السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{بَرَآءَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التوبة

مدنية ، إلا الآيتين من قوله تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } وهي آخر ما نزلت وآيها مائة وثلاثون وقيل : تسع وعشرون ، وعدد كلماتها ألفان وأربعمائة وسبع وتسعون كلمة وحروفها عشرة آلاف وثمانمائة وسبعة وثمانون حرفاً ، ولها عدّة أسماء : التوبة ، براءة ، المقشقشة ، البحوثة ، المبعثرة ، المنقرة ، المثيرة ، الحافرة ، المخزية ، الفاضحة ، المنكلة ، المشردة ، المدمدمة ، سورة العذاب وإنما سميت بذلك لما فيها من التوبة للمؤمنين والقشقشة من النفاق وهي التبرؤ منه والبحث عن حال المنافقين وإثارتها والحفر عنها وما يخزيهم ويفضحهم وينكلهم ويشردهم ويدمدم عليهم ولم تكتب فيها البسملة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك كما يؤخذ من حديث رواه الحاكم وأخرج في معناه عن علي أن البسملة أمان وهي نزلت لرفع الأمن بالسيف ، وعن حذيفة إنكم تسمونها سورة التوبة وهي سورة العذاب .

وروى البخاريّ عن البراء أنها آخر سورة نزلت ، وقيل : كان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه سورة أو آية بين موضعها فتوفي ولم يبيّن موضعها وكانت قصتها تشابه قصة الأنفال وتسامتها ؛ لأنّ في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذها فضمت إليها ، قال القاضي : يبعد أن يقال إنه عليه الصلاة والسلام لم يبيّن كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال لأنّ القرآن مرتب من قبل الله تعالى ومن قبل رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي نقل ولو جوّزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله تعالى على سبيل الوحي لجوزنا مثله في سائر السور ، وفي آيات السورة الواحدة وذلك يخرجه عن كونه حجة بل الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحياً ، وأنه عليه الصلاة والسلام حذف بسم الله الرحمن الرحيم من هذه السورة وحياً ، والقول بأنّ قصتها تشابه قصتها وتناسبها فضمت إليها إنما يتم إذا قلنا : إنهم إنما وضعوا هذه السورة من قبل أنفسهم لهذه العلة . وقيل : إن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة براءة سورة واحدة أم سورتان ، فقال بعضهم : هما سورة واحدة ؛ لأنّ كلتيهما نزل في القتال ، ومجموعهما هو السورة السابعة من الطوال وهي سبع ، وما بعدها المؤن ؛ لأنهما معاً مائتان وست آيات ، فهما بمنزلة سورة واحدة . ومنهم من قال : سورتان ، فلما ظهر الاختلاف من الصحابة في هذا تركوا بينهما فرجة تنبيهاً على قول من يقول : هما سورة واحدة . وقال بعض أصحاب الإمام الشافعي رضي الله عنه : لعل الله لما علم من بعض الناس أنهم ينازعون في كون بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن أمر أن لا تكتب ههنا ليدل ذلك على كونها آية من كل سورة ، فإنها لما لم تكن آية من هذه السورة وجب كونها آية من كل سورة ، وقيل غير ذلك . والصحيح من هذه الأقوال ما ذهب إليه القاضي من أنّ القرآن مرتب من قبل الله ومن قبل رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي نقل ، وأنه صلى الله عليه وسلم حذف بسم الله الرحمن الرحيم من هذه السورة وحياً ، وإنما ذكرت هذه الأقوال تشحيذاً للأذهان :

بسم الله الرحمان الرحيم

وقوله تعالى :

{ براءة } خبر مبتدأ محذوف أي : هذه براءة . وقوله تعالى : { من الله ورسوله } من : ابتدائية متصلة بمحذوف تقديره : واصلة من الله ورسوله ، ويجوز أن يكون : براءة مبتدأ لتخصيصها بصفتها ، والخبر { إلى الذين عاهدتم } أي : أوقعتم العهد بينكم وبينهم { من المشركين } أي : وإن كانت معاهدتكم لهم إنما كانت بإذن من الله ورسوله ، فكما فعلتم المعاهدة بإذنهما فافعلوا النقض تبعاً لهما ، ودل سياق الكلام وما حواه من بديع النظام أن العهد إنما هو لأجل المؤمنين ، وإنما الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فغنيان عن ذلك ، أمّا الله فبالغنى المطلق ، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فبالذي اختاره للرسالة ؛ لأنه ما فعل ذلك إلا وهو قادر على نصره بسبب وبغير سبب .

روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف ، وجعل المشركون ينقضون عهوداً كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر الله تعالى بنقض عهودهم وذلك قوله تعالى : { وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } ( الأنفال ، 58 )

الآية .