الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى } الآية ، اختلف المفسرون في تنزيلها وتأويلها :

فقال بعضهم : معناها وإن خفتم ألاّ تعدلوا يا معشر أولياء اليتامى فيهن ، إذا تزوجتم بهن فانكحوا غيرهن من الغرائب اللواتي أحلهن الله لكم .

وروى الزهري عن عروة عن عائشة قال : قلت لها ما قول الله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى } فقالت : يابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها فنهي أن تنكحوهن إلاّ أن تقسطوا لهن في إكمال الصداق ، وأُمروا أن ينكحوا ما سواهنّ من النساء .

قال الحسن : كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له تزويجها فيقول لها : لا أدخل في رباعي أحداً كراهة أن يدخل غريب فيشاركه في مالهنّ ، فربما يتزوجهن لأجل مالهن ومن لا يعجبنه ثم نسى صحبتهن ويتربص بهن أن يمتن فيرثهن ، فعاب الله عزّ وجلّ ذلك وأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية .

عكرمة : كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل ، فإذا صار معدما لما يلزمه من مؤن نسائه ، مَالَ على مال يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم : امسكوا عن النساء ولا تزيدوا على أربع حتى لا يخرجكم إلى أخذ أموال اليتامى ، وهذه رواية طاوس عن ابن عباس ، ومعنى رواية عطية عنه .

وقال بعضهم : كانوا يتحرجون ويتحوبون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء ولا يتعددون فيهن ويتزوجون ما شاؤا ، فربما عدلوا وربما لم يعدلوا ، فلما سألوا عن حال مال اليتامى أنزل الله { وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ } الآية ، وأنزل أيضاً هذه الآية { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى } يقول : كما خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى وهمّكم ذلك ، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن ولا تتزوجوا أكثر ممّا يمكنكم امساكهنّ والقيام بحقهن ، لأن النساء كاليتيم في الضعف والعجز ، فما لكم تراقبون الله عزّ وجلّ في شيء وتعصونه في مثله ، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي ، ورواية الوالبي عن ابن عباس .

وقال الحسن أيضاً : تحرجوا من نكاح اليتامى كما تحرجوا من أموالهم ، فأنزل الله هذه الآية ، ورخص فيهن وقصر بهن على عدد ، فعليكم العدل فيهن ، فإن خفتم يا معشر الأولياء في اليتامى التي أنتم ولاتهن ألاّ تقسطوا ، فأنكحوهن ولا تزيدوا على أربع ، لتعدلوا ، فإن خفتم ألاّ تعدلوا فيهن فواحدة .

قال ابن عباس : قصر الرجال على أربع من النساء من أجل اليتامى .

مجاهد : معناه إن تحرجتم من ولاية اليتامى فأموالهم إيماناً وتصديقاً ، فكذلك تحرجوا عن الزنا ، فانكحوا النساء الحلال نكاحاً طيباً ، ثم بيّن لهم عدداً محصوراً وكانوا يتزوجون ما شاؤا من غير عدد ، فأنزل الله { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ } أي أن لا تعدلوا .

وقرأها إبراهيم النخعي : ( تَقسطوا ) بفتح التاء وهو من العدل أيضاً .

قال الزجاج : قسط واقسط واحد ، إلاّ أن الأفصح اقسط إذا عدل ، وقسط إذا جار ، وإن حملت قراءة إبراهيم على الجور وجعلت لا لغواً صحّ الكلام ، واليتامى جمع لذكران الأيتام .

{ فَانكِحُواْ مَا } .

قرأ إبراهيم بن أبي عبلة : ( مَن ) لأن ما لما لا يعقل ومَن لما يعقل ، ومن قرأ ( ما ) فله وجهان :

أحدهما : أن ردّه إلى الفعل دون العين تقديره : فانكحوا النكاح الذي يحل لكم من النساء ، وهذا كما تقول : خذ من رفيقي ما أردت والإخوان ، تجعل ( ما ) بمعنى ( من ) ، والعرب يعقب ما من ومن ما .

قال الله تعالى

{ وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] وأخواتها ، وقال :

{ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } [ النور : 45 ] الآية .

وحكى أبو عمرو بن العلاء : أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا : ( سبحان ما يسبّح له الرعد ) ، وقال الله :

{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 23 ] .

{ طَابَ } حل { لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ } .

وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش ( طاب ) : بالإمالة وفي مصحف أُبيّ : ( طيب ) بالياء ، وهذا دليل الإمالة .

{ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } معدولات عن اثنين وثلاث وأربع ، فلذلك لا يصرفن ، وفيها لغات موحد ومثنى ومثلث ومربع ، وأحاد وثناء وثلاث ورباع ، وأحد وثنى وثلث وربع ، مثل عمر وزفر .

وكذلك قرأ النخعي في هذه الآية ، ولا يزاد من هذا البناء على الأربع إلاّ بيتاً جاء عن الكميت :

فلم يستريثوك حتى رميت *** فوق الرجال خصالا عشاراً

يعني طعنت عشرة .

قالوا : وهاهنا بمعنى ( لو للتحقيق ) كقوله

{ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } [ سبأ : 46 ] وقوله

{ أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] وهذا إجماع الأمة ، وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم غير مشتركة .

الكلبي عن خميصة بنت الشمردل : أن قيس بن الحرث حدثها أنه كان تحته ثمان نسوة حرائر ، قال : فلما نزلت هذه الآية قلت : " يا رسول الله قد أنزل الله عليك تحريم تزوج الحرائر إلاّ أربع حرائر وأن تحتي ثمان نسوة ، قال : " فطلّق أربعاً وأمسك أربعاً " . قال : فرجعت إلى منزلي فجعلت أقول للمرأة التي ما تلد مني يا فلانة أدبري وللمرأة التي قد ولدت يا فلانة أقبلي ، فيقول للتي طلق أنشدك الله والمحبة قال : فطلقت أربعاً وأمسكت أربعاً " .

{ فَإِنْ خِفْتُمْ } خشيتم ، وقيل : علمتم { أَلا تَعْدِلُوا } بين الأربع { فَوَاحِدَةً } .

قرأ العامة : بالنصب .

وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر : ( فواحدةٌ ) بالرفع ، أي فليكفيكم واحدة ، أي واحدة كافية ، كقوله عزّ وجلّ :

{ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } [ البقرة : 282 ] .

{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني الجواري والسراري ، لأنه لا يلزمكم فيهن من الحقوق والذي يلزمكم في الحرمة ، ولا قسمة عليكم فيهن ولا وقت عليكم في عددهن ، وذكر الإيمان بيان تقديره { أَوْ مَا مَلَكَتْ } .

وقال بعض أهل المعاني : ( أو ما ملكت أيمانكم ) أي ما ينفذ فيه أقسامكم جعله من يمين الحلف لا يمين الجارحة ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " .

{ ذلِكَ أَدْنَى } أقرب { أَلاَّ تَعُولُواْ } .

عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عزّ وجلّ : { ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } قال : " ألاّ تجوروا " .

وروى هشام بن عروة عن عائشة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عزّ وجلّ : { ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } أن لا تميلوا ، وأكثر المفسرين على هذا .

قال مقاتل : هو لغة جرهم ، يقال : ميزان عائل ، أي مائل . وكتب عثمان بن عفان( رضي الله عنه ) إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : أني لست بميزان لا أعول .

وأنشد عكرمة لأبي طالب :

بميزان صدق لا يغل شعيرة *** له شاهد من نفسه غير عائل

وقال مجاهد : ذلك أدنى ألاّ تضلوا . وقال الفراء والأصم : أن لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم ، وأصل العول المجاوزة ، ومنه عول الفرائض . وقال الشافعي : أن لا تكثر عيالكم وما قال هذا أحد غيره وإنما يقال : أعال يعيل إذا كثر عياله .

قال أبو حاتم : كان ( الشافعي ) أعلم بلغة العرب منّا ولعله لغة .

قال الثعلبي : قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب : سألت أبا عمرو الدوري عن هذا وكان إماماً في اللغة غير مدافع فقال : هي لغة حمير .

وأنشد :

وإنّ الموت يأخذ كل حيّ *** بلاشك وإن أمشى وعالا

أي كثرت ماشيته وعياله .

قال أبو عمرو بن العلاء : لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن آخذ عن لاحن لحناً .

وقرأ طلحة بن مصرف : ألاّ تعيلوا ، وهو قوة قول الشافعي . وقرأ بعضهم : ألاّ تعيلوا من العيلة أي لا تفتقروا .

قال الشاعر :

ولا يدري الفقير متى غناه *** ولا يدري الغني متى يعيل

وقرأ طاووس : لا تعيلوا من العلة .

روى بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " .