جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (28)

القول في تأويل قوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :

فقال بعضهم بما حدثني به موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن بن عباس وعن مرة عن بن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم يقول لم تكونوا شيئا فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة .

وحدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال هي كالتي في البقرة كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم .

وحدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس قال حدثنا عبثر قال حدثنا حصين عن أبي مالك في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال خلقتنا ولم نكن شيئا ثم أمتنا ثم أحييتنا .

وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا هشيم عن حصين عن أبي مالك في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال كانوا أمواتا فأحياهم الله ثم أماتهم ثم أحياهم .

وحدثنا القاسم قال حدثنا الحسين بن داود قال حدثني حجاج عن بن جريج عن مجاهد في قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم قال لم تكونوا شيئا حين خلقكم ثم يميتكم الموتة الحق ثم يحييكم ، وقوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين مثلها .

وحدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن بن جريج قال حدثني عطاء الخرساني عن بن عباس قال هو قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين .

وحدثت عن عمار بن الحسن قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع قال حدثني أبو العالية في قول الله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا يقول حين لم يكونوا شيئا ثم أحياهم حين خلقهم ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة ثم رجعوا إليه بعد الحياة .

وحدثت عن المنجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن بن عباس في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ثم أحياكم فخلقكم فهذه إحياءة ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه إحياءة فهما ميتتان وحياتان فهو قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون .

وقال آخرون بما حدثنا به أبو كريب قال حدثنا وكيع عن سفيان عن السدي عن أبي صالح كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون قال يحييكم في القبر ثم يميتكم .

وقال آخرون بما حدثنا به بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية .

قال كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله وخلقهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهما حياتان وموتتان .

وقال بعضهم بما حدثني به يونس قال أنبأنا بن وهب قال قال ابن زيد في قول الله تعالى ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق وقرأ : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حتى بلغ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون قال فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق . قال وانتزع ضلعا من أضلاع آدم القصيري فخلق منه حواء ذكره عن النبي ، قال وذلك قول الله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، قال وبث منهما بعد ذلك في الأرحام خلقا كثيرا ، وقرأ : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ، قال خلقا بعد ذلك ، قال : فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة فذلك قول الله ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا ، وقرأ قول الله : وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ؛ قال يومئذ ، قال : وقرأ قول الله : واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا .

قال أبو جعفر ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن رويناها عنه وجه ومذهب من التأويل :

فأما وجه تأويل من تأول قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم أي لم تكونوا شيئا فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر هذا شيء ميت وهذا أمر ميت يراد بوصفه بالموت خمول ذكره ودروس أثره من الناس ، وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه هذا أمر حي وذكر حي يراد بوصفه بذلك أنه نابه متعالم في الناس كما قال أبو نخيلة السعدي :

فأحييت لي ذكري وما كنت خاملا *** ولكن بعض الذكر أنبه من بعض

يريد بقوله فأحييت لي ذكري أي رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورا حيا بعد أن كان خاملا ميتا ، فكذلك تأويل قول من قال في قوله : ( وكنتم أمواتا ) لم تكونوا شيئا أي كنتم خمولا لا ذكر لكم وذلك كان موتكم ، فأحياكم فجعلكم بشرا أحياء تذكرون وتعرفون ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم كالذي كنتم قبل أن يحييكم من دروس ذكركم وتعفي آثاركم وخمول أموركم ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها ونفخ الروح فيها وتصييركم بشرا كالذي كنتم قبل الإماتة لتعارفوا في بعثكم وعند حشركم .

وأما وجه تأويل من تأول ذلك أنه الإماتة التي هي خروج الروح من الجسد فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله وكنتم أمواتا إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم ، وذلك معنى بعيد لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم لا استعتاب واسترجاع ، وقوله جل ذكره كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا توبيخ مستعتب عباده وتأنيب مسترجع خلقه من المعاصي إلى الطاعة ومن الضلالة إلى الإنابة ولا إنابة في القبور بعد الممات ولا توبة فيها بعد الوفاة .

وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ؛ فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفا لا أرواح فيها فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها ، وإحياؤه إياها تعالى ذكره نفخه الأرواح فيها وإماتته إياهم بعد ذلك قبضه أرواحهم وإحياؤه إياهم بعد ذلك نفخ الأرواح في أجسامهم يوم ينفخ في الصور ويبعث الخلق للموعود .

وأما ابن زيد فقد أبان عن نفسه ما قصد بتأويله ذلك وأن الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عباده في أصلاب آبائهم بعد ما أخذهم من صلب آدم وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم وأن الإماتة الثانية هي قبض أرواحهم للعود إلى التراب والمصير في البرزخ إلى اليوم البعث وأن الإحياء الثالث هو نفخ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة .

وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافا لظاهر قول الله الذي زعم مفسره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره ، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه عن الذين أخبر عنهم من خلقه أنهم قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين وزعم ابن زيد في تفسيره أن الله أحياهم ثلاث إحياءات وأماتهم ثلاث إماتات ، والأمر عندنا وإن كان فيما وصف من استخراج الله جل ذكره من صلب آدم ذريته وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف ، فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين ، أعني قوله : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية ، وقوله : ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ، في شيء ، لأن أحدا لم يدع أن الله أمات من ذرأ يومئذ غير الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث فيكون جائزا أن يوجه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد .

وقال بعضهم : الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة فهي ميتة من لدن فراقها جسده إلى نفخ الروح فيها ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرا سويا بعد تارات تأتي عليها ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصور فيرد في جسده روحه فيعود حيا سويا لبعث القيامة فذلك موتتان وحياتان .

وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول لأنهم قالوا موت ذي الروح مفارقة الروح إياه فزعموا أن كل شيء من بن آدم حي ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح ، فكل ما فارق جسده الحي ذا الروح فارقته الحياة فصار ميتا ، كالعضو من أعضائه مثل اليد من يديه والرجل من رجليه لو قطعت وأبينت والمقطوع ذلك منه حي كان الذي بان من جسده ميتا لا روح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح ، قالوا فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح فإذا فارقته مباينة له صارت ميتة نظير ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه وهذا قول ووجه من التأويل لو كان به قائل من أهل القدوة الذين يرتضي للقرآن تأويلهم .

وأولى ما ذكرنا من الأقوال التي بينا بتأويل قول الله جل ذكره : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم الآية ، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس من أن معنى قوله وكنتم أمواتا أموات الذكر خمولا في أصلاب آبائكم نطفا لا تعرفون ولا تذكرون فأحياكم بانشائكم بشرا سويا حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رفاتا لا تعرفون ولا تذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصيحة القيامة ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك كما قال : ثم إليه ترجعون لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبل حشرهم ثم يحشرهم لموقف الحساب كما قال جل ذكره : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ، وقال : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون .

والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل ما قد قدمنا ذكره للقائلين به وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل .

وهذه الآية توبيخ من الله جل ثناؤه للقائلين آمنا بالله وباليوم الآخر الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم غير مؤمنين به وأنهم إنما يقولون ذلك خداعا لله وللمؤمنين ، فعذلهم الله بقوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ، ووبخهم واحتج عليهم في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة ، فقال : كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم وإعادتكم بعد إفنائكم وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم .

ثم عدد ربنا عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود الذين جمع بين قصصهم وقصص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبر عنهم فيها بقوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) نعمه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم التي عظمت منهم مواقعها ثم سلب كثيرا منهم كثيرا منها بما ركبوا من الآثام واجترموا من الإجرام وخالفوا من الطاعة إلى المعصية ، يحذرهم بذلك تعجيل العقوبة لهم كالتي عجلها للأسلاف والأفراط قبلهم ، ويخوفهم حلول مثلاته بساحتهم كالذي أحل بأوليهم ، ويعرفهم مالهم من النجاة في سرعة الأوبة إليه وتعجيل التوبة من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب ؛ فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدد من نعمه التي هم فيها مقيمون ، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه وما سلف منه من كرامته إليه وآلائه لديه وما أحل به وبعدوه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به ، وما كان من تغمده آدم برحمته إذ تاب وأناب إليه ، وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل وإعداده له ما أعد له من العذاب المقيم في الآجل إذا استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة .

منبها لهم على حكمه في المنيبين إليه بالتوبة وقضائه في المستكبرين عن الإنابة إعذارا من الله بذلك إليهم وإنذارا لهم ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب ، وخاصا أهل الكتاب بما ذكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأمية من مشركي عبدة الأوثان ، بالاحتجاج عليهم دون غيرهم من سائر أصناف الأمم الذين لا علم عندهم بذلك لنبيه محمد ليعلموا بإخباره إياهم بذلك أنه لله رسول مبعوث ، وأن ما جاءهم به فمن عنده .

إذ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص من مكنون علومهم ومصون ما في كتبهم وخفي أمورهم التي لم يكن يدعي معرفة علمها غيرهم وغير من أخذ عنهم وقرأ كتبهم ، وكان معلوما من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبا ولا لأسفارهم تاليا ولا لأحد منهم مصاحبا ولا مجالسا ، فيمكنهم أن يدعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم فقال جل ذكره في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه مع كفرهم به وتركهم شكره عليها مما يجب له عليهم من طاعته .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{كَيۡفَ تَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمۡ أَمۡوَٰتٗا فَأَحۡيَٰكُمۡۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ} (28)

ثُني عنان الخطاب إلى الناس الذين خوطبوا بقوله آنفاً : { يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة : 21 ] ، بعد أن عقب بأفانين من الجمل المعترضة من قوله : { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري } [ البقرة : 25 ] إلى قوله : { الخاسرون } [ البقرة : 27 ] .

وليس في قوله : { كيف تكفرون بالله } تناسب مع قوله : { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما } [ البقرة : 26 ] وما بعده مما حكى عن الذين كفروا في قولهم : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } [ البقرة : 26 ] حتى يكون الانتقالُ إلى الخطاب في قوله : { تكفرون } التفاتاً ، فالمناسبة بين موقع هاته الآية بعد ما قبلها هي مناسبة اتحاد الغرض ، بعد استيفاء ما تخلل واعترض .

ومن بديع المناسبة وفائق التفنن في ضروب الانتقالات في المخاطبات أن كانت العلل التي قرن بها الأمر بعبادة الله تعالى في قوله : { يأيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] الخ هي العلل التي قرن بها إنكار ضد العبادة وهو الكفر به تعالى في قوله هنا : { كيف تكفرون بالله } فقال فيما تقدم : { الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } [ البقرة : 21 ] { الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء } [ البقرة : 22 ] الآية وقال هنا : { وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء } [ البقرة : 29 ] وكان ذلك مبدأ التخلص إلى ما سيرد من بيان ابتداء إنشاء نوع الإنسان وتكوينه وأطواره .

فالخطاب في قوله : { تكفرون } متعين رجوعه إلى { الناس } وهم المشركون لأن اليهود لم يكفروا بالله ولا أنكروا الإحياء الثاني .

و { كيف } اسم لا يعرف اشتقاقه يدل على حالة خاصة وهي التي يقال لها الكيفية نسبة إلى كيف ويتضمن معنى السؤال في أكثر موارد استعماله فلدلالته على الحالة كان في عداد الأسماء لأنه أفاد معنى في نفسه إلا أن المعنى الاسمي الذي دل عليه لما كان معنى مبهماً شابه معنى الحرف فلما أشربوه معنى الاستفهام قوي شبهه بالحروف لكنه لا يخرج عن خصائص الأسماء فلذلك لا بد له من محلِّ إعراب ، وأكثر استعماله اسمُ استفهام فيعرب إعراب الحال . ويستفهم بكيف عن الحال العامة . والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والإنكار بقرينة قوله : { وكنتم أمواتاً } الخ أي إن كفركم مع تلك الحالة شأنه أن يكون منتفياً لا تركن إليه النفس الرشيدة لوجود ما يصرف عنه وهو الأحوال المذكورة بعْدُ فكان من شأنه أن يُنكر فالإنكار متولد من معنى الاستفهام ولذلك فاستعماله فيهما من إرادة لازم اللفظ ، وكأن المنكر يريد أن يقطع معذرة المخاطب فيظهر له أنه يتطلب منه الجواب بما يُظهر السبب فيُبطل الإنكار والعجَب حتى إذا لم يبد ذلك كان حقيقاً باللوم والوعيد .

والكفر بضم الكاف مصدر سماعي لكَفَر الثلاثي القاصر وأصله جَحْد المنعَم عليه نعمةَ المنْعِم ، اشتق من مادة الكَفر بفتح الكاف وهو الحَجب والتغطية لأن جاحد النعمة قد أخفى الاعتراف بها كما أن شاكرها أعلنها .

وضده الشكر ولذلك صيغ له مصدر على وزان الشُّكر وقالوا أيضاً كفران على وزن شُكران ، ثم أطلق الكفر في القرآن على الإشراك بالله في العبادة بناء على أنه أشد صور كفر النعمة إذ الذي يترك عبادة من أنعم عليه في وقت من الأوقات قد كفر نعمته في تلك الساعة إذ توجَّهَ بالشكر لغير المنعِم وتركَ المنعِم حين عزمه على التوجه بالشكر ولأن عزم نفسه على مداومة ذلك استمرار في عقد القلب على كفر النعمة وإن لم يتفطن لذلك ، فكان أكثرُ إطلاق الكفر بصيغة المصدر في القرآن على الإشراك بالله ولم يَرد الكفر بصيغة المصدر في القرآن لغير معنى الإشراك بالله . وقل ورود فعل الكفر أو وصف الكافر في القرآن لجحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك حيث تكون قرينة على إرادة ذلك كقوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } [ البقرة : 105 ] وقولِه : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة : 44 ] يريد اليهود .

وأما إطلاقه في السنة وفي كلام أئمة المسلمين فهو الاعتقاد الذي يخرج معتقده عن الإسلام وما يدل على ذلك الاعتقاد من قول أو فعل دلالة لا تحتمل غير ذلك .

وقد ورد إطلاق الكفر في كلام الرسول عليه السلام وكلام بعض السلف على ارتكاب جريمة عظيمة في الإسلام إطلاقاً على وجه التغليظ بالتشبيه المفيد لتشنيع ارتكاب ما هو من الأفعال المباحة عند أهل الكفر ولكن بعض فرق المسلمين يتشبثون بظاهر ذلك الإطلاق فيقضون بالكفر على مرتكب الكبائر ولا يلتفتون إلى ما يعارض ذلك في إطلاقات كلام الله ورسوله . وفرق المسلمين يختلفون في أن ارتكاب بعض الأعمال المنهي عنها يدخل في ماهية الكفر وفي أن إثبات بعض الصفات لله تعالى أو نفي بعض الصفات عنه تعالى داخل في ماهية الكفر على مذاهب شتى .

ومذهب أهل الحق من السلف والخلف أنه لا يكفر أحد من المسلمين بذنب أو ذنوب من الكبائر فقد ارتكبت الذنوب الكبائر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء فلم يعاملوا المجرمين معاملة المرتدين عن الدين ، والقول بتكفير العصاة خطر على الدين لأنه يؤول إلى انحلال جامعة الإسلام ويهون على المذنب الانسلاخ من الإسلام منشداً « أنا الغريق فما خوفي من البلل » .

ولا يكفر أحد بإثبات صفة لله لا تنافي كماله ولا نفي صفة عنه ليس في نفيها نقصان لجلاله فإن كثيراً من الفرق نفوا صفات ما قصدوا بنفيها إلا إجلالاً لله تعالى وربما أفرطوا في ذلك كما نفى المعتزلة صفات المعاني وجواز رؤية الله تعالى ، وكثير من الفرق أثبتوا صفات ما قصدوا من إثباتها إلا احترام ظواهر كلامه تعالى كما أثبت بعض السلف اليد والإصبع مع جزمهم بأن الله لا يشبه الحوادث .

والإيمان ذكر معناه عند قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] .

وقوله : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } جملة حالية وهي تخلص إلى بيان ما دلت عليه { كيف } بطريق الإجمال وبيان أولى الدلائل على وجوده وقدرته وهي ما يشعر به كل أحد من أنه وجد بعد عدم .

ولقد دل قوله تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } أن هذا الإيجاد على حال بديع وهو أن الإنسان كان مركب أشياء موصوفاً بالموت أي لا حياة فيه إذ كان قد أخذ من العناصر المتفرقة في الهواء والأرض فجمعت في الغذاء وهو موجود ثانٍ ميت ثم استخلصت منه الأمزجة من الدم وغيره وهي ميتة ، ثم استخلص منه النطفتان للذكر والأنثى ، ثم امتزج فصار علقة ثم مضغة كل هذه أطوار أولية لوجود الإنسان وهي موجودات ميتة ثم بثت فيه الحياة بنفخ الروح فأخذ في الحياة إلى وقت الوضع فما بعده ، وكان من حقهم أن يكتفوا به دليلاً على انفراده تعالى بالإلهية .

وإطلاق الأموات هنا مجاز شائع بناء على أن الموت هو عدم اتصاف الجسم بالحياة سواء كان متصفاً بها من قبل كما هو الإطلاق المشهور في العرف أم لم يكن متصفاً بها إذا كان من شأنه أن يتصف بها فعلى هذا يقال للحيوان في أول تكوينه نطفة وعلقة ومضغة ميت لأنه من شأنه أن يتصف بالحياة فيكون إطلاق الأموات في هذه الآية عليهم حين كانوا غير متصفين بالحياة إطلاقاً شائعاً والمقصود به التمهيد لقوله : { فأحياكم } ثم التمهيد والتقريب لقوله : { ثم يميتكم ثم يحييكم } .

وقال كثير من أئمة اللغة الموت انعدام الحياة بعد وجودها وهو مختار الزمخشري والسكاكي وهو الظاهر ، وعليه فإطلاق الأموات عليهم في الحالة السابقة على حلول الحياة استعارة . واتفق الجميع على أنه إطلاق شائع في القرآن فإن لم يكن حقيقة فهو مجاز مشهور قد ساوى الحقيقة وزال الاختلاف .

والحياة ضد الموت ، وهي في نظر الشرع نفخ الروح في الجسم . وقد تعسر تعريف الحياة أو تعريف دوامها على الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين تعريفاً حقيقياً بالحد ، وأوضح تعاريفها بالرسم أنها قوة ينشأ عنها الحس والحركة وأنها مشروطة باعتدال المزاج والأعضاء الرئيسية التي بها تدوم الدورة الدموية ، والمراد بالمزاج التركيب الخاص المناسب مناسبة تليق بنوع ما من المركبات العنصرية وذلك التركيب يحصل من تعادل قوى وأجزاء بحسب ما اقتضته حالة الشيء المركب مع انبثاث الروح الحيواني ، فباعتدال ذلك التركيب يكون النوع معتدلاً ولكل صنف من ذلك النوع مزاج يخصه بزيادة تركيب ، ولكل شخص من الصنف مزاج يخصه ويتكون ذلك المزاج على النظام الخاص تنبعث الحياة في ذي المزاج في إبان نفخ الروح فيه وهي المعبر عنها بالروح النفساني .

وقد أشار إلى هذا التكوين حديث الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه المَلك فينفخ فيه الروح " فأشار إلى حالات التكوين التي بها صار المزاج مزاجاً مناسباً حتى انبعثت فيه الحياة ، ثم بدوام انتظام ذلك المزاج تدوم الحياة وباختلاله تزول الحياة ، وذلك الاختلال هو المعبر عنه بالفساد ، ومن أعظم الاختلال فيه اختلال الروح الحيواني وهو الدم إذا اختلت دورته فعرض له فساد ، وبعروض حالة توقف عمل المزاج وتعطل آثاره يصير الحي شبيهاً بالميت كحالة المغمى عليه وحالة العضو المفلوج ، فإذا انقطع عمل المزاج فذلك الموت . فالموت عدم والحياة ملكة وكلاهما موجود مخلوق قال تعالى : { الذي خلق الموت والحياة } في سورة الملك ( 2 ) .

وليس المقصود من قوله : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } الامتنان بل هو استدلال محض ذكر شيئاً يعده الناس نعمة وشيئاً لا يعدونه نعمة وهو الموتتان فلا يشكل وقوع قوله : { أمواتاً } وقوله : { ثم يميتكم } في سياق الآية .

وأما قوله : { ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } فذلك تفريع عن الاستدلال وليس هو بدليل ، إذ المشركون ينكرون الحياة الآخرة فهو إدماج وتعليم وليس باستدلال ، أو يكون ما قام من الدلائل على أن هناك حياة ثانية قد قام مقام العلم بها وإن لم يحصل العلم فإن كل من علم وجود الخالق العدل الحكيم ورأى الناس لا يجْرُون على مقتضى أوامره ونواهيه فيرى المفسد في الأرض في نعمة والصالح في عناء علم أن عدل الله وحكمته ما كان ليُضيع عمل عامل وأن هنالك حياة أحكم وأعدل من هذه الحياة تكون أحوال الناس فيها على قدر استحقاقهم وسمو حقائقهم .

وقوله : { ثم إليه ترجعون } أي يكون رجوعكم إليه ، شُبِّه الحضور للحساب برجوع السائر إلى منزله باعتبار أن الله خلق الخلق فكأنهم صَدروا من حضرته فإذا أحياهم بعد الموت فكأنهم أرجعَهم إليه وهذا إثبات للحشر والجزاء .

وتقديم المتعلِّق على عامله مفيد القصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطَبين لإفادتهم ذلك إذ كانوا منكرين ذلك وفيه تأييس لهم من نفع أصنامهم إياهم إذ كان المشركون يحاجون المسلمين بأنه إن كان بعث وحشر فسيجدون الآلهة ينصرونهم .

و { تُرجَعون } بضم التاء وفتح الجيم في قراءة الجمهور ، وقرأهُ يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم والقراءة الأولى على اعتبار أن الله أرجعهم وإن كانوا كارهين لأنهم أنكروا البعث والقراءة الثانية باعتبار وقوع الرجوع منهم بقطع النظر عن الاختيار أو الجبر .