ثم استوى إلى السماء : قصد وعمد نحوها ، أي تعلقت إرادته بها .
وهي دخان : مادة عازية مظلمة ، تشبه الدخان في رأى العين .
ائتيا طوعا أو كرها : اخضعا لمرادي طائعتين أو مكرهتين .
قالتا آتينا طائعين : هذه كناية عن الطاعة والإذعان والامتثال .
11- { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا آتينا طائعين } .
أي : قصد سبحانه وعمد إلى خلق السماء ، وهي في حالة غازية تشبه الدخان ، فقال للسماء : أطلعي شمسك وقمرك وكواكبك ، وأجري رياحك وسحابك ، وقال للأرض : شُقّي أنهارك وأخرجي شجرك وثمارك .
وقد قال سبحانه وتعالى للسماء والأرض : انقادا لأمري طائعتين أو مكرهتين ، فأظهرتا من الطاعة والامتثال والاستجابة والطواعية ما دل على أنهما طائعتان لأمره ، بحيث لو نطقتا لقالتا : أتينا طائعتين .
والمقصود من هذا القول إظهار كمال القدرة ، أي ائتيا شئتما ذلك أو أبيتما ، كما يقول الجبار لمن تحت يده ، لتفعلنّ هذا شئت أو لم تشأ ، ولتفعلنه طوعا أو كرها ، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو مكرهين . . . ا ه .
وقد ذكر العلماء هنا إشكالا ، مؤداه أن مفهوم الآيات هنا في سورة فصّلت يُفيد أن الأرض خلقت أولا ، ثم خلقت السماء بعد خلق الأرض ، لكن في سورة النازعات يقول القرآن الكريم : { أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها* رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها } . ( النازعات : 27-30 ) .
أن الله تعالى خلق الأرض في يومين أولا ، ثم خلق بعدها السماء ، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ، أي بسطها ، وبهذا يزول التناقض .
وعند التأمل نجد أن الكون كله كان في حالة غازية ، عُبّر عنها بنظرية السديم ، أي أن الكون كان في حالة ملتهبة ، احتاج إلى بلايين السنين ليهدأ ويتم خلقه ، وأن الأيام الستة تعني ست مراحل مر بها خلق الكون حتى اكتمل وصار صالحا للحياة .
{ ثُمَّ } بعد أن خلق الأرض { اسْتَوَى } أي : قصد { إِلَى } خلق { السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } قد ثار على وجه الماء ، { فَقَالَ لَهَا } ولما كان هذا التخصيص يوهم الاختصاص ، عطف عليه بقوله : { وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } أي : انقادا لأمري ، طائعتين أو مكرهتين ، فلا بد من نفوذه . { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ليس لنا إرادة تخالف إرادتك .
قوله تعالى : " ثم استوى إلى السماء وهي دخان " أي عمد إلى خلقها وقصد لتسويتها . والاستواء من صفة الأفعال على أكثر الأقوال ، يدل عليه قوله تعالى : " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " [ البقرة : 29 ] وقد مضى القول هناك{[13418]} . وروى أبو صالح عن ابن عباس في قوله : " ثم استوى إلى السماء " يعني صعد أمره إلى السماء ، وقال الحسن . ومن قال : إنه صفة ذاتية زائدة قال : استوى في الأزل بصفاته . و " ثم " ترجع إلى نقل السماء من صفة الدخان إلى حالة الكثافة . وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، على ما مضى في " البقرة " عن ابن مسعود وغيره . " فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها " أي جيئا بما خلقت فيكما من المنافع والمصالح وأخرجاها لخلقي . قال ابن عباس : قال الله تعالى للسماء : أطلعي شمسك وقمرك وكواكبك ، وأجري رياحك وسحابك ، وقال للأرض : شقي أنهارك وأخرجي شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين " قالتا أتينا طائعين " في الكلام حذف أي أتينا أمرك " طائعين " . وقيل : معنى هذا الأمر التسخير ، أي كونا فكانتا كما قال تعالى : " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " [ النحل : 40 ] فعلى هذا قال ذلك قبل خلقهما . وعلى القول الأول قال ذلك بعد خلقهما . وهو قول الجمهور . وفي قوله تعالى لهما وجهان : أحدهما أنه قول تكلم به . الثاني أنها قدرة منه ظهرت لهما فقام مقام الكلام في بلوغ المراد ، ذكره الماوردي . " قالتا أتينا طائعين " فيه أيضا وجهان : أحدهما أنه ظهور الطاعة منهما حيث انقادا وأجابا فقام مقام قولهما ، ومنه قول الراجز :
امتلأ الحوضُ وقال قَطْنِي *** مَهْلاً رويداً قد ملأتُ بَطْنِي
يعني ظهر ذلك فيه . وقال أكثر أهل العلم : بل خلق الله فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد تعالى : قال أبو نصر السكسكي : فنطق من الأرض موضع الكعبة ، ونطق من السماء ما بحيالها ، فوضع الله تعالى فيه حرمه . وقال : " طائعين " ولم يقل طائعتين على اللفظ ولا طائعات على المعنى ؛ لأنهما سموات وأرضون ؛ لأنه أخبر عنهما وعمن فيهما ، وقيل : لما وصفهن بالقول والإجابة وذلك من صفات من يعقل أجراهما في الكناية مجرى من يعقل ، ومثله : " رأيتهم لي ساجدين " [ يوسف : 4 ] وقد تقدم{[13419]} . وفي حديث : إن موسى عليه الصلاة والسلام قال : يا رب لو أن السموات والأرض حين قلت لهما " ائتيا طوعا أو كرها " عصياك ما كنت صانعا بهما ؟ قال : كنت آمر دابة من دوابي فتبتلعهما . قال : يا رب وأين تلك الدابة ؟ قال : في مرج من مروجي . قال : يا رب وأين ذلك المرج ؟ قال : علم من علمي . ذكره الثعلبي . وقرأ ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة " آتيا " بالمد والفتح . وكذلك قوله : " آتينا طائعين " على معنى أعطيا الطاعة من أنفسكما " قالتا " أعطينا " طائعين " فحذف المفعولين جميعا . ويجوز وهو أحسن أن يكون " آتينا " فاعلنا فحذف مفعول واحد . ومن قرأ " آتينا " فالمعنى جئنا بما فينا ، على ما تقدم بيانه في غير ما موضع والحمد لله .
ولما كانت السماوات أعظم من الأرض في ذاتها بنور أبنيتها واتساعها وزينتها ودوران أفلاكها وارتفاعها ، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي ، ولفظ الاستواء وحرف الغاية الدال على عظيم العناية فقال : { ثم استوى } أي قصد قصداً هو القصد منتهياً قصده { إلى السماء وهي } أي والحال أنها { دخان } بعد ما فتقها من الأرض ، قالوا : كان ذلك الدخان بخار الماء فهو مستعار من المرتفع من النار ، وهو تشبيه صوري ، فالسماء متقدمة في الدخانية على الأرض ، تقدم الذكر على الأنثى ثم خلقت ذات الأرض وبعد تصوير السماء وتتميمها دحيت أنثى الأرض وسويت لذكر السماء ، قال ابن برجان : فالذي يعتقد أن السماء أولاً إيجاداً وتتميماً والأرض بعدها إيجاداً ورتبة ، وأيام الخلق يومان لإيجاد الأرض ويومان لتسوية السماء بعد أن كانت دخاناً ، ويومان لتتميم المنافع فتداخلت الأعداد لتداخل الأفعال ، { فقال لها } أي عقب هذا الاستواء { وللأرض } بعد خلقها وقبل دحوها : { ائتيا } أي تعاليا وأقبلا مواتيتين مقارنتين لما قدرته فيكما وأردته منكما من إخراج المنافع من المياه والنبات والمعادن وغيرها ، ووضع المصدر موضع الحال مبالغة فقال : { طوعاً أو كرهاً } أي طائعتين أو كارهتين في إخراج ما أودعتكما من الأمانة في أوقاتها وعلى ما ينبغي من مقاديرها وهيآتها طوع تسخير لا تكليف { قالتا أتينا } أي نحن وما فينا ما بيننا .
ولما جعلهما موضع المخاطبة للتي هي للعقلاء والتكلم ، قال جامعاً لهما باعتبار أفرادهما وما فيهما جمع من يعقل : { طائعين * } أي في كل ما رسمته فينا لا نحمل من ذلك شيئاً بل نبذله على ما أمرت به لا نغير ولا نبدل ، وذلك هو بذلهما للأمانة ، وعدم حملها ، وجمع الأمر لهما في الإخبار لا يدل على جمعه في الزمان ، بل قد يكون القول لهما متعاقباً
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.