : " أما ضعفه في السند فلعدم عدالة رواته ، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم للموهوبة ليس تحريما لها ؛ لأن من رد ما وهب له لم يحرم عليه ، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل . وأما من روي أنه حرم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى ، لكنه لم يدون في الصحيح . وروي مرسلا . وقد روي ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أم إبراهيم فقال : ( أنت علي حرام والله لا آتينك ) . فأنزل الله عز وجل في ذلك : " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " وروي مثله ابن القاسم عنه . وروي أشهب عن مالك قال : راجعت عمر امرأة من الأنصار في شيء فاقشعر من ذلك وقال : ما كان النساء هكذا ! قال : بلى ، وقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه . فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة فقال لها : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، ولو أعلم أنك تكره ما فعلت . فلما بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هجر نساءه قال : رغم أنف حفصة . وإنما الصحيح أنه كان في العسل وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه ، فجرى ما جرى فحلف ألا يشربه وأسر ذلك . ونزلت الآية في الجميع .

الثالثة- قوله تعالى : " لم تحرم " إن كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا . ولا يحرم قول الرجل : " هذا علي حرام " شيئا حاشا الزوجة . وقال أبو حنيفة : إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس ، وكانت يمينا توجب الكفارة . وقال زفر : هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون . وعول المخالف على أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم العسل فلزمته الكفارة . وقد قال الله تعالى : " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " [ التحريم : 2 ] فسماه يمينا . ودليلنا قول الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا{[15123]} " [ المائدة : 87 ] ، وقوله تعالى : " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون{[15124]} " [ يونس : 59 ] . فذم الله المحرم للحلال ولم يوجب عليه كفارة . قال الزجاج : ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله . ولم يجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحرم إلا ما حرم الله عليه . فمن قال لزوجته أو أمته : أنت علي حرام ، ولم ينو طلاقا ولا ظهارا ، فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين . ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة . ولو حرم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك . وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة .

الرابعة- واختلف العلماء في الرجل يقول لزوجته : " أنت علي حرام " على ثمانية عشر قولا : أحدها : لا شيء عليه . وبه قال الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ . وهو عندهم كتحريم الماء والطعام ، قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " [ المائدة : 87 ] والزوجة من الطيبات ومما أحل الله . وقال تعالى : " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام{[15125]} " [ النحل : 116 ] . وما لم يحرمه الله فليس لأحد أن يحرمه ، ولا أن يصير بتحريمه حراما . ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله هو علي حرام . وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه وهو قوله : ( والله لا أقربها بعد اليوم ) فقيل له : لم تحرم ما أحل الله لك ، أي لم تمتنع منه بسبب اليمين . يعني أقدم عليه وكفر .

ثانيها : أنها يمين يكفرها ، قاله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود وابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم – والأوزاعي ، وهو مقتضى الآية . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : إذا حرم الرجل عليه امرأته فإنما هي يمين يكفرها . وقال ابن عباس : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرم جاريته فقال الله تعالى : " لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله تعالى - قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " فكفر عن يمينه وصير الحرام يمينا . خرجه الدارقطني .

ثالثها : أنها تجب فيها كفارة وليست بيمين ، قاله ابن مسعود وابن عباس أيضا في إحدى روايتيه ، والشافعي في أحد قوليه ، وفي هذا القول نظر . والآية ترده على ما يأتي .

رابعها : هي ظهار ، ففيها كفارة الظهار ، قال عثمان وأحمد بن حنبل وإسحاق .

خامسها : أنه إن نوى الظهار وهو ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه كان ظهارا . وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين . وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين ، قاله الشافعي .

سادسها : أنها طلقة رجعية ، قاله عمر بن الخطاب والزهري وعبدالعزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون . وسابعها : أنها طلقة بائنة ، قاله حماد بن أبي سليمان وزيد بن ثابت . ورواه ابن خويز منداد عن مالك .

ثامنها : أنها ثلات تطليقات ، قال علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت أيضا وأبو هريرة .

تاسعها : هي في المدخول بها ثلاث ، وينوي في غير المدخول بها ، قاله الحسن وعلي بن زيد والحكم . وهو مشهور مذهب مالك .

عاشرها : هي ثلاث ، ولا ينوي بحال ولا في محل وإن لم يدخل{[15126]} ، قاله عبدالملك في المبسوط ، وبه قال ابن أبي ليلى .

حادي عشرها : هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي التي دخل بها ثلاث ، قاله أبو مصعب ومحمد بن عبدالحكم{[15127]} .

ثاني عشرها : أنه إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى . فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثا . فإن نوى ثنتين فواحدة . فإن لم ينو شيئا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته ، قاله أبو حنيفة وأصحابه . وبمثله قال زفر ، إلا أنه قال : إذا نوى اثنتين ألزمناه .

ثالث عشرها : أنه لا تنفعه نية الظهار وإنما يكون طلاقا ، قاله ابن القاسم .

رابع عشرها : قال يحيى بن عمر : يكون طلاقا ؛ فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار .

خامس عشرها : إن نوى الطلاق فما أراد من أعداده . وإن نوى واحدة فهي رجعية . وهو قول الشافعي رضي الله عنه . وروي مثله عن أبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والتابعين .

سادس عشرها : إن نوى ثلاثا فثلاثا ، وإن واحدة فواحدة . وإن نوى يمينا فهي يمين . وإن لم ينو شيئا فلا شيء عليه . وهو قول سفيان . وبمثله قال الأوزاعي وأبو ثور ، إلا أنهما قالا : إن لم ينو شيئا فهي واحدة .

سابع عشرها : له نيته ولا يكون أقل من واحدة ، قاله ابن شهاب . وإن لم ينو شيئا لم يكن شيء ، قاله ابن العربي . ورأيت لسعيد بن جبير وهو :

الثامن عشر : أن عليه عتق رقبة وإن لم يجعلها ظهارا . ولست أعلم لها وجها ولا يبعد{[15128]} في المقالات عندي .

قلت : قد ذكره الدارقطني في سننه عن ابن عباس فقال : حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا روح قال : حدثنا سفيان الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي علي حراما . فقال : كذبت ! ليست عليك بحرام ، ثم تلا " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " عليك أغلظ الكفارات : عتق رقبة . وقد قال جماعة من أهل التفسير : إنه لما نزلت هذه الآية كفر عن يمينه بعتق رقبة ، وعاد إلى مارية صلى الله عليه وسلم ، قاله زيد بن أسلم وغيره .

قال علماؤنا : سبب الاختلاف في هذا الباب أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نص ولا ظاهر صحيح يعتمد عليه في هذه المسألة ، فتجاذبها العلماء لذلك . فمن تمسك بالبراءة الأصلية فقال : لا حكم ، فلا يلزم بها شيء . وأما من قال إنها يمين ، فقال : سماها الله يمينا . وأما من قال : تجب فيها كفارة وليست بيمين ، فبناه على أحد أمرين : أحدهما : أنه ظن أن الله تعالى أوجب الكفارة فيها وإن{[15129]} لم تكن يمينا . والثاني : أن معنى اليمين عنده التحريم ، فوقعت الكفارة على المعنى . وأما من قال : إنها طلقة رجعية ، فإنه حمل اللفظ على أقل وجوهه ، والرجعية محرمة الوطء كذلك ، فيحمل اللفظ عليه . وهذا يلزم مالكا ، لقوله : إن الرجعية محرمة الوطء . وكذلك وجه من قال : إنها ثلاث ، فحمله على أكبر معناه وهو الطلاق الثلاث . وأما من قال : إنه ظهار ، فلأنه أقل درجات التحريم ، فإنه تحريم لا يرفع النكاح . وأما من قال : إنه طلقة بائنة ، فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة ، وأن الطلاق البائن يحرمها . وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا ، فلما ارتجعها احتاط بأن يلزمه الكفارة . ابن العربي : " وهذا لا يصح ؛ لأنه جمع بين المتضادين ، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد ، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل . وأما من قال : إنه ينوى في التي لم يدخل بها ، فلأن الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا . وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته : إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع ، فيكفي أخذا بالأقل المتفق عليه . وأما من قال : إنه ثلاث فيهما ، فلأنه أخذ بالحكم الأعظم ، فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها . ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم " . والله أعلم . وهذا كله في الزوجة . وأما في الأمة فلا يلزم فيها شيء من ذلك ، إلا أنه ينوي به العتق عند مالك . وذهب عامة العلماء إلى أن عليه كفارة يمين . ابن العربي . والصحيح أنها طلقة واحدة ؛ لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة إلا أن يعدده . كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله إلا أن يقيده بالأكثر ، مثل أن يقول أنت علي حرام إلا بعد زوج ، فهذا نص على المراد .

قلت : أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة لما خلا النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها بجاريته ، ذكره الثعلبي . وعلى هذا فكأنه قال : لا يحرم عليك ما حرمته على نفسك ولكن عليك كفارة يمين ، وإن كان في تحريم العسل والجارية أيضا . فكأنه قال : لم يحرم عليك ما حرمته ، ولكن ضممت إلى التحريم يمينا فكفر عن اليمين . وهذا صحيح ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ثم حلف ، كما ذكره الدارقطني . وذكر البخاري معناه في قصة العسل عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عند زينب بنت جحش عسلا ويمكث عندها ، فتواطأت أنا وحفصة على أيَّتِنَا دخل عليها فلتقل : أكلت مغافير ؟ إني لأجد منك ريح مغافير ! قال : ( لا ولكن شربت عسلا ولن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا ) . يبتغي مرضات أزواجه . فيعني بقوله : ( ولن أعود له على جهة التحريم . وبقوله : ( حلفت ) أي بالله ، بدليل أن الله تعالى أنزل عليه عند ذلك معاتبته على ذلك ، وحوالته على كفارة اليمين بقوله تعالى : " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " يعني العسل المحرم بقوله : ( لن أعود له ) . " تبتغي مرضات أزواجك " أي تفعل ذلك طلبا لرضاهن . " والله غفور رحيم " غفور لما أوجب المعاتبة ، رحيم برفع المؤاخذة . وقد قيل : إن ذلك كان ذنبا من الصغائر . والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى ، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة .


[15119]:سيذكر المؤلف رحمه الله معنى هذه الكلمة والكلمات الآتية في هذا الحديث.
[15120]:قولها: "أن أبادئه"، أي أبدؤه وأناديه وهو لدى الباب لم يدن مني بعد بالكلام الذي علمتنيه. و"فرقا" أي خوفا من لومك.
[15121]:أي معناه شربة عسل.
[15122]:أنصنا (بالفتح ثم السكون وكسر الصاد المهملة والنون، مقصور): مدينة من نواحي الصعيد على شرقي النيل.
[15123]:راجع جـ 6 ص 260.
[15124]:راجع جـ 8 ص 354.
[15125]:راجع جـ 10 ص 195.
[15126]:كلمة "وإن لم يدخل" ليست في ابن العربي. وعبارة البحر لأبي حيان (جـ 8 ص 289): "هي ثلاث في الوجهين ولا ينوي في شيء" ونسبه أيضا لعبد الملك بن الماجشون وابن أبي ليلى.
[15127]:في ي: "محمد بن الحكم".
[15128]:في ابن العربي: "ولا يتعدد".
[15129]:في ابن العربي: "ولم تكن".
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مدنية ، وهي اثنتا عشرة آية . وهي مبدوءة بالعتاب من الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حرّمه على نفسه من الحلال استرضاء لبعض زوجاته . وما ينبغي أن يحرّم النبي على نفسه الحلال ليرضين عنه .

ويأمر الله عباده المؤمنين أن يصونوا أنفسهم ومن يلون من الأهلين من العذاب الحارق في نار متسعرة متأججة وقودها الناس والحجارة فيتقون ربهم ويأتمرون بأوامره ويفعلون الخير لعلهم ينجون .

ويأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمجاهدة الكافرين والمنافقين . فيجاهد الأولين الظالمين بالقتال ، ويجاهد الآخرين المخادعين بالحجة والمجادلة والبرهان . ثم يضرب الله لعباده مثلين من النساء . فمثل من النساء الكوافر ، زوجات لمؤمنين ، ومثل من النساء المؤمنات ، زوجات لكافرين .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ ياأيها النبي لم تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم 1 قد فرض الله لكم تحلّة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم 2 وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير 3 إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير 4 عسى ربه إن طلّقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا } .

في سبب نزول هذه الآيات روى ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده ، مارية القبطية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها . فقالت : لم تدخلها بيتي ، ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك . فقال لها : " لا تذكري هذا لعائشة ، وهي عليّ حرام إن قربتها " . قالت حفصة : وكيف تحرم عليك وهي جاريتك . فحلف لها لا يقربها وقال لها لا تذكريه لأحد . فذكرته لعائشة . فأبى أن يدخل على نسائه شهرا واعتزلهن تسعا وعشرين ليلة . فأنزل الله تبارك وتعالى : { لم تحرّم ما أحل الله لك } الآية{[4573]} .

وروى مسلم عن عائشة ( رضي الله عنها ) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا . قالت : فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير . أكلت مغافير{[4574]} ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك . فقال : " بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له " فنزل { لم تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك } يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم معاتبا : لم تحرم على نفسك الحلال الذي أحله الله لك ، تلتمس بتحريمك ذلك مرضاة زوجاتك { والله غفور رحيم } الله يغفر الذنوب لعباده المؤمنين ، وقد غفر لك هذه الزلة وهي تحريمك على نفسك ما أحله الله لك . والله جل وعلا رحيم بعباده أن يعاقبهم بعد أن يتوبوا .


[4573]:أسباب النزول للنيسابوري ص 291.
[4574]:المغافير: جمع مغفار، وهو صمغ حلو يسيل من شجر العرفط يؤكل. انظر المعجم الوسيط جـ 2 ص 656.