{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } يا معشر الرجال { فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ } النساء المعتدّات ، وأصل التعريض التلويح بالشيء . قال الشاعر :
كما خطّ عبرانيّة بيمينه *** بتيماء حبر ثم عرّض أسطرا
والتعريض في الكلام ما كان من لحن الكلام الذي يفهم به السامع من غير تصريح ، وأصله من عرض الشيء وهو جانبه يقال : أضرب به عرض الحائط كأنه يحوم حوله ولا يظهره ، وتعريض الخطبة المذكورة في هذه الآية على ما جاء في التفسير هو أن يقول لها وهي في العدة : إنّك لجميلة ، وإنك لصالحة ، وإنّك لنافعة ، وإنّ من عزمي أن أتزوج ، وإني فيك لراغب ، وإني عليك لحريص ، ولعلّ الله أن يسوق إليك خيراً ، وإنْ جمع الله بيننا بالحلال أعجبني ، ولئن تزوجتك لأعطيتك ولأحسن إليك ونحوها من الكلام من غير أن يقول لها : انكحي .
قال إبراهيم : لا بأس أن يهدي لها ويقوم بشغلها في العدة إذا كانت من شأنه .
وروى ابن عوف عن محمد عن عبيدة في هذه الآية قال : يقول لوليّها لا سبقني إليها . قال مجاهد قال رجل لامرأة في جنازة زوجها : لا تسبقيني بنفسك ، فقالت : قد سُبقت ، وروى ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته ، أن سكينة بنت حنظلة قالت : دخل عليّ أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدّتي فقال : يابنت حنظلة ، أنا من قد علمت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدّي عليّ وقدمه في الإسلام ، فقالت : غفر الله لك يا أبا جعفر ، أتخطبني في عدّتي وأنت يؤخذ عنك ؟ فقال : أو لقد فعلت إنما أُجرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي ، قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة وتوفي عنها زوجها ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثّر الحصير في يده من شدة تحامله على يده فما كانت تلك خطبة .
وقال ابن يزيد في هذه الآية : كان أبي يقول : كلّ شيء كان دون أن يعزما عقدة النكاح فهو زنا ، قال الله عزّ وجلّ { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ } والخطبة التماس النكاح ، وهو مصدر قولك : خطب الرجل المرأة يخطبها خطبة وخطباً .
وقال قوم : هي مثال الجلسة والقعدة والركبة ، ومعنى قولهم خطب فلان فلانة : سألها خطبة إلى ما في نفسها أي حاجاته وأمره من قولهم ما خطبك أي حاجتك وأمرك ، قال الله { فَمَا خَطْبُكَ يسَامِرِيُّ } [ طه : 95 ] وقال الأخفش : الخطبة : الذكر ، والخطبة المشهد ، فيكون معناه : فيما عرّضتم به من تخطبون النساء عندهنّ { أَوْ أَكْنَنتُمْ } أسررتم وأضمرتم { فِي أَنْفُسِكُمْ } في خطبتهنّ وزواجهنّ ، يقال : كننت الشيء وأكننته لغتان ، وقال ثعلب : أكننت الشيء خفيته في نفسي وكننته سترته ، وقال السدي : هو أن يدخل فيساويهنّ إن شاء ولا يتكلم بشيء . { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } بقلوبكم ، وقال الحسن : يعني الخطبة { وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ } بيوم ، قال بعضهم : هو الزنا وكان الرجل يدخل على المرأة من أجل الريبة وهو يعرّض بالنكاح فيقول لها : دعيني فإذا وفيت عدّتك أظهرت نكاحك ، فنهى الله تعالى عن ذلك ، هذا قول الحسن وقتادة وإبراهيم وجابر بن زيد وابن أبي مجلز والضحّاك والربيع وعطاء ، وهي رواية عطية عن ابن عباس ، يدلّ عليه قول الأعشى :
ولا تقربنّ جارةً إنّ سرّها *** عليك حرام ( وانكحن أو تأبّدا )
ويحرم سرّ جارتهم عليهم *** ويأكل جارهم أنف القصاع
وقال مجاهد : هو قول الرجل للمرأة : لا تفوتيني نفسك ، فإنّي أنكحك . الشعبي والسدي : لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره .
كرمة : لا يخطبها في العدة . سعيد بن جبير : لا يقايضها على كذا وكذا من المال على أن لا تتزوج غيره ، وهذه التأويلات كلها متقاربة ، والسرّ على هذه الأقوال النكاح ، قال امرؤ القيس :
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني *** كبرت وأن لا يحسن السرّ أمثالي
فلم يطلبوا سرّها للغنى *** ولم يسلموها لإزهادها
أي نكاحها ، وقال الكلبي : لا تواعدوهنّ سرّاً أي لا تصفوا أنفسكم لهنّ بكثرة الجماع فيقول لها آتيك الأربعة والخمسة وأشباه ذلك ، وعلى هذا القول السرّ هو الجماع نفسه ، وقال الفرزدق :
موانع للأسرار إلاّ لأهلها *** ويخلفن ما ظنّ الغيورالمشفشف
يعني أنهنّ عفائف اليد عن الجماع إلاّ من أزواجهنّ . قال رؤبة :
فعفّ عن أسرارها بعد الغسق *** ولم يضعها بين فرك وعشق
يعني عفّ عن غشيانها بعد ما لزمته لذلك .
وقال زيد بن أسلم : لا تواعدوهنّ سرّاً أي لا تنكحوهنّ سرّاً ، ثم يمسكها حتى إذا حلّت أظهرت ذلك ، وأصل السرّ ما أخفيته في نفسك ، وإنما قيل للنكاح والزنا والجماع السرّ لأنها تكون بين الرجل والمرأة في خفاء ، ويقال أيضاً للفرج سرّ لأنّه لا يظهر ، وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي :
لمّا رأت سرّي تغيّر وانحنى *** من دون ( نهمة ) سرّها حين انثنى
ثم استثنى فقال { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قيل عدة جميلة ، وقال مجاهد : هو التعرض من غير أن يصرّح ويبوح ، و( أنْ ) في محل نصب بدلا من السرّ ، وقال عبد الرحمن بن زيد : هذا كلّه منسوخ بقوله { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ } أي لا تصححوا عقدة النكاح ، وقال ابن الزجاج : ولا تعزموا على عقدة النكاح ، كما يقال : يضرب يد الطهر واليُمن وقال عنترة :
ولقد أبيت على الطوى وأظلّه *** حتى أنال به كريم المطعم
أي وأظل عليه . { حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } حتى تنقضي العدّة وإنما سماها كتاباً لأنها فرض من الله تعالى كقوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ } . { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } فخافوا الله { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعجل بالعقوبة ، تقول العرب : ضع الهودج على أحلم الجمال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.