جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (184)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ أَيّاماً مّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضاً أَوْ عَلَىَ سَفَرٍ فَعِدّةٌ مّنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

يعني تعالى ذكره : كتب عليكم أيها الذين آمنوا الصيام أياما معدودات . ونصب «أياما » بمضمر من الفعل ، كأنه قيل : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم أن تصوموا أياما معدودات ، كما يقال : أعجبني الضرب زيدا . وقوله : { كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } من الصيام ، كأنه قيل : كتب عليكم الذي هو مثل الذي كتب على الذين من قبلكم أن تصوموا أياما معدودات .

ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى الله جل وعز بقوله : { أيّاما مَعْدُودَاتٍ } فقال بعضهم : الأيام المعدودات : صوم ثلاثة أيام من كل شهر . قال : وكان ذلك الذي فرض على الناس من الصيام قبل أن يفرض عليهم شهر رمضان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، قال : كان عليهم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، ولم يسمّ الشهر أياما معدودات ، قال : وكان هذا صيام الناس قبل ثم فرض الله عز وجل على الناس شهر رمضان .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ } وكان ثلاثة أيام من كل شهر ، ثم نسخ ذلك بالذي أنزل من صيام رمضان ، فهذا الصوم الأول من العتمة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصام يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر ، ثم أنزل الله جل وعز فرض شهر رمضان ، فأنزل الله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكم الصّيامُ كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } حتى بلغ : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ } .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرناعبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : قد كتب الله تعالى ذكره على الناس قبل أن ينزل رمضان صوم ثلاثة أيام من كل شهر .

وقال آخرون : بل الأيام الثلاثة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومها قبل أن يفرض رمضان كان تطوّعا صومهن ، وإنما عنى الله جل وعز بقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ . . . أيّاما مَعْدُوداتٍ } أيام شهر رمضان ، لا الأيام التي كان يصومهن قبل وجوب فرض صوم شهر رمضان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة ، عن عمرو بن مرة قال : حدثنا أصحابنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوّعا لا فريضة قال : ثم نزل صيام رمضان قال أبو موسى : قوله قال عمرو بن مرة ، حدثنا أصحابنا ، يريد ابن أبي ليلى ، كان ابن أبي ليلى القائل حدثنا أصحابنا .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت عمرو بن مرة ، قال : سمعت ابن أبي ليلى ، فذكر نحوه .

وقد ذكرنا قول من قال : عنى بقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } شهر رمضان .

وأولى ذلك بالصواب عندي قول من قال : عنى الله جل ثناؤه بقوله : { أيّاما مَعْدُودَاتٍ } أيام شهر رمضان ، وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوما فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان ، ثم نسخ بصوم شهر رمضان ، وأن الله تعالى قد بين في سياق الآية أن الصيام الذي أوجبه جل ثناؤه علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات بإبانته ، عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومها بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرآنُ } فمن ادعى أن صوما كان قد لزم المسلمين فرضه غير صوم شهر رمضان الذين هم مجمعون على وجوب فرض صومه ثم نسخ ذلك ، سئل البرهان على ذلك من خبر تقوم به حجة ، إذ كان لا يعلم ذلك إلا بخبر يقطع العذر . وإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا للذي بينا ، فتأويل الآية : كتب عليكم أيها المؤمنون الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات ، هي شهر رمضان .

وجائز أيضا أن يكون معناه : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ : كتب عليكم شهر رمضان .

وأما " المعدودات " : فهي التي تعد مبالغها وساعات أوقاتها ، ويعني بقوله " معدودات : " محصيات .

القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ ، وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين . }

يعني بقوله جل ثناؤه : من كان منكم مريضا ممن كلف صومه أو كان صحيحا غير مريض وكان على سفر فعدة من أيام أخر . يقول : فعليه صوم عدّة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره من أيام أخر ، يعني من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره . والرفع في قوله : { فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } نظير الرفع في قوله : { فاتّباعٌ بالمَعْرُوفِ }وقد مضى بيان ذلك هنالك بما أغنى عن إعادته .

وأما قوله : { وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين فإن قراءة كافة المسلمين : " وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ " وعلى ذلك خطوط مصاحفهم ، وهي القراءة التي لا يجوز لأحد من أهل الإسلام خلافها لنقل جميعهم تصويب ذلك قرنا عن قرن . وكان ابن عباس يقرؤها فيما رُوِي عنه : «وعلى الّذِينَ يُطَوّقُونَهُ » .

ثم اختلف قرّاء ذلك : " وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ " في معناه ، فقال بعضهم : كان ذلك في أوّل ما فرض الصوم ، وكان من أطاقه من المقيمين صامه إن شاء ، وإن شاء أفطره وافتدى ، فأطعم لكل يوم أفطره مسكينا حتى نسخ ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل قال : «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، فصام يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر ، ثم إن الله جل وعز فرض شهر رمضان ، فأنزل الله تعالى ذكره : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ } حتى بلغ : { وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين }فكان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا . ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم ، فأنزل الله عز وجل : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ . . } . إلى آخر الآية » .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال : حدثنا أصحابنا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعا غير فريضة ، قال : ثم نزل صيام رمضان ، قال : وكانوا قوما لم يتعوّدوا الصيام ، قال : وكان يشتدّ عليهم الصوم ، قال : فكان من لم يصم أطعم مسكينا ، ثم نزلت هذه الآية : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر }َ فكانت الرخصة للمريض والمسافر ، وأمرنا بالصيام » . قال محمد بن المثنى : قوله قال عمرو ، حدثنا أصحابنا : يريد ابن أبي ليلى ، كأن ابن أبي ليلى القائل حدثنا أصحابنا .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت عمرو بن مرة ، قال : سمعت ابن أبي ليلى فذكر نحوه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة في قوله : { وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين } قال : كان من شاء صام ، ومن شاء أفطر وأطعم نصف صاع مسكينا ، فنسخها " شَهْرُ رَمَضَانَ " إلى قوله : " فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ " .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم بنحوه ، وزاد فيه قال : فنسختها هذه الآية ، وصارت الآية الأولى للشيخ الذي لا يستطيع الصوم يتصدّق مكان كل يوم على مسكين نصف صاع .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح أبو تميلة ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قوله : { وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين } فكان من شاء منهم أن يصوم صام ، ومن شاء منهم أن يفتدي بطعام مسكين افتدى وتمّ له صومه . ثم قال : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ثم استثنى من ذلك فقال : { وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر . }

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سألت الأعمش عن قوله : { وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين } فحدثنا عن إبراهيم عن علقمة ، قال : نسختها : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . }

حدثنا عمر بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا عبد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : نسخت هذه الآية يعني : { وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين } التي بعدها : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ . }

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة في قوله : { وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين } قال : نسختها : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . }

حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن عاصم ، عن الشعبي قال : نزلت هذه الآية : { وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين }كان الرجل يفطر فيتصدّق عن كل يوم على مسكين طعاما ، ثم نزلت هذه الآية : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ } فلم تنزل الرخصة إلا للمريض والمسافر .

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن عاصم ، عن الشعبي ، قال : نزلت هذه الآية للناس عامة : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين } وكان الرجل يفطر ويتصدّق بطعامه على مسكين ، ثم نزلت هذه الآية : { وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ } قال : فلم تنزل الرخصة إلا للمريض والمسافر .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن ابن أبي ليلى ، قال : دخلت على عطاء وهو يأكل في شهر رمضان فقال : إني شيخ كبير إن الصوم نزل ، فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا ، حتى نزلت هذه الآية : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } فوجب الصوم على كل أحد إلا مريض أو مسافر أو شيخ كبير مثلي يفتدي .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب ، قال : قال الله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } قال ابن شهاب : كتب الله الصيام علينا ، فكان من شاء افتدى ممن يطيق الصيام من صحيح أو مريض أو مسافر ، ولم يكن عليه غير ذلك . فلما أوجب الله على من شهد الشهر الصيام ، فمن كان صحيحا يطيقه وضع عنه الفدية ، وكان من كان على سفر أو كان مريضا فعدة من أيام أخر . قال : وبقيت الفدية التي كانت تقبل قبل ذلك للكبير الذي لا يطيق الصيام ، والذي يعرض له العطش أو العلة التي لا يستطيع معها الصيام .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : جعل الله في الصوم الأول فدية طعام مسكين ، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يطعم مسكينا ويفطر كان ذلك رخصة له ، فأنزل الله في الصوم الاَخر : { فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ }ولم يذكر الله في الصوم الاَخر فدية طعام مسكين ، فنسخت الفدية ، وثبت في الصوم الاَخر : { يُريدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } وهو الإفطار في السفر ، وجعله عدة من أيام أخر .

حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : أخبرني عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحرث ، قال بكر بن عبد الله ، عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع ، عن سلمة بن الأكوع أنه قال : كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى بطعام مسكين ، حتى أنزلت : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . }

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن الشعبي في قوله : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين } قال : كانت الناس كلهم ، فلما نزلت : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } أمروا بالصوم والقضاء ، فقال : { وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرج .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن الأعمش ، عن إبراهيم في قوله : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين } قال : نسختها الآية التي بعدها : { وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون . }

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن محمد بن سليمان ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين } قال : نسختها الآية التي تليها : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . }

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : حدثنا الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ } الآية ، فرض الصوم من العتمة إلى مثلها من القابلة ، فإذا صلى الرجل العتمة حرم عليه الطعام والجماع إلى مثلها من القابلة ، ثم نزل الصوم الاَخر بإحلال الطعام والجماع بالليل كله ، وهو قوله : { وكُلُوا وَاشرَبُوا حّتى يتبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ إلى قوله : ثُمّ أتمّوا الصّيامَ إلى اللّيْلِ } وأحلّ الجماع أيضا فقال : { أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلى نِساِئكُمْ }وكان في الصوم الأول الفدية ، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يطعم مسكينا ويفطر فعل ذلك ، ولم يذكر الله تعالى ذكره في الصوم الاَخر الفدية ، وقال : { فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ } فنسخ هذا الصوم الاَخر الفدية .

وقال آخرون : بل كان قوله : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين } حكما خاصا للشيخ الكبير والعجوز اللذين يطيقان الصوم كان مرخصا لهما أن يفديا صومهما بإطعام مسكين ويفطرا ، ثم نسخ ذلك بقوله : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فلزمهما من الصوم مثل الذي لزم الشاب إلا أن يعجزا عن الصوم فيكون ذلك الحكم الذي كان لهما قبل النسخ ثابتا لهما حينئذ بحاله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عروة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصوم رخص لهما أن يفطرا إن شاءا ويطعما لكل يوم مسكينا ، ثم نسخ ذلك بعد ذلك : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَريضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم ، وللحبلى والمرضع إذا خافتا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عروة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ }قال : الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة ، ثم ذكر مثل حديث بشر عن يزيد .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثني أبي ، عن قتادة ، عن عكرمة ، قال : كان الشيخ والعجوز لهما الرخصة أن يفطرا ويطعما بقوله : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين } قال : فكانت لهم الرخصة ، ثم نسخت بهذه الآية : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فنسخت الرخصة عن الشيخ والعجوز إذا كانا يطيقان الصوم ، وبقيت الحامل والمرضع أن يفطرا ويطعما .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن المنهال ، قال : حدثنا همام بن يحيى ، قال : سمعت قتادة يقول في قوله : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين } قال : كان فيها رخصة للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يطعما مكان كل يوم مسكينا ويفطرا ، ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها فقال : { شَهْرُ رَمَضَانَ } إلى قوله : { فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر } فنسختها هذه الآية . فكان أهل العلم يرون ويرجون الرخصة تثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا لم يطيقا الصوم أن يفطرا ويطعما عن كل يوم مسكينا ، وللحبلى إذا خشيت على ما في بطنها ، وللمرضع إذا ما خشيت على ولدها .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله{ : وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين } فكان الشيخ والعجوز يطيقان صوم رمضان ، فأحلّ الله لهما أن يفطراه إن أرادا ذلك ، وعليهما الفدية لكل يوم يفطرانه طعام مسكين ، فأنزل الله بعد ذلك : { شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرآنُ إلى قوله : فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر . }

وقال آخرون ممن قرأ ذلك : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ } لم ينسخ ذلك ولا شيء منه ، وهو حكم مثبت من لدن نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة . وقالوا : إنما تأويل ذلك : على الذين يطيقونه في حال شبابهم وحداثتهم ، وفي حال صحتهم وقوتهم إذا مرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم فدية طعام مسكين لا أن القوم كان رخص لهم في الإفطار وهم على الصوم قادرون إذا افتدوا . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين } قال : أما الذين يطيقونه فالرجل كان يطيقه وقد صام قبل ذلك ثم يعرض له الوجع أو العطش أو المرض الطويل ، أو المرأة المرضع لا تستطيع أن تصوم فإن أولئك عليهم مكان كل يوم إطعام مسكين ، فإن أطعم مسكينا فهو خير له ، ومن تكلف الصيام فصامه فهو خير له .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة عن عروة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إذا خافت الحامل على نفسها والمرضع على ولدها في رمضان ، قال : يفطران ويطعمان مكان كل يوم مسكينا ولا يقضيان صوما .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه رأى أمّ ولد له حاملاً أو مرضعا ، فقال : أنت بمنزلة الذي لا يطيقه ، عليك أن تطعمي مكان كل يوم مسكينا ولا قضاء عليك .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة ، عن سعيد ، عن نافع ، عن عليّ بن ثابت ، عن ابن عمر مثل قول ابن عباس في الحامل والمرضع .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن ابن عباس قال لأم ولد له حبلى أو مرضع : أنت بمنزلة الذين لا يطيقونه ، عليك الفداء ولا صوم عليك . هذا إذا خافت على نفسها .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين } هو الشيخ الكبير كان يطيق صوم شهر رمضان وهو شاب فكبر ، وهو لا يستطيع صومه فليتصدّق على مسكين واحد لكل يوم أفطره حين يفطر وحين يتسحر .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس نحوه ، غير أنه لم يقل حين يفطر وحين يتسحر .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن حرملة ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : في قول الله تعالى ذكره : { فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين } قال : هو الكبير الذي كان يصوم فكبر وعجز عنه ، وهي الحامل التي ليس عليها الصيام . فعلى كل واحد منهما طعام مسكين ، مدّ من حنطة لكل يوم حتى يمضي رمضان .

وقرأ ذلك آخرون : { وَعلى الّذِينَ يُطَوّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين } وقالوا : إنه الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم ، فهما يكلفان الصوم ولا يطيقانه ، فلهما أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم أفطراه مسكينا . وقالوا : الآية ثابتة الحكم منذ أنزلت لم تنسخ ، وأنكروا قول من قال إنها منسوخة . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : «يُطَوّقُونَه » .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن عصام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : { وَعلى الّذِينَ يُطَوّقونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين } . قال : فكان يقول : هي للناس اليوم قائمة .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : «وعلى الّذِينَ يُطَوّقونه فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين » قال : وكان يقول هي للناس اليوم قائمة .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : «وعلى الّذِينَ يُطَوّقونه » ويقول : هو الشيخ الكبير يفطر ويطعم عنه .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية : «وعلى الّذِينَ يُطَوّقُونَهُ » وكذلك كان يقرؤها : أنها ليست منسوخة كلف الشيخ الكبير أن يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينا .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قرأ : «وعلى الّذِينَ يُطَوّقُونَهُ » .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن عمران بن حدير ، عن عكرمة ، قال : الذين يطيقونه يصومونه ولكن الذين يطوّقونه يعجزون عنه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : حدثني محمد بن عباد بن جعفر ، عن أبي عمرو مولى عائشة أن عائشة كانت تقرأ : «يُطَوّقُونَه » .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء أنه كان يقرؤها : «يُطَوّقُونَه » قال ابن جريج : وكان مجاهد يقرؤها كذلك .

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا خالد ، عن عكرمة : «وَعلى الّذِينَ يُطيقُونَهُ » قال : قال ابن عباس : هو الشيخ الكبير .

حدثنا إسماعيل بن موسى السدي ، قال : أخبرنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : «وَعلى الّذِينَ يُطَوّقُونَهُ » قال : يتجشمونه ، يتكلفونه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن مسلم الملائي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : «وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين » قال : الشيخ الكبير الذي لا يطيق فيفطر ويطعم كل يوم مسكينا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء عن ابن عباس في قول الله : وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ قال : يكلفونه ، فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين واحد ، قال : فهذه آية منسوخة لا يرخص فيها إلا للكبير الذي لا يطيق الصيام ، أو مريض يعلم أنه لا يشفى .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : " الّذِينَ يُطيقُونَهُ " يتكفلونه " فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين " واحد ، ولم يرخص هذا إلا للشيخ الذي لا يطيق الصوم ، أو المريض الذي يعلم أنه لا يشفى هذا عن مجاهد .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه كان يقول : ليست بمنسوخة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين } يقول : من لم يطق الصوم إلا على جهد فله أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينا ، والحامل والمرضع والشيخ الكبير والذي به سقم دائم .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبيدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين } قال : هو الشيخ الكبير والمرء الذي كان يصوم في شبابه ، فلما كبر عجز عن الصوم قبل أن يموت ، فهو يطعم كل يوم مسكينا . قال هناد : قال عبيدة : قيل لمنصور الذي يطعم كل يوم نصف صاع ؟ قال : نعم .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن عثمان بن الأسود ، قال : سألت مجاهدا عن امرأة لي وافق تاسعها شهر رمضان ، ووافق حرّا شديدا ، فأمرني أن تفطر وتطعم . قال : وقال مجاهد : وتلك الرخصة أيضا في المسافر والمريض ، فإن الله يقول : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين . }

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الحامل والمرضع والشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم يفطرون في رمضان ، ويطعمون عن كل يوم مسكينا . ثم قرأ : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين . }

حدثنا عليّ بن سعد الكندي ، قال : حدثنا حفص ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث ، عن عليّ في قوله : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين } قال : الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين } قال : هم الذين يتكلفونه ولا يطيقونه ، الشيخ والشيخة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن الحجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث ، عن عليّ قال : هو الشيخ والشيخة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن عمران بن حدير ، عن عكرمة أنه كان يقرؤها : وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فأفطروا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عاصم عمن حدثه ، عن ابن عباس ، قال : هي مثبتة للكبير والمرضع والحامل وعلى الذين يطيقون الصيام .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : ما قوله : وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَه ؟ قال : بلغنا أن الكبير إذا لم يستطع الصوم يفتدي من كل يوم بمسكين ، قلت : الكبير الذي لا يستطيع الصوم ، أو الذي لا يستطيعه إلا بالجهد ؟ قال : بل الكبير الذي لا يستطيعه بجهد ولا بشيء ، فأما من استطاع بجهد فليصمه ولا عذر له في تركه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن أبي يزيد : { وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ } الآية ، كأنه يعني الشيخ الكبير .

قال ابن جريج : وأخبرني ابن طاوس عن أبيه أنه كان يقول : نزلت في الكبير الذي لا يستطيع صيام رمضان فيفتدي من كل يوم بطعام مسكين . قلت له : كم طعامه ؟ قال : لا أدري ، غير أنه قال : طعام يوم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن الحسن بن يحيى ، عن الضحاك في قوله : { فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين }قال : الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم يفطر ويطعم كل يوم مسكينا .

وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين } منسوخ بقول الله تعالى ذكره : فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ لأن الهاء التي في قوله : وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ من ذكر الصيام . ومعناه : وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعام مسكين . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أن من كان مطيقا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوم شهر رمضان فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين ، كان معلوما أن الآية منسوخة . هذا مع ما يؤيد هذا القول من الأخبار التي ذكرناها آنفا عن معاذ بن جبل وابن عمر وسلمة بن الأكوع ، من أنهم كانوا بعد نزول هذه الآية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه وسقوط الفدية عنهم ، وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم ، وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت : { فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }فألزموا فرض صومه ، وبطل الخيار والفدية .

فإن قال قائل : وكيف تدعي إجماعا من أهل الإسلام على أن من أطاق صومه وهو بالصفة التي وصفت فغير جائز له إلا صومه ، وقد علمت قول من قال : الحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما لهما الإفطار ، وإن أطاقتا الصوم بأبدانهما ، مع الخبر الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي :

حدثنا به هناد بن السري ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتغدى فقال : «تَعالَ أُحدّثْكَ ، إن اللّهَ وَضَعَ عَنِ المُسافِرِ وَالحامِلِ وَالمُرْضِعِ الصّوْمَ وَشَطْرَ الصّلاة » .

قيل : إنا لم نّدع إجماعا في الحامل والمرضع ، وإنما ادعينا في الرجال الذين وصفنا صفتهم . فأما الحامل والمرضع فإنما علمنا أنهنّ غير معنيات بقوله : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ }وخلا الرجال أن يكونوا معنيين به لأنهنّ لو كنّ معنيات بذلك دون غيرهن من الرجال لقيل : وعلى اللواتي يطقنه فدية طعام مسكين لأن ذلك كلام العرب إذا أفرد الكلام بالخبر عنهن دون الرجال فلما قيل : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ } كان معلوما أن المعنيّ به الرجال دون النساء ، أو الرجال والنساء . فلما صحّ بإجماع الجميع على أن من أطاق من الرجال المقيمين الأصحاء صوم شهر رمضان فغير مرخص له في الإفطار والافتداء ، فخرج الرجال من أن يكونوا معنيين بالآية ، وعلم أن النساء لم يردن بها لما وصفنا من أن الخبر عن النساء إذا انفرد الكلام بالخبر عنهن وعلى اللواتي يطقنه ، والتنزيل بغير ذلك .

وأما الخبر الذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه إن كان صحيحا ، فإنما معناه أنه وضع عن الحامل والمرضع الصوم ما دامتا عاجزتين عنه حتى تطيقا فتقضيا ، كما وضع عن المسافر في سفره حتى يقيم فيقضيه ، لا أنهما أمرتا بالفدية والإفطار بغير وجوب قضاء ، ولو كان في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ وَضَعَ عَنِ المُسافِرِ وَالمُرْضِعِ وَالحامِلِ الصّوْمَ » دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عنى أن الله تعالى ذكره وضع عنهم بقوله : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين ، }لوجب أن لا يكون على المسافر إذا أفطر في سفره قضاء ، وأن لا يلزمه بإفطاره ذلك إلا الفدية لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حكمه وبين حكم الحامل والمرضع ، وذلك قول إن قاله قائل خلاف لظاهر كتاب الله ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام .

وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله : { وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَه }وعلى الذين يطيقون الطعام ، وذلك لتأويل أهل العلم مخالف .

وأما قراءة من قرأ ذلك : «وَعلى الّذِينَ يُطَوّقُونَه » فقراءة لمصاحف أهل الإسلام خلاف ، وغير جائز لأحد من أهل الإسلام الاعتراض بالرأي على ما نقله المسلمون وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم نقلاً ظاهرا قاطعا للعذر ، لأن ما جاءت به الحجة من الدين هو الحق الذي لا شك فيه أنه من عند الله ، ولا يعترض على ما قد ثبت وقامت به حجة أنه من عند الله بالاَراء والظنون والأقوال الشاذة .

وأما معنى «الفدية » فإنه الجزاء من قولك : فديت هذا بهذا : أي جزيته به ، وأعطيته بدلاً منه .

ومعنى الكلام : وعلى الذين يطيقون الصيام جزاء طعام مسكين لكل يوم أفطره من أيام صيامه الذي كتب عليه .

وأما قوله : فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين فإن القرّاء مختلفة في قراءته ، فبعض يقرأ بإضافة الفدية إلى الطعام ، وخفض الطعام وذلك قراءة معظم قرّاء أهل المدينة بمعنى : وعلى الذين يطيقونه أن يفدوه طعام مسكين فلما جعل مكان أن يفديه الفدية أضيف إلى الطعام ، كما يقال : لزمني غرامة درهم لك بمعنى لزمني أن أغرم لك درهما ، وآخرون يقرءونه بتنوين الفدية ورفع الطعام بمعنى الإبانة في الطعام عن معنى الفدية الواجبة على من أفطر في صومه الواجب ، كما يقال لزمني غرامةُ درهمٍ لك ، فتبين بالدرهم عن معنى الغرامة ما هي وما حدّها ، وذلك قراءة عُظْم قرّاء أهل العراق .

وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ : «فِديةُ طعَام » بإضافة الفدية إلى الطعامِ ، لأن الفدية اسم للفعل ، وهي غير الطعام المفدى به الصوم . وذلك أن الفدية مصدر من قول القائل : فديت صوم هذا اليوم بطعام مسكين ، أفديه فدية ، كما يقال : جلست جلسة ، ومشيت مشية ، والفدية فعل والطعام غيرها . فإذا كان ذلك كذلك ، فبَيّنٌ أن أصحّ القراءتين إضافة الفدية إلى الطعام ، وواضح خطأ قول من قال : إن ترك إضافة الفدية إلى الطعام أصحّ في المعنى من أجل أن الطعام عنده هو الفدية . فيقال لقائل ذلك : قد علمنا أن الفدية مقتضية مفديّا ومفديّا به وفدية ، فإن كان الطعام هو الفدية والصوم هو المفدى به ، فأين اسم فعل المفتدى الذي هو فدية ؟ إن هذا القول خطأ بين غير مشكل .

وأما الطعام فإنه مضاف إلى المسكين والقراء في قراءة ذلك مختلفون ، فقرأه بعضهم بتوحيد المسكين بمعنى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين واحد لكل يوم أفطره . كما :

حدثني محمد بن يزيد الرفاعي ، قال : حدثنا حسين الجعفي ، عن أبي عمرو : أنه قرأ «فديةٌ » رفع منون «طعامُ » رفع بغير تنوين «مسكين » . وقال : عن كل يوم مسكين . وعلى ذلك عُظْم قرّاء أهل العراق . وقرأه آخرون بجمع المساكين : «فِدْيَةٌ طَعامُ مَساكِين » بمعنى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين عن الشهر إذا أفطر الشهر كله . كما :

حدثنا أبو هشام محمد بن يزيد الرفاعي ، عن يعقوب ، عن بشار ، عن عمرو ، عن الحسن : طعام مساكين عن الشهر كله .

وأعجب القراءتين إليّ في ذلك قراءة من قرأ طعام مسكين على الواحد بمعنى : وعلى الذين يطيقونه عن كل يوم أفطروه فدية طعام مسكين لأن في إبانة حكم المفطر يوما واحدا وصولاً إلى معرفة حكم المفطر جميع الشهر ، وليس في إبانة حكم المفطر جميع الشهر وصول إلى إبانة حكم المفطر يوما واحدا وأياما هي أقل من أيام جميع الشهر ، وأن كل واحد يترجم عن الجميع وأن الجميع لا يترجم به عن الواحد ، فلذلك اخترنا قراءة ذلك بالتوحيد .

واختلف أهل العلم في مبلغ الطعام الذي كانوا يطعمون في ذلك إذا أفطروا ، فقال بعضهم : كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم الواحد نصف صاع من قمح .

وقال بعضهم : كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم مدّا من قمح ومن سائر أقواتهم .

وقال بعضهم : كان ذلك نصف صاع من قمح أو صاعا من تمر أو زبيب .

وقال بعضهم : ما كان المفطر يتقوّته يومه الذي أفطره .

وقال بعضهم : كان ذلك سحورا وعشاء يكون للمسكين إفطارا . وقد ذكرنا بعض هذه المقالات فيما مضى قبل فكرهنا إعادة ذكرها .

القول في تأويل قوله تعالى : { فَمِنْ تَطَوّعَ خَيْرا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ . }

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم بما :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وعطاء ، عن ابن عباس : { فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا{ فزاد طعام مسكين آخر فهو خير له ، { وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ . }

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس مثله .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد في قوله : { فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا } قال : من أطعم المسكين صاعا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : { فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ }قال : إطعام مساكين عن كل يوم فهو خير له .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن حنظلة ، عن طاوس : { فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا } قال : طعام مسكين .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن حنظلة ، عن طاوس نحوه .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن طاوس : فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا قال : طعام مسكين .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج . قال : حدثنا حماد ، عن ليث ، عن طاوس ، مثله .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عمر بن هارون ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن عطاء أنه قرأ : فَمَنْ تَطَوّعَ بالتاء خفيفة ( الطاء ) خَيْرا ، قال : زاد على مسكين .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ فإن أطعم مسكينين فهو خير له .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني ابن طاوس عن أبيه : فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ قال : من أطعم مسكينا آخر .

وقال آخرون : معنى ذلك : فمن تطوّع خيرا فصام مع الفدية . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب : فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ يريد أن من صام مع الفدية فهو خير له .

وقال آخرون : معنى ذلك : فمن تطوّع خيرا فزاد المسكين على قدر طعامه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فزاد طعاما فهو خير له .

والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره عمم بقوله : فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض ، فإن جمع الصوم مع الفدية من تطوّع الخير وزيادة مسكين على جزاء الفدية من تطوّع الخير .

وجائز أن يكون تعالى ذكره عنى بقوله : { فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا } أيُّ هذه المعاني تطوّع به المفتدي من صومه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ لأن كل ذلك من تطوّع الخير ونوافل الفضل .

القول في تأويل قوله تعالى : { وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . }

يعني تعالى ذكره بقوله : وأنْ تَصُومُوا ما كتب عليكم من شهر رمضان فهو خير لكم من أن تفطروه وتفتدوا . كما :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } ومَن تكلّف الصيام فصامه فهو خير له .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني يونس ، عن ابن شهاب : { وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }أي أن الصيام خير لكم من الفدية .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ . }

وأما قوله : { إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فإنه يعني : إن كنتم تعلمون خير الأمرين لكم أيها الذين آمنوا من الإفطار والفدية أو الصوم على ما أمركم الله به .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (184)

{ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }( 184 )

و { أياماً } مفعول ثان ب { كتبَ } ، قاله الفراء ، وقيل : هي نصب على الظرف ، وقيل : نصبها ب { الصيام } ، وهذا لا يحسن إلا على أن يعمل الصيام في الكاف من { كما } على قول من قدر : صوما كما ، وإذا لم يعمل في الكاف قبح الفصل بين المصدر وبين ما عمل فيه بما عمل فيه غيره ، وذلك إذا كان العامل في الكاف { كتب } ، وجوز بعضهم أن يكون { أياماً } ظرفاً يعمل فيه { الصيام } ، و { معدودات }( {[1668]} ) ، قيل : رمضان : وقيل : الثلاثة الأيام( {[1669]} ) .

وقوله تعالى { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر } ، التقدير : فأفطر { فعدة من أيام أخر } ، وهذا يسمونه فحوى الخطاب( {[1670]} ) .

واختلف العلماء في حد المرض الذي يقع به الفطر : فقال قوم : متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المريض صح الفطر قياساً على المسافر أنه يفطر لعلة السفر وإن لم تدعه إلى الفطر ضرورة ، قاله ابن سيرين .

وقال جمهور من العلماء : إذا كان به مرض يؤذيه ويؤلمه أو يخاف تماديه أو يخاف من الصوم تزيده صح( {[1671]} ) له الفطر ، وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك رحمه الله ، وبه يناظرون ، وأما لفظ مالك فهو : المرض الذي يشق على المرء ويتبلغ( {[1672]} ) به .

وقال الحسن : «إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائماً أفطر » .

وقالت فرقة : لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه الفطر ، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر ، وهذا قول الشافعي رحمه الله .

واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر ، فقال قوم والشافعي ومالك في بعض ما روي عنه : الصوم أفضل لمن قوي ، وجل مذهب مالك التخيير .

وقال ابن عباس وابن عمر وغيرهما : الفطر أفضل .

وقال مجاهد وعمر بن العزيز وغيرهما : أيسرهما أفضلهما ، وكره ابن حنبل وغيره الصوم في السفر .

وقال ابن عمر : من صام في السفر قضى في الحضر ، وهو مذهب عمر رضي الله عنه( {[1673]} ) ، ومذهب مالك في استحبابه الصوم لمن قدر عليه . وتقصير الصلاة حسن ، لأن الذمة تبرأ في رخصة الصلاة وهي مشغولة في أمر الصيام ، والصواب المبادرة بالأعمال( {[1674]} ) . وقال ابن عباس رضي الله عنه : «الفطر في السفر عزمة » ، وذهب أنس بن مالك إلى الصوم ، وقال : إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع ، ونغدو إلى جوع ، والسفر سفر الطاعة كالحج والجهاد بإجماع ، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري . وأما سفر التجارة والمباحات فمختلف فيه بالمنع والجواز والقول بالجواز أرجح وأما سفر المعاصي فمختلف فيه بالجواز والمنع والقول بالمنع أرجح ، ومسافة سفر الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة ، واختلف في قدر ذلك ، فقال مالك : يوم وليلة( {[1675]} ) ثم رجع فقال : ثمانية وأربعون ميلاً ، وروي عنه : يومان ، وروي عنه في العتبية : خمسة وأربعون ميلاً ، وفي المبسوط : أربعون ميلاً ، وفي المذهب : ستة وثلاثون ميلاً ، وفيه : ثلاثون .

وقال ابن عمر وابن عباس والثوري : الفطر في سفر ثلاثة أيام ، وفي غير المذهب : يقصر في ثلاثة أميال فصاعداً .

وقوله تعالى : { فعدة } مرفوع على خبر الابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب عدة ، ويصح أن يرتفع على ابتداء والخبر بعده والتقدير فعدة أمثل له ، ويصح فعليه عدة ، واختلف في وجوب تتابعها على قولين( {[1676]} ) ، و { أخر } لا ينصرف عند سيبويه لأنه معدول عن الألف واللام لأن هذا البناء إنما يأتي بالألف واللام كما تقول الفضل والكبر فاجتمع فيه العدل والصفة ، وجاء في الآية { أخر } ولم يجىء أخرى لئلا تشكل بأنها صفة للعدة ، والباب أن جمع ما لا يعقل يجري في مثل هذا مجرى الواحدة المؤنثة( {[1677]} ) ومنه قوله تعالى :{ يا جبال أوبي معه }( {[1678]} ) [ سبأ : 10 ] ، إلى غير ذلك .

وقرأ جمهور الناس «يطيقونه » بكسر الطاء وسكون الياء والأصل «يطوقونه » نقلت حركة الواو إلى الطاء وقلبت ياء لانكسار ما قبلها ، وقرأ حميد «يطوقونه » وذلك على الأصل ، والقياس الإعلال .

وقرأ ابن عباس «يطوقونه » بمعنى يكلفونه .

وقرأت عائشة وطاوس وعمرو بن دينار «يَطَّوقونه » بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة .

وقرأت فرقة «يُطَيَّقونه » بضم الياء وشد الطاء وشد الياء المفتوحة بمعنى يتكلفونه ، وحكاها النقاش( {[1679]} ) عن عكرمة ، وتشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف( {[1680]} ) .

وقرأ نافع وابن عامر من طريق ابن ذكوان «فديةُ طعام مساكين » بإضافة الفدية .

وقرأ هاشم عن ابن عامر «فديةٌ طعام مساكين » بتنوين الفدية .

وقرأ الباقون «فديةٌ » بالتنوين «طعام مسكين » بالإفراد ، وهي قراءة حسنة لأنها بينت الحكم في اليوم ، وجمع( {[1681]} ) المساكين لا يدرى كم منهم في اليوم إلا من غير الآية .

قال أبو علي : «فإن قلت كيف أفردوا المساكين والمعنى على الكثرة لأن الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين ، فكان الوجه أن يجمعوا كما جمع المطيقون ؟ ، فالجواب أن الإفراد حسن لأنه يفهم بالمعنى أن لكل مسكيناً( {[1682]} ) ، ونظير هذا قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة }( {[1683]} ) [ النور : 4 ] فليست الثمانون متفرقة في جميعهم بل لكل واحد ثمانون .

واختلف المتأولون في المراد بالآية( {[1684]} ) فقال معاذ بن جبل وعلقمة والنخعي والحسن البصري وابن عمر والشعبي وسلمة بن الأكوع وابن شهاب : كان فرض الصيام هكذا على الناس من أراد صام ومن أراد أطعم مسكيناً وأفطر ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [ البقرة : 185 ] .

وقالت فرقة : و { على الذين يطيقونه }( {[1685]} ) أي على الشيوخ والعجّز ، الذين يطيقون ، لكن بتكلف شديد فأباح الله لهم الفدية والفطر ، وهي محكمة عند قائلي هذا القول . وعلى هذا التأويل تجيء قراءة { يطوقونه } و " يطوقونه " .

وقال ابن عباس : نزلت هذه الرخصة للشيوخ والعجّز خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم ثم نسخت بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [ البقرة : 185 ] ، فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم .

وقال السدي : { وعلى الذين يطيقونه } أي على الذين كانوا يطيقونه وهم بحالة الشباب ثم استحالوا بالشَّيَخ فلا يستطيعون الصوم . وهي عنده محكمة ، ويلزم الشيوخ عنده الفدية إذا أفطروا ، ونحوه عن ابن عباس .

وقال مالك : «لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة ، وتستحب لمن قدر عليها » ، والآية عنده إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من المتقدم فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم فتكره فعليه الفدية( {[1686]} ) .

وقال الشافعي وأبو حنيفة : على الشيخ العاجز الإطعام .

وحكى الطبري عن عكرمة أنه كان يقرؤها «وعلى الذين يَطَّيَّقونه » فأفطر ، ومذهب مالك رحمه الله وجماعة من العلماء أن قدر الدية مد لكل مسكين .

وقال قوم : قوت يوم : وقال قوم : عشاء وسحور .

وقال سفيان الثوري : نصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو زبيب ، والضمير في { يطيقونه }( {[1687]} ) عائد على { الصيام } ، وقيل على الطعام وهو قول ضعيف .

واختلف في الحامل فقال ابن عمر وابن عباس : تفدي وتفطر ولا قضاء عليها .

وقال الحسن وعطاء والضحاك والزهري وربيعة ومالك : تقضي الحامل إذا أفطرت ولا فدية عليها .

وقال الشافعي وأحمد بن حنبل ومجاهد : تقضي وتفدي إذا أفطرت ، وكذلك قال مالك في المرضع إنها إذا أفطرت تقضي وتفدي ، هذا هو المشهور عنه ، وقال في مختصر ابن عبد الحكم : لا إطعام على المرضع .

وقوله تعالى : { فمن تطوع خيراً فهو خير له } الآية ، قال ابن عباس وطاوس عطاء والسدي : المراد من أطعم مسكينين فصاعداً( {[1688]} ) .

وقال ابن شهاب : «من زاد الإطعام على الصوم » وقال مجاهد : «من زاد في الإطعام على المد » ، و { خير } الثاني صفة تفضيل ، وكذلك الثالث ، و { خير } الأول قد نزل منزلة مالاً أو نفعاً ، وقرأ أبيّ بن كعب «والصوم خير لكم » بدل { وأن تصوموا } .

وقوله تعالى : { إن كنتم تعلمون } يقتضي الحض على الصوم أي فاعلموا ذلك وصوموا .


[1668]:- في قوله تعالى: [كما كتب على الذين من قبلكم] وفي قوله: [أياما معدودات] تسهيل على المكلفين بالصيام وتطييب نفوسهم فإن العمل الشاق إذا عم وشمل المتقدمين والمتأخرين وكانت أيامه معدودة سهل قبوله وتلقّيه، ومن ثم وقع النهي عن سرد الصيام ووصله.
[1669]:- أي من كل شهر، وسبق أن ذلك نسخ بشهر رمضان.
[1670]:- وهو ما يفهم من الكلام قطعا، ومثل هذه الآية قوله تعالى: [فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية] الخ – أي: فَحَلَقَ لإزالة الأذى ففدية، وهذا هو ما يسمى بفحوى الخطاب عند أكثر الأصوليين.
[1671]:- أي: جاز له الفطر.
[1672]:- أي يشتد عليه وفي بعض النسخ (ويبلغ به) والمراد يجهد به وقد لخص شيخ المالكية المذهب في مختصره بقوله: وبمرض، أي وجاز فطر بمرض خاف زيادته أو تماديه، ووجب إن خاف هلاكا أو شديد أذى. فإذا خاف الزيادة من المرض أو تماديه جاز له الفطر، وإذا خاف الهلاك والأذى وجب عليه الفطر.
[1673]:- على مذهب عمر وابنه جاء قول القائل: إن الصيام لا يجوز في السفر ومَنْ يصم فيه قضى مَهْمَـا حَضَـر حُجَّتُنَـا حديث أفضل البَشَـر (ليْسَ من البِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَــرْ)
[1674]:- يعني أن مذهب مالك في تفضيل الصوم على الفطر وتفضيل القصر على الإتمام حسن، لأن الذمة تبرأ بقصر الصلاة وتبقى مشغولة بالفطر، والمطلوب هو المسابقة إلى الخير وأعمال البر، وهذا ثناء من ابن عطية رحمه الله على نظرية المذهب المالكي.
[1675]:- المراد أنها أربع وعشرون ساعة، والمشهور عند المالكية أنها أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا وتقدر بـ 85 كيلومترا تقريبا.
[1676]:- ليس في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء.
[1677]:- وإنما لم يجر هنا كذلك خوفا من الإلباس وإيهام أنها صفة للعدة لا للأيام، والقاعدة أن جمع مالا يعقل يجوز وصفه بوصف الواحدة المؤنثة، ووصفه بجمعها، فمن الأول: إلا أياما معدودة، ومن الثاني: إلا أياما معدودات.
[1678]:- من الآية (10) من سورة (سبأ).
[1679]:- وفي بعض النسخ: وحكاها النقاش، وأبو عمرو الداني عن عكرمة.
[1680]:- ذكر أربع قراءات: اثنتان بالواو المشددة، واثنتان بالياء المشددة، وقراءة الجمهور، وقراءة حميد، فالمجموع ست قراءات، وحكم ابن عطية على قراءة الياء المشددة بالضعف، قال (ح): وإنما ضعفوا ذلك لأنهم فهموا أن الفعل على وزن تفعل فأشكل ذلك عليهم، وليس كما فهموا، وإنما هو على وزن (تفعيل) من الطوق فأصله تطيْوِقون اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فقيل: (تطيقون) فهذا توجيه هذه القراءة وهو توجيه واضح. البحر المحيط 2-35.
[1681]:- يعني أنه لا يعرف على قراءة الجمع مقدار المساكين في اليوم من نفس الآية، وإنما يعرف ذلك من السنة.
[1682]:- حاصلة أن قراءة (مساكين) فيها مقابلة الجمع بالجمع، وقراءة (مِسْكِين) روعي فيها إفراد العموم.
[1683]:- من الآية (4) من سورة (النور).
[1684]:- كان الحكم عندما فرض الصيام في أول الإسلام أن من أراد أن يصوم صام، ومن أراد أن يطعم أطعم، ثم وقع النسخ بقوله تعالى: [فمن شهد منكم الشهر فليصمه] وهذا هو القول الأول من الأقوال المعروضة في معنى الآية، وقيل: إنها محكمة وهي في الشيوخ والعجز الذين يطيقون الصوم بتكلف، وقيل: إنها في الشيوخ والعجز الذين يطيقون وأفطروا ثم نسخت، وقيل: إنها في الذين لا يستطيعون الصيام من الشيوخ والعجائز فهي إذا محكمة إلا أن الفدية تجب عليهم، وقيل: لا تجب بل تستحب، وقيل: إنها فيمن يدركه رمضان وعليه رمضان سابق فقد كان يطيق الصوم في تلك المدة وتركه فعليه الفدية لتفريطه. فهذه جملة الأقوال، وملخصها يرجع إلى قولنا أهي منسوخة كما قال الجمهور أم محكمة في الشيوخ والعجائز، ويلتحق بذلك الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما ؟ وهذا أحسن من تقدير (لا). قبل (يطيقونه) لأن حذف (لا)، خاص بمواقع القسم، ولموافقة الإثبات لسنة التشريع في الأمور الشاقة على النفوس مثل: الخمر، والربا، والقتال، فكان التخيير بين الصوم والإطعام ثم أفضلية الصوم مع التخيير، ثم تحتيم الصوم بقوله تعالى: [فمن شهد منكم الشهر فليصمه].
[1685]:- الإطاقة: هي القدرة على الفعل بمشقة فادحة، فقوله تعالى: [وعلى الذين يطيقونه] ليس ظاهره مرادا، فقد صرحت الآثار عن الصحابة والتابعين أن موضوع الآية على أنها محكمة فيمن لا يستطيعون الصوم أصلا، لا في الحاضر ولا في المستقبل، وهم الذين عليهم فدية إطعام مسكين عن كل يوم إذا قدروا على الفدية – وأما المرضى الذين يقدرون على قضائه مستقبلا فلا فدية عليهم – والمراد بالمشقة المشقة الجسيمة لا الفكرية والعقلية إذ لم يؤثر عن أحد ممن سلف ما سمي بالمشقة الفكرية، فمن قال: إن من قام بعمل فكري شاق كامتحان له أن يفطر ليس بمصيب، بل الحقيقة هي أن الصوم لا يعوق التفكير ولا يبطئ الفهم، بل يصفي القلب ويدفع بصاحبه إلى التفكير المستقيم، فإن استقامة الفكر في استقامة القلب، وسلامة التفكير في طهارة القلب وسمو الروح – ومن ثَمَّ كان السلف الصالح يلجؤون إلى الصوم لتصفية مرآتهم، واستنارة قلوبهم، وارتقاء مداركهم، فالصوم إنما يضعف صاحبه عن علاقات الجسم، وأما الروح فإنه يقوي مداركها، ويصقل مرآتها – ففي الإنسان عنصران: جسمي وروحي، فالصوم يغلب الروح على الجسم، وإذا غلبت كان إدراكها خيرا من إدراك الممتلئ طعاما وشرابا، والله أعلم.
[1686]:- هذا هو رأي الإمام مالك رحمه الله في الآية، وما أشار إليه ابن عطية رحمه الله من قول الإمام مالك هو قول شيخ المالكية في مختصره: "ووجب إطعام مُدِّه عليه الصلاة والسلام لمفرط في قضاء رمضان لمثله عن كل يوم مسكين" ا هـ.
[1687]:- لتأخر معاد الضمير، وليس المحل لذلك.
[1688]:- أي: بالتطوع، ويعني أنه زاد على ما وجب في المساكين، أو في الطعام تطوعا، بأن أطعم عن كل يوم أكثر من واحد، أو أعطى أكثر من مد لكل مسكين، أو جمع بين الصوم والإطعام، أو جمع بين الخبز واللحم والإدام.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٞ طَعَامُ مِسۡكِينٖۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (184)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

وكان ذلك على الذين من قبلنا {أياما معدودات}: وهي دون الأربعين، فإذا كانت فوق الأربعين فلا يقال لهم: {معدودات}.

{فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية}: أي ومن كان يطيق الصوم، وليس بمريض ولا مسافر، فإن شاء صام، وإن شاء أفطر، وعليه فدية {طعام مسكين}: لكل مسكين نصف صاع حنطة.

{فمن تطوع خيرا}: فزاد على مسكين فأطعم مسكينين أو ثلاثة مكان كل يوم.

{فهو خير له}: من أن يطعم مسكينا واحدا.

{وأن تصوموا خير}: ولأن تصوموا خير {لكم} من الطعام.

{إن كنتم تعلمون}: وكان المؤمنون قبل رمضان يصومون عاشوراء ولا يصومون غيره، ثم أنزل الله عز وجل صوم رمضان بعد، فنسخ الطعام، وثبت الصوم، إلا على من لا يطيق الصوم، فليفطر وليطعم مكان كل يوم مسكينا نصف صاع حنطة...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"كتب عليكم "أيها الذين آمنوا الصيام أياما معدودات. ونصب «أياما» بمضمر من الفعل، كأنه قيل: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم أن تصوموا أياما معدودات.

{كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}: من الصيام، كأنه قيل: كتب عليكم الذي هو مثل الذي كتب على الذين من قبلكم أن تصوموا أياما معدودات.

ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى الله جل وعز بقوله: {أيّاما مَعْدُودَاتٍ} فقال بعضهم: الأيام المعدودات: صوم ثلاثة أيام من كل شهر... وكان ذلك الذي فرض على الناس من الصيام قبل أن يفرض عليهم شهر رمضان. ثم نسخ ذلك بالذي أنزل من صيام رمضان، فهذا الصوم الأول من العتمة.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصام يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم أنزل الله جل وعز فرض شهر رمضان، فأنزل الله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكم الصّيامُ كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} حتى بلغ: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ}.

وقال آخرون: بل الأيام الثلاثة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومها قبل أن يفرض رمضان كان تطوّعا صومهن، وإنما عنى الله جل وعز بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ كمَا كُتِبَ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ... أيّاما مَعْدُوداتٍ} أيام شهر رمضان، لا الأيام التي كان يصومهن قبل وجوب فرض صوم شهر رمضان.

وأولى ذلك بالصواب عندي قول من قال: عنى الله جل ثناؤه بقوله: {أيّاما مَعْدُودَاتٍ}: أيام شهر رمضان، وذلك أنه لم يأت خبر تقوم به حجة بأن صوما فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان، ثم نسخ بصوم شهر رمضان، وأن الله تعالى قد بين في سياق الآية أن الصيام الذي أوجبه جل ثناؤه علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات بإبانته، عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومها بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرآنُ} فمن ادعى أن صوما كان قد لزم المسلمين فرضه غير صوم شهر رمضان الذين هم مجمعون على وجوب فرض صومه ثم نسخ ذلك، سئل البرهان على ذلك من خبر تقوم به حجة، إذ كان لا يعلم ذلك إلا بخبر يقطع العذر. وإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا للذي بينا، فتأويل الآية: كتب عليكم أيها المؤمنون الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات، هي شهر رمضان.

وجائز أيضا أن يكون معناه: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ": كتب عليكم شهر رمضان.

وأما "المعدودات ": فهي التي تعد مبالغها وساعات أوقاتها، ويعني بقوله "معدودات: "محصيات.

{فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ على سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ، وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين.}: من كان منكم مريضا ممن كلف صومه أو كان صحيحا غير مريض وكان على سفر "فعدة من أيام أخر": فعليه صوم عدّة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره من أيام أخر، يعني من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره.

{وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين" فإن قراءة كافة المسلمين:"وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ "وعلى ذلك خطوط مصاحفهم، وهي القراءة التي لا يجوز لأحد من أهل الإسلام خلافها لنقل جميعهم تصويب ذلك قرنا عن قرن. وكان ابن عباس يقرأها فيما رُوِي عنه: «وعلى الّذِينَ يُطَوّقُونَهُ».

ثم اختلف قرّاء ذلك:"وعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ "في معناه، فقال بعضهم: كان ذلك في أوّل ما فرض الصوم، وكان من أطاقه من المقيمين صامه إن شاء، وإن شاء أفطره وافتدى، فأطعم لكل يوم أفطره مسكينا حتى نسخ ذلك.

وقال آخرون: بل كان قوله: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين} حكما خاصا للشيخ الكبير والعجوز اللذين يطيقان الصوم كان مرخصا لهما أن يفديا صومهما بإطعام مسكين ويفطرا، ثم نسخ ذلك بقوله: {فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فلزمهما من الصوم مثل الذي لزم الشاب إلا أن يعجزا عن الصوم فيكون ذلك الحكم الذي كان لهما قبل النسخ ثابتا لهما حينئذ بحاله... وللحبلى والمرضع إذا خافتا.

وقال آخرون ممن قرأ ذلك: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ} لم ينسخ ذلك ولا شيء منه، وهو حكم مثبت من لدن نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة. وقالوا: إنما تأويل ذلك: على الذين يطيقونه في حال شبابهم وحداثتهم، وفي حال صحتهم وقوتهم إذا مرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم فدية طعام مسكين لا أن القوم كان رخص لهم في الإفطار وهم على الصوم قادرون إذا افتدوا...

وقرأ ذلك آخرون: {وَعلى الّذِينَ يُطَوّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين} وقالوا: إنه الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم، فهما يكلفان الصوم ولا يطيقانه، فلهما أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم أفطراه مسكينا. وقالوا: الآية ثابتة الحكم منذ أنزلت لم تنسخ، وأنكروا قول من قال إنها منسوخة.

وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامِ مِسْكِين} منسوخ بقول الله تعالى ذكره: "فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ" لأن الهاء التي في قوله: وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ من ذكر الصيام. ومعناه: وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعام مسكين. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أن من كان مطيقا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوم شهر رمضان فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين، كان معلوما أن الآية منسوخة. هذا مع ما يؤيد هذا القول من الأخبار التي ذكرناها من أنهم كانوا بعد نزول هذه الآية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه وسقوط الفدية عنهم، وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم، وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت: {فَمَنْ شَهدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فألزموا فرض صومه، وبطل الخيار والفدية.

فإن قال قائل: وكيف تدعي إجماعا من أهل الإسلام على أن من أطاق صومه وهو بالصفة التي وصفت فغير جائز له إلا صومه، وقد علمت قول من قال: الحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما لهما الإفطار، وإن أطاقتا الصوم بأبدانهما، مع الخبر الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:

حدثنا به هناد بن السري، قال: حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتغدى فقال: «تَعالَ أُحدّثْكَ، إن اللّهَ وَضَعَ عَنِ المُسافِرِ وَالحامِلِ وَالمُرْضِعِ الصّوْمَ وَشَطْرَ الصّلاة».

قيل: إنا لم نّدع إجماعا في الحامل والمرضع، وإنما ادعينا في الرجال الذين وصفنا صفتهم. فأما الحامل والمرضع فإنما علمنا أنهنّ غير معنيات بقوله: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ} وخلا الرجال أن يكونوا معنيين به لأنهنّ لو كنّ معنيات بذلك دون غيرهن من الرجال لقيل: وعلى اللواتي يطقنه فدية طعام مسكين لأن ذلك كلام العرب إذا أفرد الكلام بالخبر عنهن دون الرجال فلما قيل: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ} كان معلوما أن المعنيّ به الرجال دون النساء، أو الرجال والنساء. فلما صحّ بإجماع الجميع على أن من أطاق من الرجال المقيمين الأصحاء صوم شهر رمضان فغير مرخص له في الإفطار والافتداء، فخرج الرجال من أن يكونوا معنيين بالآية، وعلم أن النساء لم يردن بها لما وصفنا من أن الخبر عن النساء إذا انفرد الكلام بالخبر عنهن وعلى اللواتي يطقنه، والتنزيل بغير ذلك.

وأما الخبر الذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه إن كان صحيحا، فإنما معناه أنه وضع عن الحامل والمرضع الصوم ما دامتا عاجزتين عنه حتى تطيقا فتقضيا، كما وضع عن المسافر في سفره حتى يقيم فيقضيه، لا أنهما أمرتا بالفدية والإفطار بغير وجوب قضاء، ولو كان في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّهَ وَضَعَ عَنِ المُسافِرِ وَالمُرْضِعِ وَالحامِلِ الصّوْمَ» دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عنى أن الله تعالى ذكره وضع عنهم بقوله: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين،} لوجب أن لا يكون على المسافر إذا أفطر في سفره قضاء، وأن لا يلزمه بإفطاره ذلك إلا الفدية لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حكمه وبين حكم الحامل والمرضع، وذلك قول إن قاله قائل خلاف لظاهر كتاب الله ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام.

وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: {وَعلى الّذِينَ يُطِيقُونَه} وعلى الذين يطيقون الطعام، وذلك لتأويل أهل العلم مخالف.

وأما قراءة من قرأ ذلك: «وَعلى الّذِينَ يُطَوّقُونَه» فقراءة لمصاحف أهل الإسلام خلاف، وغير جائز لأحد من أهل الإسلام الاعتراض بالرأي على ما نقله المسلمون وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم نقلاً ظاهرا قاطعا للعذر، لأن ما جاءت به الحجة من الدين هو الحق الذي لا شك فيه أنه من عند الله، ولا يعترض على ما قد ثبت وقامت به حجة أنه من عند الله بالآراء والظنون والأقوال الشاذة.

وأما معنى «الفدية» فإنه الجزاء من قولك: فديت هذا بهذا: أي جزيته به، وأعطيته بدلاً منه.

ومعنى الكلام: وعلى الذين يطيقون الصيام جزاء طعام مسكين لكل يوم أفطره من أيام صيامه الذي كتب عليه.

"فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين": فإن القرّاء مختلفة في قراءته، فبعض يقرأ بإضافة الفدية إلى الطعام، وخفض الطعام وذلك قراءة معظم قرّاء أهل المدينة بمعنى: وعلى الذين يطيقونه أن يفدوه طعام مسكين، فلما جعل مكان أن يفديه الفدية أضيف إلى الطعام، كما يقال: لزمني غرامة درهم لك بمعنى لزمني أن أغرم لك درهما، وآخرون يقرؤونه بتنوين الفدية ورفع الطعام بمعنى الإبانة في الطعام عن معنى الفدية الواجبة على من أفطر في صومه الواجب، كما يقال لزمني غرامةُ درهمٍ لك، فتبين بالدرهم عن معنى الغرامة ما هي وما حدّها، وذلك قراءة عُظْم قرّاء أهل العراق.

وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: «فِديةُ طعَام» بإضافة الفدية إلى الطعامِ، لأن الفدية اسم للفعل، وهي غير الطعام المفدى به الصوم. وذلك أن الفدية مصدر من قول القائل: فديت صوم هذا اليوم بطعام مسكين، أفديه فدية، كما يقال: جلست جلسة، ومشيت مشية، والفدية فعل والطعام غيرها. فإذا كان ذلك كذلك، فبَيّنٌ أن أصحّ القراءتين إضافة الفدية إلى الطعام، وواضح خطأ قول من قال: إن ترك إضافة الفدية إلى الطعام أصحّ في المعنى من أجل أن الطعام عنده هو الفدية. فيقال لقائل ذلك: قد علمنا أن الفدية مقتضية مفديّا ومفديّا به وفدية، فإن كان الطعام هو الفدية والصوم هو المفدى به، فأين اسم فعل المفتدى الذي هو فدية؟ إن هذا القول خطأ بين غير مشكل.

وأما الطعام فإنه مضاف إلى المسكين والقراء في قراءة ذلك مختلفون، فقرأه بعضهم بتوحيد المسكين بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين واحد لكل يوم أفطره... عن أبي عمرو: أنه قرأ «فديةٌ» رفع منون «طعامُ» رفع بغير تنوين «مسكين». وقال: عن كل يوم مسكين. وعلى ذلك عُظْم قرّاء أهل العراق. وقرأه آخرون بجمع المساكين: «فِدْيَةٌ طَعامُ مَساكِين» بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين عن الشهر إذا أفطر الشهر كله.

وأعجب القراءتين إليّ في ذلك قراءة من قرأ "طعامُ مِسكين" على الواحد بمعنى: وعلى الذين يطيقونه عن كل يوم أفطروه فدية طعام مسكين لأن في إبانة حكم المفطر يوما واحدا وصولاً إلى معرفة حكم المفطر جميع الشهر، وليس في إبانة حكم المفطر جميع الشهر وصول إلى إبانة حكم المفطر يوما واحدا وأياما هي أقل من أيام جميع الشهر، وأن كل واحد يترجم عن الجميع وأن الجميع لا يترجم به عن الواحد، فلذلك اخترنا قراءة ذلك بالتوحيد.

واختلف أهل العلم في مبلغ الطعام الذي كانوا يطعمون في ذلك إذا أفطروا، فقال بعضهم: كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم الواحد نصف صاع من قمح.

وقال بعضهم: كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم مدّا من قمح ومن سائر أقواتهم.

وقال بعضهم: كان ذلك نصف صاع من قمح أو صاعا من تمر أو زبيب.

وقال بعضهم: ما كان المفطر يتقوّته يومه الذي أفطره.

وقال بعضهم: كان ذلك سحورا وعشاء يكون للمسكين إفطارا.

{فَمِنْ تَطَوّعَ خَيْرا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ.}: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛

فقال بعضهم:... عن ابن عباس: {فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا} فزاد طعام مسكين آخر فهو خير له. {وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ.}

وقال آخرون: معنى ذلك: فمن تطوّع خيرا فصام مع الفدية.

وقال آخرون: معنى ذلك: فمن تطوّع خيرا فزاد المسكين على قدر طعامه.

والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره عمم بقوله: "فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا" فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض، فإن جمع الصوم مع الفدية من تطوّع الخير وزيادة مسكين على جزاء الفدية من تطوّع الخير.

وجائز أن يكون تعالى ذكره عنى بقوله: {فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرا} أيُّ هذه المعاني تطوّع به المفتدي من صومه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ لأن كل ذلك من تطوّع الخير ونوافل الفضل.

{وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.}: وأنْ تَصُومُوا ما كتب عليكم من شهر رمضان فهو خير لكم من أن تفطروه وتفتدوا.

{إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: إن كنتم تعلمون خير الأمرين لكم أيها الذين آمنوا من الإفطار والفدية أو الصوم على ما أمركم الله به.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

والسفر سفر الطاعة كالحج والجهاد بإجماع، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. وأما سفر التجارة والمباحات فمختلف فيه بالمنع والجواز، والقول بالجواز أرجح، وأما سفر المعاصي فمختلف فيه بالجواز والمنع والقول بالمنع أرجح...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

أما قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} فالمراد منه أن فرض الصوم في الأيام المعدودات إنما يلزم الأصحاء المقيمين فأما من كان مريضا أو مسافرا فله تأخير الصوم عن هذه الأيام إلى أيام أخر

قال القفال رحمه الله: انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف، وأنه تعالى بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمة المتقدمة والغرض منه ما ذكرنا أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت، ثم ثانيا بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم، وهو أنه سبب لحصول التقوى، فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف،

ثم ثالثا: بين أنه مختص بأيام معدودة، فإنه لو جعله أبدا أو في أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة. ثم بين رابعا: أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة. ثم بين خامسا: إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون، فهو سبحانه راعى في إيجاب الصوم هذه الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمه كثيرا...

أما قوله: {إن كنتم تعلمون} أي أن الصوم عليكم فاعلموا صدق قولنا وأن تصوموا خير لكم.

الثاني: أن آخر الآية متعلق بأولها والتقدير كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون أي أنكم إذا تدبرتم علمتم ما في الصوم من المعاني المورثة للتقوى وغيرها مما ذكرناه في صدر هذه الآية.

الثالث: أن العالم بالله لا بد وأن يكون في قلبه خشية الله على ما قال: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} فذكر العلم والمراد الخشية، وصاحب الخشية يراعي الاحتياط، والاحتياط في فعل الصوم، فكأنه قيل: إن كنتم تعلمون الله حتى تخشونه كان الصوم خيرا لكم.

لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :

يقال: إن فريضة رمضان نزلت في السنة الثانية من الهجرة وذلك قبل غزوة بدر بشهر وأيام،... وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان على رأس ثمانية عشر شهراً من الهجرة...

تفسير ابن عرفة 803 هـ :

قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً...} [عن] ابن عطية: قال قوم: متى صدق على المكلف أنه مريض صحّ له الفطر، وقاله ابن سيرين فيمن وجعته أصبعه، فأفطر، وحكاه عنه ابن رشد في مقدماته.

والمراد عند الجمهور] المرض الذي يشق معه الصوم. قال ابن عرفة: سبب الخلاف ما يحكيه المازري وابن بشير من الاختلاف في الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها، فظاهر الآية عندي حجة للجمهور لقول الله {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} ولم يقل: فمن مرض، فظاهره أنه لا يفطر بمطلق المرض بل مرض محقق ثابت يصدق أن يقال في صاحبه كان مريضا لأن « كان» تقتضي الدوام...

الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :

وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184]. يقتضي الحضَّ على الصوْمِ، أي: فاعلموا ذلك وصوموا...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما ساق سبحانه وتعالى الإفطار عند الإطاقة والفدية واجبها ومندوبها مساق الغيبة وترك ذكر الفطر وإن دل السياق عليه إشارة إلى خساسته تنفيراً عنه، جعل أهل الصوم محل حضرة الخطاب إيذاناً بما له من الشرف على ذلك كله ترغيباً فيه وحضاً عليه فقال: {وأن تصوموا} أيها المطيقون {خير لكم} من الفدية وإن زادت.

قال الحرالي: ففيه إشعار بأن الصائم يناله من الخير في جسمه وصحته ورزقه حظ وافر مع عظم الأجر في الآخرة، كما أشار إليه الحديث القدسي:"كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي" وذلك لأنه لما كانت الأعمال أفعالاً وإنفاقاً وسيراً وأحوالاً مما شأن العبد أن يعمله لنفسه ولأهله في دنياه وكان من شأنه كانت له، ولما كان الصوم ليس من شأنه لم يكن له، فالصلاة مثلاً أفعال وأقوال وذلك من شأن المرء والزكاة إنفاق وذلك من شأنه، والحج ضرب في الأرض وذلك من شأنه وليس من شأنه أن لا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا ينتصف ممن يعتدى عليه فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، فليس جملة مقاصد الصوم من شأنه وحقيقته إذبال جسمه وإضعاف نفسه وإماتته، ولذلك كان الصوم كفارة للقتل خطأ لينال بالصوم من قتل نفسه بوجه ما ما جرى على يده خطأ من القتل، فكان في الصوم تنقص ذات الصائم فلذلك قال تعالى: "فإنه لي "حين لم يكن من جنس عمل الآدمي، قال سبحانه وتعالى: "وأنا أجزي به" ففي إشارته أن جزاءه من غيب الله مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كل ذلك في مضمون قوله {إن كنتم تعلمون}

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{أَوْ على سَفَرٍ} مستمرّين عليه، وفيه تلويحٌ ورمزٌ إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يُفطر...

{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ما في صومِكم مع تحقّق المبيحِ للإفطار من الفضيلة، والجوابُ محذوفٌ ثقةً بظهوره أي اخترتموه أو سارعتم إليه، وقيل: معناه إن كنتم من أهلِ العلمِ والتدبُّر علمتم أن الصومَ خيرٌ من ذلك...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم حببهم في اختيار الصوم مع المشقة -في غير سفر ولا مرض -: (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون).. لما في الصوم من خير في هذه الحالة. يبدو منه لنا عنصر تربية الإرادة، وتقوية الاحتمال، وإيثار عبادة الله على الراحة. وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية. كما يبدو لنا منه ما في الصوم من مزايا صحية- لغير المريض -حتى ولو أحس الصائم بالجهد...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

والإطاقة كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: الطاقة: اسم لمقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة..، فقوله تعالى: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به... 286} [البقرة]؛ معناه: ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا...

{فمن تطوع} الفاء هنا للإفصاح، أي إذا كان كتب عليكم الصوم ويسر الله تعالى عليكم بالرخص التي رخص بها فمن تطوع خيرا، أي فمن قصد الطاعة، وتكلفها قاصدا الخير فهو خير يدخره له يوم القيامة، فالتطوع هنا ليس النافلة كما قال الفقهاء فإن ذلك اصطلاح فقهي لا تخضع له عبارات القرآن في دلالاتها، بل تخضع للغة، والآثار النبوية فقط، والتطوع هنا هو المبالغة في الطاعة قاصدا أو طالبا خيرا، فهو خير له...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

"وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تعْلَمُونَ": الظاهر منها بقرينة السياق هو أنها خطاب للذين يجهدهم القضاء، فتباح لهم الفدية، لإعلامهم بأنَّ الفدية، وإن كانت جائزة، إلاَّ أنَّ الصوم خيرٌ لهم إن كانوا يعلمون لما فيه من النتائج الروحية والعملية. وهناك احتمال بأنَّ الفقرة واردة في الحديث عن الصوم، بأنه خير للنّاس في ذاته بحسب فلسفة الصوم في تشريعه من حيث المنافع الكثيرة العائدة إلى النّاس،

وقد جرى أسلوب القرآن على الإتيان بهذه الفقرة بعد كلّ تشريع، لما ورد في قوله سبحانه بعد ذكر وجوب صلاة الجمعة:] يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللّه وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [[الجمعة: 9] وقوله تعالى:] وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللّه وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [[العنكبوت: 16].