السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قُلۡ إِنَّ رَبِّي يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُ لَهُۥۚ وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (39)

{ قل } أي : يا أشرف الخلق لجميع الخلق ومنهم هؤلاء { إن ربي } أي : المحسن إلي بهذا البيان وغيره { يبسط الرزق } أي : يوسعه { لمن يشاء } متى شاء { من عباده } امتحاناً { ويقدر } أي : يضيقه { له } بعد البسط ابتلاء قال البيضاوي : فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين ، وما سبق في شخصين فلا تكرار .

ولما بين بهذا البسط أن فعله بالاختيار بعد أن بين بالأول كذبهم في أنه سبب السلامة من النار دل على أنه الفاعل لا غيره بقوله تعالى : { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } أي : فهو يعوضه لا معوض سواه إما عاجلاً بالمال ، أو بالقناعة التي هي كنز لا ينفد ، وإما آجلاً بالثواب الذي كل خلف دونه ، وعن سعيد بن جبير ما كان في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه ، وعن الكلبي ما تصدقتم من صدقة أو أنفقتم في خير من نفقة فهو يخلفه على المنفق ، إما أن يعجل له في الدنيا ، وإما أن يدخر له في الآخرة ، وعن مجاهد من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد ، فإن الرزق مقسوم ، ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه فينفق جميع ما في يده ثم يبقى طول عمره في فقر ولا يتأول { وما أنفقتم من شيء فهو يُخلفه } ( سبأ : 39 )

فإن هذا في الآخرة ومعنى الآية : وما كان من خلف فهو منه فدل ذلك على أنه مختص بالإخلاف لأنه ضمن الإخلاف لكل ما ينفق على أي وجه كان ، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «قال الله تبارك وتعالى أنفق ينفق عليك » ولمسلم : «يا ابن آدم أنفق أنفق عليك » وعن أبي هريرة أيضاً : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً » وعنه أيضاً : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما نقصت أحد صدقة من مال وما زاد الله رجلاً بعفو إلا عزاً ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل » وعن عبد الحميد بن الحسن الهلالي قال : أنبأنا محمد بن المكندر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل معروف صدقة » «وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة » «وما وقى الرجل به عرضه كتب له بها صدقة » قلت : ما معنى وقى به عرضه قال : ما أعطى الشاعر وذا اللسان المتقي ، وما أنفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية الله عز وجل قوله : قلت ما معنى مقول عبد الحميد لمحمد بن المكندر { وهو خير الرازقين } فإن قيل : قوله تعالى خير الرازقين ينبئ عن كثرة الرازقين ولا رازق إلا الله تعالى أجيب : بأن الله تعالى هو خير الرازقين الذين يغذونهم هذا الغذاء ممن يقيمهم الله تعالى فيضيفون الرزق إليهم ، لأن كل من يرزق غيره من سلطان يرزق جنده ، أو سيد يرزق عبده ، أو رجل يرزق عياله فهو واسطة لا يقدر إلا على ما قدره الله ، وأما هو سبحانه فهو يوجد المعدوم ويرزق من يطيعه ومن يعصيه ولا يضيق رزقه بأحد ولا يشغله فيه أحد عن أحد وعن بعضهم الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فيجد فكم من مشته لا يجد وواجد لا يشتهي ، وقرأ أبو عمر وقالون والكسائي فهو يخلفه بسكون الهاء والباقون بالضم .