مكبّا على وجهه : ساقطا عليه لا يأمن العثور .
يمشي سويّا : مستويا منتصبا سالما من العثور . ( مثل للمشرك والموحّد ) .
أفمن يمشي مكبّا على وجهه أهدى أمّن يمشي سويّا عل صراط مستقيم .
على طريقة القرآن الكريم في التخييل الحسي والتجسيم ، نجد صورة رائعة لإنسان كافر يتنكّب الجادة ، ويكفر بالرسل ، ويغضب مولاه ، وينصرف إلى المعاصي ، حال كونه أعمى البصيرة ، مكبّا على وجهه أشبه بمن وضع وجهه في الأرض وسار معتمدا على يديه لا يبصر الطريق المعتدل ، وإنما يهيم على وجهه ، تأسره الشهوات ، وتستنزفه المعاصي ، حتى يحشر يوم القيامة ، ويتقى بوجهه سوء العذاب يوم القيامة .
أما المؤمن فهو يمشي معتدلا ، مرتفع القامة ، يعرف أين يضع قدميه ، لذلك يمشي في مرضاة ربّه ، ويسير إلى الطاعات وما أمر به الله ، ويبتعد عن المحرمات ، وما نهى عنه الله ، ثم يتساءل الرحمان سبحانه وتعالى : أيهما أهدى سبيلا وأقوم قيلا ، من يمشون في الظلمات ، ويتنكبون الجادة ، وتستهويهم المعاصي والذنوب ؟ أمّن يمشون على الصراط المستقيم في طاعة الرحمان في الدنيا ، ثم تتقدمهم أنوارهم وتحفّ بهم عن أيمانهم ، ويهيدهم ربهم إلى الصراط المستقيم في الطريق إلى الجنة ، ورضوان الله رب العالمين في الآخرة ؟ والجواب : لا شك أن المستقيم أهدى وأفضل .
{ 22 } { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
أي : أي الرجلين أهدى ؟ من كان تائها في الضلال ، غارقًا في الكفر قد انتكس قلبه ، فصار الحق عنده باطلًا ، والباطل حقًا ؟ ومن كان عالمًا بالحق ، مؤثرًا له ، عاملًا به ، يمشي على الصراط المستقيم في أقواله وأعماله وجميع أحواله ؟ فبمجرد النظر إلى حال هذين الرجلين ، يعلم الفرق بينهما ، والمهتدي من الضال منهما ، والأحوال أكبر شاهد من الأقوال .
ثم ضرب مثلا فقال : { أفمن يمشي مكباً على وجهه } راكباً رأسه في الضلالة والجهالة ، أعمى العين والقلب لا يبصر يميناً ولا شمالاً وهو الكافر . قال قتادة : راكبا على المعاصي في الدنيا فحشره الله على وجهه يوم القيامة ، { أهدى أمن يمشي سوياً } معتدلاً يبصر الطريق وهو ، { على صراط مستقيم } وهو المؤمن . قال قتادة : يمشي يوم القيامة سوياً .
قوله تعالى : " أفمن يمشي مكبا على وجهه " ضرب الله مثلا للمؤمن والكافر{[15200]} " مكبا " أي منكسا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله ، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه . كمن يمشي سويا معتدلا ، ناظرا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله . قال ابن عباس : هذا في الدنيا ، ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فَيَعْتَسِف{[15201]} ، فلا يزال ينكب على وجهه . وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير ، الماشي في الطريق المهتدى له . وقال قتادة : هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا ، فحشره الله يوم القيامة على وجهه . وقال ابن عباس والكلبي : عنى بالذي يمشي مكبا على وجهه أبا جهل ، وبالذي يمشي سويا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل أبو بكر ، وقيل حمزة ، وقيل عمار ابن ياسر ، قاله عكرمة . وقيل : هو عام في الكافر والمؤمن ، أي أن الكافر لا يدري أعلى حق هو أم على باطل . أي أهذا الكافر أهدى أو المسلم الذي يمشي سويا معتدلا يبصر الطريق وهو " على صراط مستقيم " وهو الإسلام . ويقال : أكب الرجل على وجهه ، فيما لا يتعدى بالألف . فإذا تعدى قيل : كبه الله لوجهه ، بغير ألف .
ولما كان هذا فعل من لا بصر له ولا بصيرة ، سبب عنه قوله ممثلاً للموحد والمشرك بسالكين ولدينيهما بمسلكين : { أفمن يمشي } أي على وجه{[67037]} الاستمرار { مكباً } أي داخلاً بنفسه في الكب وصائرا إليه ، وهو السقوط { على وجهه } وهو كناية عن السير على رسم مجهول وأثر معوج{[67038]} معلول ، على غير عادة العقلاء لخلل في أعضائه ، واضطراب في عقله ورأيه ، فهو كل حين يعثر فيخر{[67039]} على وجهه ، لأنه لعدم نظره يمشي في أصعب الأماكن{[67040]} لإمالة الهوى له عن المنهج المسلوك ، وغلبة الجهل عليه فهو بحيث لا يكون تكرار{[67041]} المشاق عليه زاجراً{[67042]} له{[67043]} عن السبب الموقع له فيه ، ولم يسم سبحانه وتعالى ممشاه طريقاً لأنه لا يستحق ذلك .
ولما كان ربما صادف السهل لا عن بصيرة بل اتفاقاً قال : { أهدى } أي أشد هداية { أمّن يمشي } دائماً مستمراً { سوياً } قائماً رافعاً رأسه ناصباً وجهه سالماً من العثار ، لأنه لانتصابه يبصر ما أمامه وما عن يمينه وما عن شماله { على صراط } أي طريق موطأ واسع{[67044]} مسلوك {[67045]}سهل قويم{[67046]} { مستقيم * } أي هو في غاية القوم . هذا مثل من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً ، فإنه يتبع الفطرة الأولى السليمة عن شهوة أو غضب أو شائبة حظ ، والأول مثل الكافر ، حاله في سيره إلى الله حال المكب ، أي الذي كب نفسه بغاية الشهوة{[67047]} على وجهه ، لا يرى ما حوله ولا يشعر بما أحاط به ، ولا ينظر في الآيات ولا يعتبر بالمسموعات{[67048]} ، فهو اليوم شيء باطن لظهر يوم القيامة ، فيحشر على وجهه إلى النار جزاء لرضاه بحالته هذه في هذه الدار ، فيظهر له سبحانه ما أبطن له{[67049]} اليوم ، والمؤمن بخلاف ذلك فيهما ، والآية من الاحتباك : ذكر الكب أولاً دليلاً على ضده ثانياً ، والمستقيم ثانياً دليلاً على المعوج أولاً ، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم وأسر ما للمسلم .
قوله : { أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم } . ذلك مثل ضربه الله للكافر والمؤمن . فالأول مكبّ على وجهه يمشي معتسفا في مكان مضطرب غير مستو ولا مستقيم ، فيه انخفاض وارتفاع . فما يمشي فيه ساعة حتى يعثر ويخرّ على وجهه ساقطا . وهذا نقيض الثاني الذي يمشي سويا ، أي قائما معتدلا سالما من التعثر والخرور ، أو السقوط على وجهه . فهو مستقيم في مشيه ، غير معتسف ولا مضطرب ولا متعثر . أو أنه يراد بالأول ، الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق ، فهو بذلك يعتسف في مشيه ويتخبط وينكب على وجهه ساقطا . وهو ليس كالثاني السوي البصير ، الذي يمشي في طريقه ضالا هائما متلجلجا .
وتلك هي حال الكافرين في كل زمان . فإنهم ضالون يساقون في حياتهم الدنيا إلى ما تسوّله الأهوال والشهوات . فما يطغى على أنفسهم وطبائعهم إلا الأثرة والطمع والغريزة . أولئك هم الضالون من الناس الذين تسوقهم الشياطين إلى الضلال والمفاسد والشرور وظلم الإنسان للإنسان ، أما المؤمنون الصادقون الذين يستضيئون بنور العقيدة الربانية السمحة ، ويستظلون بظل الإسلام الرخيّ الحاني ، لا جرم أنهم في حياتهم آمنون سالمون أسوياء ، غير مضطربين ولا متعثرين ولا مذعورين .