جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا} (142)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوَاْ إِلَى الصّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَىَ يُرَآءُونَ النّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِيلاً } . .

قد دللنا فيما مضى قبل على معنى خداع المنافق ربه ووجه خداع الله إياهم ، بما أغني عن إعادته في هذا الموضع ، مع اختلاف المختلفين في ذلك .

فتأويل ذلك : إن المنافقين يخادعون الله باحرازهم بنفاقهم دماءهم وأموالهم ، والله خادعهم بما حكم فيهم من منع دمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان ، مع علمه بباطن ضمائرهم ، واعتقادهم الكفر ، استدراجا منه لهم في الدنيا حتى يلقوه في الاَخرة ، فيوردهم بما استنبطنوا من الكفر نار جهنم . كما :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ } قال : يعطيهم يوم القيامة نورا يمشون به مع المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا ، ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه ، فيقومون في ظلمتهم ويضرب بينهم بالسور .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : { إنّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ } قال : نزلت في عبد الله بن أبيّ ، وأبي عامر بن النعمان ، وفي المنافقين¹ يخادعون الله وهو خادعهم ، قال : مثل قوله في البقرة : { يُخادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَما يُخادِعُونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ } . قال : وأما قوله : { وَهُوَ خادِعُهُمْ } فيقول : في النور الذي يعطي المنافقون مع المؤمنين ، فيعطون النور ، فإذا بلغوا السور سلب ، وما ذكرا لله من قوله : { انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } قال : قوله : { وَهُوَ خادِعُهُمْ } .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحسن ، أنه كان إذا قرأ : { إنّ المُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ } قال : يُلْقَى على كلّ مؤمن ومنافق نور يمشون به ، حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفيء نور المنافقين ، ومضي المؤمنين بنورهم ، فينادونهم : { انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } . . . إلى قوله : { وَلَكِنّكُمْ فَتَنْتُمْ أنْفُسَكُمْ } قال الحسن : فتلك خديعة الله إياهم .

وأما قوله : { وَإذَا قامُوا إلى الصّلاةِ قامُوا كُسَالى يُرَاءُونَ النّاسَ } فإنه يعني : أن المنافقين لا يعملون شيئا من الأعمال التي فرضها الله على المؤمنين على وجه التقرب بها إلى الله ، لأنهم غير موقنين بمعاد ولا ثواب ولا عقاب ، وإنما يعملون ما عملوا من الأعمال الظاهرة بقاء على أنفسهم وحذارا من المؤمنين عليها أن يقتلوا أو يسلبوا أموالهم ، فهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة ، قاموا كسالى إليها ، رياءً للمؤمنين ، ليحسبوهم منهم وليسوا منهم¹ لأنهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم ، فهم في قيامهم إليها كسالي . كما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإذَا قامُوا إلى الصّلاةِ قامُوا كُسَالى } قال : والله لولا الناس ما صلى المنافق ولا يصلي إلا رياء وسمعة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَإذَا قامُوا إلى الصّلاةِ قامُوا كُسَالى يُرَاءونَ النّاسَ } قال : هم المنافقون ، لولا الرياء ما صلوا .

وأما قوله : { وَلا يَذْكُرونَ اللّهَ إلاّ قَلِيلاً } فلعلّ قائلاً أن يقول : وهل من ذكر الله شيء قليل ؟ قيل له : إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت ، إنما معناه : ولا يذكرون الله إلا ذكرا رياء ، ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلب الأموال ، لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد الله مخلص له الربوبية ، فلذلك سماه الله قليلاً ، لأنه غير مقصود به الله ولا مُبْتَغَي به التقرّب إلى الله ، ولا مرادا به ثواب الله ، وما عنده فهو وإن كثر من وجه نَصَب عامله ، وذاكره في معنى السراب الذي له ظاهر بغير حقيقة ماء .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي الأشهب ، قال : قرأ الحسن : { وَلا يَذْكُرونَ اللّهَ إلاّ قَلِيلاً } قال : إنما قلّ لأنه كان لغير الله .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلا يَذْكُرونَ اللّهَ إلاّ قَلِيلاً } قال : إنما قلّ ذكر المنافق لأن الله لم يقبله ، وكلّ ما ردّ الله قليل وكلّ ما قبل الله كثير .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا} (142)

ومخادعة المنافقين هي لأولياء الله تعالى ، إذ يظنونهم غير أولياء ، ففي الكلام حذف مضاف ، وإلزام ذنب اقتضته أفعالهم ، وإن كانت نياتهم لم تقتضه ، لأنه لا يقصد أحد من البشر مخادعة الله تعالى وقوله { وهو خادعهم } أي منزل الخداع بهم وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب ، فعقوبتهم في الدنيا ذلهم وخوفهم وغم قلوبهم ، وفي الآخرة عذاب جهنم ، وقال السدي وابن جريج والحسن وغيرهم من المفسرين : إن هذا الخدع هو أن الله تعالى يعطي لهذه الأمة يوم القيامة نوراً لكل إنسان مؤمن أو منافق ، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا ، فإذا جاؤوا إلى الصراط طفىء نور كل منافق ، ونهض المؤمنون بذاك ، فذلك قول المنافقين «انظرونا نقتبس من نوركم »{[4341]} وذلك هو الخدع الذي يجري على المنافقين ، وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي «وهو خادعْهم » بإسكان العين وذلك على التخفيف ثم ذكر تعالى كسلهم في القيام إلى الصلاة ، وتلك حال كل من يعمل العمل كارهاً غير معتقد فيه الصواب تقية أو مصانعة ، وقرأ ابن هرمز الأعرج «كَسالى » بفتح الكاف ، وقرأ جمهور الناس «يرءّون » بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو دون ألف ، وهي تعدية رأى بالتضعيف وهي أقوى في المعنى من { يراءون } لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم ، ويتظاهرون لهم بالصلاة وهم يبطنون النفاق ، وتقليله ذكرهم يحتمل وجهين ، قال الحسن : قل لأنه كان لغير الله ، فهذا وجه ، والآخر أنه قليل بالنسبة إلى خوضهم في الباطل وقولهم الزور والكفر .


[4341]:- من الآية (13) من سورة (الحديد).