القول في تأويل قوله تعالى : { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون }
اختلفت القراء في قراءة قوله : { ينزل الملائكة } فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والكوفة : { ينزل الملائكة } بالياء وتشديد الزاي ونصب الملائكة ، بمعنى ينزل الله الملائكة بالروح ، وقرأ ذلك بعض البصريين وبعض المكيين : " يُنَزِّلُ المَلائٍكَةَ " بالياء وتخفيف الزاي ونصب الملائكة . وحكي عن بعض الكوفيين أنه كان يقرؤه : " تنزل الملائكة " بالتاء وتشديد الزاي والملائكة بالرفع ، على اختلاف عنه في ذلك . وقد روي عنه موافقة سائر قراء بلده .
وأولى القراءات بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ : { ينزل الملائكة } بمعنى : ينزل الله الملائكة . وإنما اخترت ذلك . لأن الله هو المنزل ملائكته بوحيه إلى رسله ، فإضافة فعل ذلك إليه أولى وأحق واخترت " ينزل " بالتشديد على التخفيف ، لأنه تعالى ذكره كان ينزل من الوحي على من نزله شيئا بعد شيء ، والتشديد به إذ كان ذلك معناه أولى من التخفيف .
فتأويل الكلام : ينزل الله ملائكته بما يحيا به الحق ويضمحل به الباطل من أمره { على من يشاء من عباده } يعني على من يشاء من رسله { أن أنذروا } ف " أنْ " الأولى في موضع خفض ، ردا على " الروح " ، والثانية في موضع نصب ب " أنذروا " . ومعنى الكلام : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ، بأن أنذروا عبادي سطوتي على كفرهم بي وإشراكهم في اتخاذهم معي الآلهة والأوثان ، فإنه { لا إله إلا أنا } يقول : لا تنبغي الألوهة إلا لي ، ولا يصلح أن يعبد شيء سواي ، { فاتقون } يقول : فاحذروني بأداء فرائضي وإفراد العبادة وإخلاص الربوبية لي ، فإن ذلك نجاتكم من الهلكة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : { ينزل الملائكة بالروح } يقول : بالوحي .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { ينزل الملائكة بالروح من أمره ، على من يشاء من عباده } يقول : ينزل الملائكة . . . .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ؛ وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ؛ وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ؛ وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { بالروح من أمره } إنه لا ينزل ملك إلا ومعه روح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : قوله : { ينزل الملائكة بالروح من أمره } قال : لا ينزل ملك إلا معه روح { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده } قال : بالنبوة . قال ابن جريج : وسمعت أن الروح خلق من الملائكة نزل به الروح { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } قال : كل كلم تكلم به ربنا فهو روح منه ، { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } [ الشورى : 52 ] . . إلى قوله : { ألا إلى الله تصير الأمور } [ الشورى : 53 ] .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ينزل الملائكة بالروح من أمره } يقول : ينزل بالرحمة والوحي من أمره ، { على من يشاء من عباده } فيصطفي منهم رسلا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده } قال : بالوحي والرحمة .
وأما قوله : { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } فقد بينا معناه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } إنما بعث الله المرسلين أن يوحد الله وحده ، ويطاع أمره ، ويجتنب سخطه .
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «ينزّل » بالياء وشد الزاي ، ورجحها الطبري لما فيها من التكثير ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الزاي مكسورة وسكون النون ، وقرأ ابن أبي عبلة بالنون التي للعظمة وشد الزاي ، وقرأ قتادة بالنون وتخفيف الزاي وسكون النون ، وفي هذه والتي قبلها شذوذ كثير{[7242]} ، وقرأ أبو عمرو عن عاصم «تُنزَّل الملائكةُ » بضم التاء وفتح النون والزاي وشدها ورفع «الملائكة » على ما لم يسم فاعله ، وهي قراءة الأعمش ، وقرأ الجحدري بالتاء مضمومة وسكون النون وفتح الزاي ، وقرأ الحسن وأبو العالية وعاصم الجحدري والأعرج بفتح التاء ورفع «الملائكةُ » على أنها فاعلة ، ورواها المفضل عن عاصم ، و { الملائكة } هنا جبريل : واختلف المتأولون في { الروح } فقال مجاهد ، { الروح } النبوة ، وقال ابن عباس : الوحي ، وقال قتادة : بالرحمة والوحي ، وقال الربيع بن أنس : كلا كلام الله روح ، ومنه قوله تعالى { أوحينا إليك روحاً من أمرنا }{[7243]} [ الشورى : 52 } وقال ابن جريج : الروح شخص له صورة كصورة بني آدم ما نزل جبريل قط إلا وهو معه ، وهو كثير ، وهم ملائكة ، وهذا قول ضعيف لم يأت به سند ، وقال الزجاج : { الروح } ما تحيى به قلوب من هداية الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن ، فكأن اللفظة على جهة التشبيه بالمقايسة إلى الأوامر التي هي في الأفعال والعبادات كالروح للجسد ، ألا ترى قوله { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً }{[7244]} [ الأنعام : 122 ] .
قال القاضي أبو محمد : و { من } في هذه الآية على هذا التأويل الذي قدرنا للتبعيض ، وعلى سائر الأقوال لبيان الجنس ، و { من } في قوله { من يشاء } هي للأنبياء ، و { أن } في موضع خفض بدل من { الروح } ، ويصح أن تكون في موضع نصب بإسقاط الخافض على تقدير بأن أنذروا ، ويحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي ، وقرأ الأعمش «لينذروا أنه » ، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيه خوف من حيث كان المنذرون كافرين بالألوهية ، ففي ضمن أمرهم مكان خوف ، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه ووعيد ، ثم ذكر تعالى ما يقال للأنبياء بالوحي على المعنى ، ولم يذكره على لفظه لأنه لو ذكره على اللفظ لقال «أن أنذروا أنه لا إله إلا الله » ، ولكنه إنما ذكر ذلك على معناه ، وهذا سائغ في الأقوال إذا حكيت أن تحكى على لفظها ، أو تحكى بالمعنى فقط .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.