جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ مّنَ اللّهْوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَاللّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ } .

يقول تعالى ذكره : وإذا رأى المؤمنون عير تجارة أو لهوا انْفَضّوا إلَيْها يعني أسرعوا إلى التجارة وَتَركُوكَ قائما يقول للنبيّ صلى الله عليه وسلم : وتركوك يا محمد قائما على المنبر وذلك أن التجارة التي رأوها فانفضّ القوم إليها ، وتركوا النبيّ صلى الله عليه وسلم قائما كانت زيتا قدم به دحية بن خليفة من الشام . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل السديّ ، عن أبي مالك ، قال : قدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه ، قال : فنزلت وَإذَا رَأَوْا تِجارَةً أوْ لَهْوا انْفَضّوا إلَيْها وَتَرَكُوكَ قائما .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ ، عن قرة إذَا نُودِيَ للصّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ قال : جاء دحية الكلبي بتجارة والنبيّ صلى الله عليه وسلم قائم في الصلاة يوم الجمعة ، فتركوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وخرجوا إليه ، فنزلت وَإذَا رَأَوْا تِجارَةً أوْ لَهْوا انْفَضّوا إلَيْها وَتَرَكُوكَ قائما حتى ختم السورة .

حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عبثر ، قال : حدثنا حصين ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة ، فمرّت عير تحمل الطعام ، قال : فخرج الناس إلا اثني عشر رجلاً ، فنزلت آية الجمعة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن : إن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر ، فقدمت عير والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فسمعوا بها ، فخرجوا والنبيّ صلى الله عليه وسلم قائم ، كما قال الله عزّ وجلّ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله وَإذَا رَأَوْا تِجارَةً أوْ لَهْوا انْفَضّوا إلَيْها وَتَرَكُوكَ قائما قال : جاءت تجارة فانصرفوا إليها ، وتركوا النبيّ صلى الله عليه وسلم قائما وإذا رأوا لهوا ولعبا قُلْ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللّهْوِ وَمِنَ التّجارَةِ وَاللّهُ خَيْرُ الرازِقينَ .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وإذَا رَأَوْا تجارَةً أوْ لَهْوا انْفَضّوا إلَيْها قال : رجال كانوا يقومون إلى نواضحهم وإلى السفر يبتغون التجارة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة ، فجعلوا يتسللون ويقومون حتى بقيت منهم عصابة ، فقال : كم أنتم ؟ فعدّوا أنفسهم فإذا اثنا عشر رجلاً وامرأة ثم قام في الجمعة الثانية فجعل يخطبهم قال سفيان : ولا أعلم إلا أن في حديثه ويعظهم ويذكرهم ، فجعلوا يتسللون ويقومون حتى بقيت عصابة ، فقال : كم أنتم ، فعدّوا أنفسهم ، فإذا اثنا عشر رجلاً وامرأة ثم قام في الجمعة الثالثة فجعلوا يتسللون ويقومون حتى بقيت منهم عصابة ، فقال كم أنتم ؟ فعدّوا أنفسهم ، فإذا اثنا عشر رجلاً وامرأة ، فقال : «وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوِ اتّبَعَ آخِرُكمْ أوّلكمْ لالْتَهَبَ عَلَيْكُمُ الوَادي نارا » وأنزل الله عزّ وجلّ : وَإذَا رَأَوْا تِجارَةً أوْ لَهْوا انْفَضّوا إلَيْها وَتَركُوكَ قائما » .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله انْفَضوا إلَيْها وَتَركُوكَ قَائما قال : لو اتبع آخرهم أوّلهم لالتهب عليهم الوادي نارا .

قال : ثنا ابن ثور ، قال معمر ، قال قتادة : لم يبق مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة معهم .

حدثنا محمد بن عمارة الرازي ، قال : حدثنا محمد بن الصباح ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن سالم وأبي سفيان ، عن جابر ، في قوله وَتَرَكُوكَ قائما قال : قدمت عير فانفضّوا إليها ، ولم يبق مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَمُلى ، قال : حدثنا جرير ، عن حصين ، عن سالم ، عن جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة ، فجاءت عير من الشام ، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً ، قال : فنزلت هذه الاَية في الجمعة وَإذَا رَأَوْا تِجارَةَ أوْ لَهْوا انْفَضّوا إلَيْها وَتَركُوكَ قائما .

وأما اللهو ، فإنه اختُلف من أيّ أجناس اللهو كان ، فقال بعضهم : كان كَبَرا ومزامير . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن سهل بن عسكر ، قال : حدثنا يحيى بن صالح ، قال : حدثنا سليمان بن بلال ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كان الجواري إذا نكحوا كانوا يمرّون بالكبر والمزامير ويتركون النبيّ صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر ، وينفضون إليها ، فأنزل الله وَإذَا رَأَوْا تِجارَةَ أوْ لَهْوا انْفَضّوا إلَيْها .

وقال آخرون : كان طبلاً . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : اللهو : الطبل .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا الأشيب ، قال : حدثنا ورقاء ، قال : ذكر عبد الله بن أبي نجيح ، عن إبراهيم بن أبي بكير ، عن مجاهد أن اللهو : هو الطبل .

والذي هو أولى بالصواب في ذلك الخبر الذي رويناه عن جابر ، لأنه قد أدرك أمر القوم ومشاهدهم .

وقوله : قُلْ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللّهْوِ وَمِنَ التّجارَةِ يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد الذي عند الله من الثواب ، لمن جلس مستمعا خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وموعظته يوم الجمعة إلى أن يفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ، خير له من اللهو ومن التجارة التي ينفضون إليها وَاللّهُ خَيْرُ الرازِقِينَ يقول : والله خير رازق ، فإليه فارغبوا في طلب أرزاقكم ، وإياه فأسألوا أن يوسع عليكم من فضله دون غيره .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

وقوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً } الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً على المنبر يخطب يوم الجمعة ، فأقبلت عير من الشام تحمل ميرة{[11100]} وصاحب أمرها دحية بن خليفة الكلبي ، قال مجاهد : وكان من عرفهم أن يدخل عير الميرة بالطبل والمعازف والصياح سروراً بها ، فدخلت العير بمثل ذلك ، فانفض أهل المسجد إلى رؤية ذلك وسماعه وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر ولم يبق معه غير اثني عشر رجلاً . قال جابر بن عبد الله : أنا أحدهم .

قال القاضي أبو محمد : ولم تمر بي تسميتهم في ديوان فيما أذكر{[11101]} الآن ، إلا إني سمعت أبي رضي الله عنه يقول : هم العشرة المشهود لهم بالجنة ، واختلف في الحادي عشر ، فقيل : عمار بن ياسر ، وقيل : عبد الله بن مسعود ، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي : بقي معه ثمانية نفر ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لولا هؤلاء لكانت الحجارة سومت على المنفضين من السماء »{[11102]} ، وفي حديث آخر : «والذي نفس محمد بيده ، لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد ، لسال عليكم الوادي ناراً »{[11103]} وقال قتادة : بلغنا أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات ، لأن قدوم العير كان يوافق يوم الجمعة يشبه أن المراحل كانت تعطي ذلك .

وقال تعالى : { إليها } ولم يقل تهمماً بالأهم ، إذ هي كانت سبب اللهو ولم يكن اللهو سببها{[11104]} ، وفي مصحف ابن مسعود : «ومن التجارة للذين اتقوا والله خير الرازقين » . وتأمل إن قدمت التجارة مع الرؤية لأنها أهم وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولاً على الأبين ، وهذه الآية ، قيام الخطيب ، وأول من استراح في الخطبة عثمان ، وأول من جلس معاوية وخطب جالساً ، والرازق صفة فعل ، وقد يتصف بها بعض البشر تجوزاً إذا كان سبب رزق الحيوان ، { والله } تعالى { خير الرازقين } .

كمل تفسير سورة الجمعة والحمد لله كثيراً .


[11100]:الميرة: الطعام يجمع للسفر ونحوه.
[11101]:روى أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد حديثا مرسلا فيه أسماؤهم، وجاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق معه إلا أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، وبلال، وعبد الله بن مسعود في إحدى روايتين، وفي الرواية الأخرى عمار ابن ياسر رضوان الله عليهم أجمعين.
[11102]:أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان، وقد ذكر فيه قصة العير التي قدمت مع دحية يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر، وفي آخره:(فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: لولا هؤلاء-يعني الذين بقوا في المسجد عند النبي صلى الله عليه وسلم-لقصدت إليهم الحجارة من السماء، ونزل {قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين}.) (الدر المنثور).
[11103]:أخرجه عبد بن حميد عن الحسن، وأخرج مثله عن قتادة، كذلك أخرج مثله البيهقي في شعب الإيمان.(الدر المنثور).
[11104]:قال أبو حيان في البحر المحيط:"وقرئ [إليهما] بالتثنية للضمير، كقوله تعالى:{إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما}، وتخرجه على أن يُتجوّز بـ[أو] فتكون بمعنى "الواو".