اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ إِنَّ رَبِّي يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُ لَهُۥۚ وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (39)

ثم قال مرة أخرى : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ من عباده وَيَقْدِر له } إشارة إلى أن نعيم الآخرة لا ينافي نعمة الدنيا بل الصالحون قد يحصل لهم في الدنيا النعم مع القطع بحصول النعم في العُقْبَى بناء على الوعد قطعاً لقول من يقول : إذا كانت العاجلة والآجلة لهم فالنقد أولى فقال هذا النقد غير مختص بكم فإن كثيراً من الأشقياء مدفوعون وكثيراً من الأتقياء مَمْنُوعُونَ ، ولهذا المعنى ذكر هذا الكلام مرتين مرة لبيان أن كثرة أموالهم وأولادهم غير دالةٍ على حسن أحوالهم ومرة لبيان أنه غير مختص بهم كأنه قال وجود القرب لا يدل على الشرف ثم إنْ سَلَّمنا أنه كذلك لكن المؤمنون سيحصل لهم ذلك فإن الله يملكهم دياركم وأموالكم ويدل على ذلك أن الله تعالى لم يذكر أولاً لمن يشاء من عباده بل قال : لمن يشاء . وقال ثانياً : لمن يشاء من عباده فالكافر أثره مقطوع وماله إلى زوال وماله إلى الهواء وأما المؤمن فما يُنْفِقْه يُخْلِفْه الله{[44741]} .

قوله : { وَمَآ أَنفَقْتُم } يجوز أن تكون ما موصولة{[44742]} في محل رفع بالابتداء والخبر قوله : { فَهُوَ يُخْلِفُهُ } ودخلت الفاء لشبهه بالشرط ، و «مِنْ شَيْءٍ » بيان كذا قيل . وفيه نظر ؛ لإبهام شيء فأي ( تَبيين ){[44743]} فيه ؟ ويجوز أن تكون «ما » شرطية فيكون في محل نصب مفعولاً مقدماً و «فَهُوَ يُخْلِفُهُ » جواب الشرط{[44744]} .

فصل

المعنى : وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعطي خلفه قال سعيد بن جبير : ما كان في غير إسْرِافٍ ولا تَقْتِير فهْو يُخْلِفُه{[44745]} ، وقال الكلبي : ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير من نَفَقَةٍ فهو ( ينفقه ) ويخلفه على المُنْفِق إما أن يعجَّل له في الدنيا وإما أن يدَّخِرَ له في الآخرة{[44746]} . «وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ » خَيْرُ من يعطي ويرزق ، رَوَى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قال : «أنْفِقْ أُنْفِقْ عليك »{[44747]} وقال - عليه ( الصلاة{[44748]} و ) السلام - : «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبحُ فِيهِ العِبَادُ إلاَّ وَيَنْزِلُ ( فِيهِ ){[44749]} مَلَكَا ( ن ){[44750]} فيقولُ أحدهما : اللَّهُمّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً ويقول الآخَرُ : اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً » . وإنما جمع الرازقين من{[44751]} حيث الصورة لأن الإنسان يرزق عياله من رزق الله والرازق للكل في الحقيقة إنما هو الله ، واعلم أنَّ خير الرازقين يكون لأمور أن لا يؤخر في وقت الحاجة وأن لا يَنْقُصَ من قدر الحاجة وأن لا ينكده بالحساب وأن لا يُكَدِّره بطلب الثواب والله تعالى كذلك .

فإن قيل : قوله : { خَيْرُ الرازقين } ينبئ عن كثرة الرّازقين ولا رازق إلاَّ الله .

فالجواب : أن يقال : الله خير الرازقين الذين تظنونهم رازقين وكذلك في قوله تعالى : { أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] وأيضاً فإن الصفات منها ما هو لله وللعبد حقيقة كالعلم بأن الله واحد فإن الله يعلم أنه واحد ، والعبد يعلم أنه واحدٌ حقيقة ومنها ما يقال للَّهِ حقيقةً وللعبد مجازاً مثل الرزَّاق{[44752]} والخَالِق فإن العبد إذا أعطى غيره شيئاً فالله هو المعطي في الحقيقة ولكن لما وجدت صورة العطاء من العبد سُمّي معطياً وهذا منه{[44753]} .


[44741]:انظر هذا في الرازي 25/262.
[44742]:كما يجوز أن تكون شرطية في موضع نصب وانظر: التبيان 1070 والدر المصون للسمين 4/401.
[44743]:تصحيح من "ب" وفي "أ" ييسر لحن وخطأ.
[44744]:المرجعان السابقان التبيان والدر.
[44745]:نقله ابن الجوزي في زاد المسير 6/461.
[44746]:المرجع السابق.
[44747]:أورده الشوكاني في فتح القدير 4/332 والقرطبي في تفسيره الجامع 14/307، والبغوي في معالم التنزيل 5/293.
[44748]:زيادة من "ب".
[44749]:سقطا من "ب" وانظر المراجع السابقة وجامع الأحاديث للسيوطي 5/606.
[44750]:سقطا من "ب" وانظر المراجع السابقة وجامع الأحاديث للسيوطي 5/606.
[44751]:انظر في هذا تفسير الإمام الفخر الرازي 25/364.
[44752]:المرجع السابق.
[44753]:المرجع السابق.