4- { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
أخبروني أيها الكفار ، هل الأصنام أو الأوثان أو الجن أو الملائكة ، أو جميع ما تعبدون من دون الله ، هل هذه المعبودات الزائفة خلقت شيئا من هذا الكون البديع ؟ أروني هذا الذي خلقته من الأرض ، هل خلقت الماء أو اليابس ؟ الشرق أو الغرب ؟ السهل أو الجبل ؟ الحيوان أو الإنسان ؟ والجواب معلوم : إن أحدا لم يدع مطلقا أنه خلق الأرض ، ولا جانبا منها ، لأن هذه المعبودات الزائفة لا تقدر على خلق شيء من ذلك ، وهذه الأرض لم تخلق نفسها ، فلم يبق إلا أن تكون من خلق الله .
ثم قل لهم أيها الرسول الكريم : { أم لهم شرك في السماوات . . . }
أي : تدرج معهم واسألهم : هل لهم مشاركة وإسهام في خلق السماوات ؟
هل ساعدوا الله وأعانوه في خلق شيء من ذلك ؟ والجواب معلوم ، ولكن القرآن يستمر في مناقشتهم وتحديهم بأن يثبتوا بأي حجة أو دليل ، يفيد أن هذه المعبودات قد خلقت أي شيء في الأرض أو السماء حتى تعبد .
{ ائتوني بكتاب من قبل هذا . . . }
أي : هل عندكم كتاب من الكتب المنزلة قبل القرآن ، كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى ، تشهد بأن هذه المعبودات الزائفة قد خلقت شيئا ، أو جانبا من الأرض أو السماء ؟ وإذا لم تكن عندكم وثيقة مكتوبة تثبت ذلك ، فهل عندكم بقية من علوم الأولين تنطق باستحقاق هذه المعبودات للعبادة ، أو أنهم خلقوا شيئا من الأرض ، أو اشتركوا في خلق السماوات ؟ هل لديكم أي دليل نقلي أو عقلي يثبت لهذه الأصنام خلقا للأرض ، أو مشاركة في خلق السماء ؟
فقدموا ما يثبت صدقكم ، فإن الدعوى لا تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو دليل نقلي ، وحيث إنه لا دليل لكم فقد ثبت بطلان كفركم ، وأقيمت الحجة عليكم .
أو أثارة من علم : بقية من علم .
ثم يردّ اللهُ تعالى على من يعبد غيره من المشركين فيأمر الرسولَ الكريم أن يقول لهم : أخبِروني عن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله ؟ هل خلقوا شيئاَ في هذه الدنيا ، أم أنهم شاركوا في خلْق السموات ؟ إنْ كان ما تدّعون حقا فأْتوني بكتابٍ من قبل هذا القرآن ، أو أي أثرٍ من عِلم الأولين تستندون إليه في دعواكم { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى : لما قدم ذكر{[58487]} الكتاب وعظيم الرحمة به وجليل بيانه ، وأردف ذلك بما تضمنته سورة الشريعة من توبيخ من كذب به وقطع تعلقهم وأنه سبحانه وتعالى قد نصب من دلائل السماوات والأرض إلى-{[58488]} ما ذكر في صدر السورة ما كل قسم منها{[58489]} كاف في الدلالة وقائم بالحجة ، ومع ذلك فلم يجر{[58490]} عليهم التمادي على ضلالهم والانهماك في سوء حالهم وسيىء محالهم ، أردفت{[58491]} بسورة الأحقاف تسجيلاً بسوء مرتكبهم وإعلاماً باليم{[58492]} منقلبهم فقال تعالى { ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى } ولو اعتبروا بعظيم ارتباط ذلك الحق وإحكامه وإتقانه لعلموا أنه لم يوجد عبثاً{[58493]} ، ولكنهم عموا عن الآيات وتنكبوا عن انتهاج الدلالات { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } ثم أخذ سبحانه وتعالى في تعنيفهم وتقريعهم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع فقال { أفرأيتم ما تدعون{[58494]} من دون الله } - إلى قوله : { وكانوا بعبادتهم كافرين } ثم ذكر عنادهم عند سماع الآيات فقال : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } الآيات ، ثم التحم الكلام وتناسج إلى آخر السورة - انتهى .
ولما قرر سبحانه الأصل الدال على التوحيد وإثبات العدل والرحمة بالبعث للفصل{[58495]} ، وكانوا يقولون : إنهم أعقل الناس ، وكان العاقل لا يأمن {[58496]}غوائل الإنذار{[58497]} إلا أن أعد لها ما يتحقق {[58498]}دفعه لها{[58499]} وكان لا يقدر على دفع المتوعد{[58500]} إلا من يساويه أو يزيد عليه بشركة أو غيرها ، وكانوا يدعون في أصنامهم أنها{[58501]} شركاء ، بنى على ذلك{[58502]} الأصل تفاريعه{[58503]} ، وبدأ بإبطال متمسكهم فقال سبحانه وتعالى آمراً له صلى الله عليه وسلم بأن ينبههم على سفههم بأنهم أعرضوا عما قد يضرهم من غير احتراز منه دالاً على عدم إلهية ما دعوه آلهة بعدم الدليل على إلهيتها من عقل أو نقل ، لأن منصب الإلهية لا يمكن أن يثبت و-{[58504]} له من الشرف ما هو معلوم بغير دليل قاطع : { قل } أي لهؤلاء المعرضين أنفسهم لغاية الخطر منكراً عليهم تبكيتاً وتوبيخاً : { أرءيتم } أي أخبروني بعد تأمل ورؤية باطنة { ما تدعون } أي دعاء عبادة ، ونبه على سفولهم بقوله تعالى : { من دون الله } أي الملك الأعظم الذي كل شيء دونه ، فلا كفوء له .
ولما كان من المعلوم أن الاستفهام عن رؤية ما {[58505]}مشاهدتهم له{[58506]} معلومة لا يصح إلا بتأويل{[58507]} أنه عن بعض الأحوال ، وكان التقدير : أهم{[58508]} شركاء في الأرض ، استأنف قوله : { أروني ما } وأكد الكلام بقوله سبحانه وتعالى : { ماذا خلقوا } أي اخترعوه { من الأرض }{[58509]} ليصح ادعاء{[58510]} أنهم شركاء فيها{[58511]} باختراع ذلك الجزء . ولما كان معنى الكلام وترجمته : أروني أهم شركاء في الأرض{[58512]} ؟ عادله بقوله : { أم لهم } أي الذين تدعونهم { شرك{[58513]} في السماوات } أي نوع من أنواع الشركة : تدبير - كما يقول أهل الطبائع ، أو خلق أو غيره ، أروني ذلك الذي خلقوه منها ليصح ادعاؤكم فيهم واعتمادكم عليهم بسببه .
فالآية من الاحتباك : ذكر الخلق أولاً دليلاً على حذفه ثانياً ، والشركة ثانيا دليلاً على حذفها أولاً .
ولما كان الدليل أحد شيئين : سمع وعقل ، قال تعالى : { ائتوني } أي-{[58514]} حجة على دعواكم في هذه الأصنام أنها خلقت شيئاً ، أو أنها تستحق أن تعبد { بكتاب } أي{[58515]} واحد يصح التمسك به ، لا أكلفكم إلى{[58516]} الإتيان بأكثر من كتاب واحد . ولما كانت الكتب متعددة ولم يكن كتاب قبل القرآن عاماً لجميع ما سلف من الزمان ، أدخل الجار فقال تعالى : { من قبل هذا } أي-{[58517]} الذي نزل عليّ كالتوراة والإنجيل والزبور ، وهذا من أعلام النبوة فإنها كلها شاهدة بالوحدانية ، لو أتى بها آت لشهدت عليه .
ولما ذكر الأعلى الذي لا يجب التكليف إلا به ، وهو النقل القاطع ، سهل عليهم فنزل إلى ما دونه الذي منه العقل ، وأقنع منه-{[58518]} ببقية واحدة ولو كانت أثراً لا عيناً فقال{[58519]} : { أو أثارة } أي بقية رسم صالح للاحتجاج ، قال ابن برجان : وهي{[58520]} البقية من أثر{[58521]} كل شيء يرى {[58522]}بعد ذهابه{[58523]} وحال رؤيته بأثرها {[58524]}خلف عن سلف{[58525]} يتحدثون بها في آثارهم ، قال البغوي{[58526]} : وأصل الكلمة من الأثر وهو الرواية . { من علم } أي قطعي بضرورة أو تجربة أو مشاهدة أو غيره ولو ظناً يدل على ما ادعيتم فيهم من الشركة . ولما كان لهم من النفرة من الكذب واستشناعه-{[58527]} واستبشاعه واستفظاظه ما ليس لأمة من الأمم ، أشار إلى تقريعهم بالكذب إن لم يقيموا دليلاً على دعواهم بقوله تعالى : { إن كنتم } أي بما هو لكم كالجبلة { صادقين * } أي عريقين في الصدق على ما تدعون لأنفسكم .