{ يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ فَأَمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمّا الّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه . وأما قوله : { فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } فإن معناه : فأما الذين اسودّت وجوههم ، فيقال لهم : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } . ولا بدّ ل «أمّا » من جواب بالفاء ، فلما أسقط الجواب سقطت الفاء معه ، وإنما جاز ترك ذكر «فيقال » لدلالة ما ذكر من الكلام عليه . وأما معنى قوله جلّ ثناؤه : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عُني به ، فقال بعضهم : عُني به أهل قبلتنا من المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه } . . . الاَية ، لقد كفر أقوام بعد إيمانهم كما تسمعون ، ولقد ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ ، لَيَرِدَنّ عَليّ الحَوْضَ مِمّنْ صَحِبَنَي أقْوَامٌ ، حتى إذَا رُفِعُوا إليّ ورأيْتُهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي ، فلأَقُولَنّ رَبّ أصحابِي أصحَابِي ، فَلَيُقالَنّ إنّكَ لا تَدْرِي ما أحْدَثُوا بَعْدَكَ » . وقوله : { وأمّا الّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ } هؤلاء أهل طاعة الله والوفاء بعهد الله ، قال الله عز وجل : { فَفِي رحْمة اللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ } .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن حماد بن سلمة والربيع بن صبيح ، عن أبي مجالد ، عن أبي أمامة : { فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُم بَعْدَ إيَمانِكُمْ } قال : هم الخوارج .
وقال آخرون : عنى بذلك كل من كفر بالله بعد الإيمان الذي آمن حين أخذ الله من صلب آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم بما بين في كتابه . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عليّ بن الهيثم ، قال : أخبرنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب ، في قوله : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه } قال : صاروا يوم القيامة فريقين ، فقال لمن اسودّ وجهه وعيرهم : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } قال : هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم ، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم ، وأقرّوا كلهم بالعبودية ، وفطرهم على الإسلام ، فكانوا أمة واحدة مسلمين ، يقول : أكفرتم بعد إيمانكم ، يقول بعد ذلك الذي كان في زمان آدم ، وقال في الاَخرين : الذين استقاموا على إيمانهم ذلك ، فأخلصوا له الدين والعمل ، فبيض الله وجوههم ، وأدخلهم في رضوانه وجنته .
وقال آخرون : بل الذين عنوا بقوله : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } : المنافقون . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه } . . . الاَية ، قال : هم المنافقون كانوا أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم ، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم .
وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار ، وأن الإيمان الذي يوبخون على ارتدادهم عنه ، هو الإيمان الذي أقرّوا به يوم قيل لهم : { ألَسْتُ بِرَبّكُمْ قالُوا بَلَى شَهِدْنا } . وذلك أن الله جلّ ثناؤه جعل جميع أهل الاَخرة فريقين : أحدهما سوداء وجوهه ، والاَخر بيضاء وجوهه ، فمعلوم إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان أن جميع الكفار داخلون في فريق من سوّد وجهه ، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بيض وجهه ، فلا وجه إذا لقول قائل عنى بقوله : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } بعض الكفار دون بعض ، وقد عمّ الله جلّ ثناؤه الخبر عنهم جميعهم ، وإذا دخل جميعهم في ذلك ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها ، ثم ارتدوا كافرين بعد إلا حالة واحدة ، كان معلوما أنها المرادة بذلك .
فتأويل الاَية إذا : أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيضّ وجوه قوم ، وتسودّ وجوه آخرين¹ فأما الذين اسودّت وجوههم ، فيقال : أجحدتم توحيد الله وعهده وميثاقه الذي واثقتموه عليه ، بأن لا تشركوا به شيئا ، وتخلصوا له العبادة بعد إيمانكم ، يعني : بعد تصديقكم به ، { فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } يقول : بما كنتم تجحدون في الدنيا ما كان الله قد أخذ ميثاقكم بالإقرار به والتصديق¹ وأما الذين ابيضت وجوههم ممن ثبت على عهد الله وميثاقه ، فلم يبدل دينه ، ولم ينقلب على عقبيه بعد الإقرار بالتوحيد ، والشهادة لربه بالألوهة ، وأنه لا إله غيره { ففي رَحْمَةِ اللّهِ } يقول : فهم في رحمة الله ، يعني في جنته ونعيمها ، وما أعدّ الله لأهلها فيها ، { هُمْ فيها خَالِدُونَ } أي باقون فيها أبدا بغير نهاية ولا غاية .
{ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } نصب بما في لهم من معنى الفعل ، أو بإضمار اذكر . وبياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه . وقيل يوسم أهل الحق ببياض الوجه والصحيفة وإشراق البشرة وسعي النور بين يديه وبيمينه ، وأهل الباطل بأضداد ذلك . { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } على إرادة القول أي فيقال لهم أكفرتم ، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم ، وهم المرتدون أو أهل الكتاب كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه ، أو جميع الكفار كفروا بعدما أقروا به حين أشهدهم على أنفسهم أو تمكنوا من الإيمان بالنظر في الدلائل والآيات . { فذوقوا العذاب } أمر إهانة . { بما كنتم تكفرون } بسبب كفركم أو جزاء لكفركم .
يجوز أن يكون { يوم تبيض وجوه } منصوباً على الظرف ، متعلّقاً بما في قوله { لهم عذاب } من معنى كائنٍ أو مستقرّ : أي يكون عذاب لهم يوم تبيضّ وجوه وتسْودّ وجوه ، وهذا هو الجاري على أكثر الاستعمال في إضافة أسماء الزمان إلى الجُمل . ويجوز أن يكون منصوباً على المفعول به لفعل اذْكر محذوفاً ، وتكون جملة { تبيضّ وجوه } صفة ل ( يوم ) على تقدير : تبيضّ فيهِ وجوه وتسودّ فيه وجوه .
وفي تعريف هذا اليوم بحصول بياض وجوه وسواد وجوه فيه ، تهويل لأمره ، وتشويق لما يرِد بعده من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضّة ، والوجوه المسودّة : ترهيباً لفريق وترغيباً لفريق آخر . والأظهر أن عِلْم السامعين بوقوع تبييض وجوه وتسويد وجوه في ذلكَ اليوم حاصل من قبل : في الآيات النازلة قبل هذه الآية ، مثل قوله تعالى : { ويوم القيامة ترى الَّذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة } [ الزمر : 60 ] وقوله : { وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترَة } [ عبس : 38 41 ] .
والبياض والسواد بياض وسواد حقيقيان يوسم بهما المؤمن والكافر يوم القيامة ، وهما بياض وسواد خاصّان لأن هذا م أحوال الآخرة فلا داعي لصرفه عن حقيقته .
وقوله تعالى : { فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } تفصيل للإجمال السابق ، سُلك فيه طريق النشَّر المعكوس ، وفيه إيجاز لأنّ أصل الكلام ، فأمّا الَّذين اسودّت وجوههم فهم الكافرون يقال لهم أكفرتم إلى آخره : { وأمّا الَّذين ابيضّت وجوههم فهم المؤمنون وفي رحمة الله هم فيها خالدون } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.