وقوله : { الّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ } يعني بذلك : الشيطان الوسواس ، الذي يوسوس في صدور الناس : جنهم وإنسهم .
فإن قال قائل : فالجنّ ناس ، فيقال : الذي يوسوس في صدور الناس : من الجنة والناس . قيل : قد سماهم الله في هذا الموضع ناسا ، كما سماهم في موضع آخر رجالاً ، فقال : { وَأنّهُ كَانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الجِنّ } ، فجعل الجنّ رجالاً ، وكذلك جعل منهم ناسا .
وقد ذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدّث ، إذ جاء قوم من الجنّ فوقفوا ، فقيل : من أنتم ؟ فقالوا : ناس من الجنّ ، فجعل منهم ناسا ، فكذلك ما في التنزيل من ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ من } شر { الجنة والناس } يعنى الجن والإنس ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله : { الّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ } يعني بذلك : الشيطان الوسواس ، الذي يوسوس في صدور الناس : جنهم وإنسهم .
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أما وسواس الجِنة فهو وسواس الشيطان على ما قدمناه . وأما وسواس الناس ففيه وجهان : أحدهما : أنها وسوسة الإنسان من نفسه ، قاله ابن جريج . الثاني : أنه إغواء من يغويه من الناس .
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
{ من الجنة } أي : من الجن . وقوله : { والناس } أي : ومن الناس . والمعنى : أنه أمره بالاستعاذة من شياطين الجن والإنس ، والشيطان كل متمرد ، سواء كان جنيا أو إنسيا ...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
{ من الجنة والناس } بيان للذي يوسوس ، وأنهم نوعان : إنس وجن . فالجني يوسوس في صدور الإنس ، والإنسي أيضا يوسوس في صدور الإنس . فالموسوس نوعان : إنس وجن ، فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب . وهذا مشترك بين الجن والإنس ، وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن ، والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة ؛ لأنه يدخل في ابن آدم ، ويجري منه مجرى الدم ....
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ من الجنة } أي الجن الذين في غاية الشر والتمرد والخفاء { والناس } أي أهل الاضطراب والذبذبة ، سواء كانوا من الإنس أو الجن ، فيكون المعنى أن الجن مسلط بعضهم على بعض ، كما هم مسلطون على الإنس أو الجن ، فيدخل شيطان الجن في الجني كما يدخل في الإنسي ، ويوسوس له ...
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
ومن دقائق القرآن ولطائفه في البلاغة ، أنه يقدم أحد الاسمين المتلازمين في آية ، لسر من أسرار البلاغة يقتضيها ذلك المقام ، ثم يؤخر ذلك المقدم في آية أخرى ، لسر آخر : فيقدم السماء على الأرض في مقام ، ويؤخرها عليها في مقام آخر . ومن هذا الباب تقديم الإنس على الجن ، في آية الأنعام ؛ لأن معرض الكلام في عداوتهم للأنبياء ، وهي من الإنس أظهر ، ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح . شياطين الإنس أخطر : وفي آية " الناس " قدم الجنة على الناس ؛ لأن الحديث عن الوسوسة ، وهي من شياطين الجن أخفى وأدق ، وإن كانت من شياطين الإنس أعظم وأخطر وأدهى وأمر : فشيطان الجن يستخدم شيطان الإنس للشر والإفساد ، فيربى عليه ويكون شرا منه ؛ لأنه بمثابة السلاح الذي يفتك به ؛ ورب كلمة واحدة صغيرة يوحيها جني لإنسي ، ويوسوس إليه بتنفيذها ، فتتولد منها فتن ، ويتمادى شره من قرن إلى قرن ، ومن جيل إلى جيل . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ووسوسة الجنة نحن لا ندري كيف تتم ، ولكنا نجد آثارها في واقع النفوس وواقع الحياة . ونعرف أن المعركة بين آدم وإبليس قديمة قديمة ؛ وأن الشيطان قد أعلنها حربا تنبثق من خليقة الشر فيه ، ومن كبريائه وحسده وحقده على الإنسان ! وأنه قد استصدر بها من الله إذنا ، فأذن فيها - سبحانه - لحكمة يراها ! ولم يترك الإنسان فيها مجردا من العدة . فقد جعل له من الإيمان جنة ، وجعل له من الذكر عدة ، وجعل له من الاستعاذة سلاحا . . فإذا أغفل الإنسان جنته وعدته وسلاحه فهو إذن وحده الملوم ! ....
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتكرير كلمة { الناس } في هذه الآيات المرتين الأوليين باعتبار معنى واحد إظهارٌ في مقام الإِضمار لقصد تأكيد ربوبية الله تعالى ومِلكه وإلهيته للناس كلهم كقوله تعالى : { يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب } [ آل عمران : 78 ] . وأما تكريره المرة الثالثة بقوله : { في صدور الناس } فهو إظهار لأجل بُعد المعاد . وأما تكريره المرة الرابعة بقوله : { من الجنة والناس } فلأنه بيان لأحد صنفي الذي يوسوس في صدور الناس ، وذلك غير ما صَدْق كلمة { الناس } في المرّات السابقة .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تنبيه على حقيقة هامّة هي إن «الوسواس الخناس » لا ينحصر وجوده في مجموعة معينة ، ولا في فئة خاصّة ؛ بل هو موجود في الجن والإنس . . . في كل جماعة وفي كل ملبس ، فلابدّ من الحذر منه أينما كان ، والاستعاذة بالله منه في كل أشكاله وصوره . أصدقاء السوء ، والجلساء المنحرفون ، وأئمة الظلم والضلال ، والولاة الجبابرة الطواغيت ، والكتاب والخطباء الفاسدون ، والمدارس الإِلحادية... ملاحظات:
ـ لماذا نستعيذ بالله ؟ ! الإَنسان معرض للانحراف في كل لحظة ، وحين يأمر الله نبيّه أن يستعيذ به من شر «الوسواس الخناس» ، فإن ذلك دليل على إمكان الوقوع في شراك الموسوسين الخناسين . مع أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مأمن من الانحراف بفضل الله ومدده الغيبي ، وخضوعه التام لله ، فالآيات تأمره أن يستعيذ بالله من شرّ الوسواس الخناس ، فما بالك بغيره من النّاس ! ولا يجوز للإِنسان أن ييأس أمام مخاوف الموسوسين . فملائكة الله تهبّ للأخذ بناصية المؤمنين والسائرين على طريق الله . فالمؤمنون ليسوا وحيدين في ساحة صراع الحق مع الباطل ؛ بل ملائكة الله في عونهم :{ إن الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة } . ولكن ، على أي حال ، لا يجوز للإِنسان أن يغتَرّ وأن يحسب نفسه غنياً عن الموعظة والتذكير والإِمداد الإِلهي . يجب الاستعاذة به سبحانه دائماً ، ويجب أن يكون الإِنسان على وعي وحذر باستمرار .
ـ لماذا تكررت كلمة «النّاس» ؟ في سبب تكرار كلمة «النّاس» في السّورة ، قيل : إن كل واحدة منها لها معنى خاص . ولكن يظهر أن التكرار تأكيد على عمومية هذه الصفات الثلاث الإِلهية ، وهي في المواضع الثلاثة بمعنى واحد .
اعلم أن لهذه السورة لطيفة أخرى : وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة وهي أنه رب الفلق ، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات ، وهي الغاسق والنفاثات والحاسد. وأما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة : وهي الرب والملك والإله، والمستعاذ منه آفة واحدة ، وهي الوسوسة ، والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب ، فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن ، والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين ، وهذا تنبيه على أن مضرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وفي هذ السورة دعوةٌ إلى الإنسان ليستعيذ من هذا الوسواس الخنّاس الذي يشكِّل خطراً على التزامه الفكري والعملي ، وعلى سلامته في الدنيا والآخرة . وليتطلّع إلى الله رَبِّ النَّاسِ وملِك النّاس وإِلَهِ النَّاسِ ، ليجد فيه العون كلّ العون ، والقوّة كل القوّة ، وليستشعر ضعف هذا الوسواس الخنّاس أمام الله ، وأمام الوسائل التي وضعها بين يدي الإنسان ليحميه من شرّه ، ولينقذه من حبائله ومن مكره وخداعه ووسوسته وتثبيطه ، ومن كل مكائده . وهذا هو أسلوب التربية الروحية الوجدانية التي يريد الإسلام أن يؤكدها في شخصية الإنسان المؤمن ، ليؤكد قوّة الموقف لديه ، وثبات الإيمان في نفسه ، واستقامة الطريق في حياته . وهو أن يرجع إلى الله في إحساسٍ عميقٍ بقوّته التي تحميه من قوّة الآخرين ، وبرحمته التي تفيض على روحه حبّاً وأماناً وسلاماً وخيراً وبركةً ، فتمنحه الطمأنينة الروحية ، والثبات الواقعي في الحياة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.