ثم أخذ نوح - عليه السلام - فى تفنيد شبهاتهم ، وفى دحض مفترياتهم ، وفى تعريفهم بحقيقة أمره فقال : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الغيب وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ . . . }
والخزائن : جمع خزانة - بكسر الخاء - وهو المكان الذى يخزن فيه الماء أو الطعام أو غيرهما خشية الضياع ، والمراد منها هنا : أنواع رزقه - سبحانه - التى يحتاج إليها عباده ، وأضيفت إليه - سبحانه - لاختصاصه بها . وملكيته لها .
أى : إنى لا أقول لكم إن النبوة التى وهبنى الله إياها ، تجعلنى أملك خزائن أرزاقه - سبحانه - فأصير بذلك من الأثرياء ، وأعطى من أشاء بغير حساب . . .
كلا . إنى لا أملك شيئا من ذلك ، وإنما أنا عبد الله ورسوله ، أرسلنى لأخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان .
وهذه الجملة الكريمة رد على قولهم السابق ! { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } وأيضا لا أقول لكم إنى أعلم الغيوب التى اختص الله بعلمها ، فأدعى قدرة ليست للبشر ، أو أزعم أن لى صلة بالله - تعالى - غير صلة النبوة - أو أدعى الحكم على قلوب الناس وعلى منزلتهم عند الله ، كما ادعيتم أنتم فقلتم { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } ولم يكتف نوح - عليه السلام - بهذا الرد المبطل لدعاواهم الفاسدة ، بل أضاف إلى ذلك - كما حكى القرآن عنه - { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الغيب وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إني إِذاً لَّمِنَ الظالمين } .
وقوله : { تزدري } من الازدراء بمعنى التحقير والانتقاص ، يقال : ازدرى فلان فلانا إذا احتقره وعابه .
أى : أنا لا أقول لكم بأنى أملك خزائن الله ، أو بأنى أعلم الغيب ، أو بأنى ملك من الملائكة ، ولا أقول لكم - أيضا - فى شأن الذين تنظرون إليهم نظرة احتقار واستصغار : إنهم - كما تزعمون - { لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً } يسعدهم فى دينهم ودنياهم وآخرتهم ، بل أقول لكم إنه - سبحانه - سيؤتيهم ذلك - إذا شاء - لأنه - سبحانه - هو الأعلم بما فى نفوسهم من خير أو شر - أما أنا فلا علم لى إلا بظواهرهم التى تدل على إيمانهم وإخلاصهم ؛ و { إني إِذاً لَّمِنَ الظالمين } لنفسى ولغيري إذا ادعيت أية دعوى من هذه الدعاوى .
قال البيضاوى ما ملخصه ، وأسند - سبحانه - الازدراء إلى الأعين فى قوله { تزدري أَعْيُنُكُمْ } للمبالغة والتنبيه على أنهم استرذلوهم بادى الرؤية - أى بمجرد نظرهم إليهم - من غير روية بسبب ما عينوه من رثاثة حالهم وقلة منالهم ، دون نأمل فى معانيهم وكمالاتهم .
وهذا الإِسناد من باب المجاز العقلى ، لأن الازدراء ينشأ عن مشاهدة الصفات الحقيرة " فى نظر الناظر " فتكون الأعين سببا فى هذا الازدراء .
وأكد جملة { إني إِذاً لَّمِنَ الظالمين } بعدة مؤكدات ، تحقيقا لظلم كل من يدعى شيئا من هذه الدعاوى ، وتكذيبا لأولئك الكافرين الذين احتقروا المؤمنين ، وزعموا أن الله - تعالى - لن يؤتيهم خيرا .
وهكذا نجد نوحا - عليه السلام - يشرح لقومه بأسلوب مهذب حكيم حقيقة أمره ، ويرد على شبهاتهم بما يزهقها . . .
هذا تفصيل لما ردّ به مقالة قومه إجمالاً ، فهم استدلوا على نفي نبُوّته بأنهم لم يروا له فضلاً عليهم ، فجاء هو في جوابهم بالقول بالموجَب أنه لم يدع فضلاً غير الوحي إليه كما حكى الله عن أنبيائه عليهم السّلام في قوله : { قالت لهم رسلهم إن نحن إلاّ بشر مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده } [ إبراهيم : 11 ] ، ولذلك نفى أن يكون قد ادّعى غير ذلك . واقتصر على بعض ما يتوهّمونه من لوازم النبوءة وهو أن يكون أغنى منهم ، أو أن يعلم الأمور الغائبة . والقول بمعنى الدعوى ، وإنما نفى ذلك بصيغة المضارع للدّلالة على أنّه منتف عنه ذلك في الحال ، فأما انتفاؤه في الماضي فمعلوم لديهم حيث لم يقله ، أي لا تظنوا أني مضمر ادّعاء ذلك وإن لم أقله .
والخزائن : جمع خِزانة بكسر الخاء وهي بيت أو مِشكاة كبيرة يجعل لها باب ، وذلك لِخزن المال أو الطعام ، أي حفظه من الضياع . وذكر الخزائن هنا استعارة مكنية ؛ شبهت النعم والأشياء النافعة بالأموال النفيسة التي تُدخر في الخزائن ، ورمز إلى ذلك بذكر ما هو من روادف المشبّه به وهو الخزائن . وإضافة { خزائن } إلى { الله } لاختصاص الله بِها .
وأما قوله : { ولا أقول إني ملك } فنفي لشبهة قولهم : { ما نراك إلاّ بشراً مثلنا } [ هود : 27 ] ولذلك أعاد معه فعل القول ، لأنه إبطال دعوى أخرى ألصقوها به ، وتأكيده ب ( إنّ ) لأنه قول لا يقوله قائله إلا مؤكداً لشدة إنكاره لو ادعاه مدّع ، فلما نفاه نفى صيغة إثباته . ولمّا أراد إبطال قولهم : { وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا } [ هود : 27 ] أبطله بطريقة التغليط لأنهم جعلوا ضعفهم وفقرهم سبباً لانتفاء فضلهم ، فأبطله بأن ضعفهم ليس بحائل بينهم وبين الخير من الله إذ لا ارتباط بين الضعف في الأمور الدنيوية من فقر وقلة وبين الحرمان من نوال الكمالات النفسانية والدينية ، وأعاد معه فعل القول لأنه أراد من القول معنى غيرَ المراد منه فيما قيل ، فالقول هنا كناية عن الاعتقاد لأن المرء إنما يقول ما يعتقد ، وهي تعريضية بالمخاطبين لأنهم يضمون ذلك ويقدرونه .
والازدراء : افتعال من الزري وهو الاحتقار وإلصاق العيب ، فأصله : ازتراء ، قلبت تاء الافتعال دالاً بعد الزاي كما قلبت في الازدياد .
وإسناد الازدراء إلى الأعين وإنما هو من أفعال النفس مجاز عقلي لأن الأعين سبب الازدراء غالباً ، لأن الازدراء ينشأ عن مشاهدة الصفات الحقيرة عند الناظر . ونظيره إسناد الفرق إلى الأعين في قول الأعشى :
كذلك فافعل ما حييت إذا شتَوْا *** وأقدم إذا ما أعينُ الناس تَفرَقُ
ونظيره قوله تعالى : { سَحروا أعْينَ الناس } [ الأعراف : 116 ] وإنما سحروا عقولهم ولكن الأعين ترى حركات السحرة فتؤثر رؤيتها على عقول المبصرين .
وجيء في النفي بحرف { لن } الدّالة على تأكيد نفي الفعل في المستقبل تعريضاً بقومه لأنّهم جعلوا ضعف أتباع نوح عليه السّلام وفقرهم دليلاً على انتفاء الخير عنهم فاقتضى دوام ذلك ما داموا ضعفاء فقراء ، فلسان حالهم يقول : لن ينالوا خيراً ، فكان رده عليهم بأنه لا يقول : { لن يؤتيهم الله خيراً } .
وجملة { الله أعلم بما في أنفسهم } تعليل لنفي أن يقول : { لن يؤتيهم الله خيراً } . ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف ، ومعنى { الله أعلم بما في أنفسهم } أن أمرهم موكول إلى ربهم الذي علم ما أودعه في نفوسهم من الخير والذي وفقهم إلى الإيمان ، أي فهو يعاملهم بما يعلم منهم . وتعليقه بالنفوس تنبيه لقومه على غلطهم في قولهم : { وما نرى لكم علينا من فضل } [ هود : 27 ] بأنهم نظروا إلى الجانب الجثماني الدنيوي وجهلوا الفضائل والكمالات النفسانية والعطايا اللدنية التي اللّهُ أعلم بها .
واسم التفضيل هنا مسلوبُ المفاضلة مقصود منه شدة العلم .
وجملة { إني إذن لمن الظالمين } تعليل ثان لنفي أن يقول : { لن يؤتيهم الله خيراً } . و { إذن } حرف جواب وجزاء مجازاة للقَول ، أي لو قلت ذلك لكنت من الظالمين ، وذلك أنه يظلمهم بالقضاء عليهم بما لا يعلم من حقيقتهم ، ويظلم نفسه باقتحام القول بما لا يصدق .
وقوله : { لمن الظالمين } أبلغ في إثبات الظلم من : إني ظالم ، كما تقدم في قوله تعالى : { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } في سورة [ البقرة : 67 ] .
وأكده بثلاث مؤكدات : إنّ ولام الابتداء وحرف الجزاء ، تحقيقاً لظلم الذين رموا المؤمنين بالرذالة وسلبوا الفضل عنهم ، لأنه أراد التعريض بقومه في ذلك . وسيجيء في سورة الشعراء ذكر موقف آخر لنوح عليه السلام مع قومه في شأن هؤلاء المؤمنين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا أقول لكم عندي خزائن الله}، يعني مفاتيح الله بأنه يهدي السفلة دونكم، {ولا أعلم الغيب} يقول: ولا أقول لكم عندي غيب ذلك إن الله يهديهم، وذلك قول نوح في الشعراء: {وما علمي بما كانوا يعملون} [الشعراء:112] ثم قال لهم نوح: {ولا أقول} لكم {إني ملك} من الملائكة، إنما أنا بشر، لقولهم: {ما نراك إلا بشرا مثلنا} [هود:27] إلى آخر الآية. {ولا أقول للذين تزدري أعينكم} يعني السفلة، {لن يؤتيهم الله خيرا}، يعني إيمانا، وإن كانوا عندكم سفلة، {الله أعلم بما في أنفسهم}، يعني بما في قلوبهم... من الإيمان، قال نوح: {إني إذا لمن الظالمين} إن لم أقبل منهم الإيمان...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وَلا أقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّهِ" عطف على قوله: "وَيا قَوْمِ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرا "ومعنى الكلام: ويا قوم لا أسألكم عليه أجرا، ولا أقول لكم عندي خزائن الله التي لا يفنيها شيء، فأدعوَكم إلى اتباعي عليها. "وَلا أعْلَمُ" أيضا "الغَيْبَ" يعني ما خفي من سرائر العباد، فإن ذلك لا يعلمه إلا الله، فأدّعي الربوبية وأدعوكم إلى عبادتي. "وَلا أقُولُ" أيضا "إنّي مَلَكٌ" من الملائكة أرسلت إليكم، فأكون كاذبا في دعواي ذلك، بل أنا بشر مثلكم كما تقولون، أُمرت بدعائكم إلى الله، وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم. "وَلا أقُولُ للّذِينَ تَزْدَرِي أعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُم اللّهُ خَيْرا" يقول: ولا أقول للذين اتبعوني وآمنوا بالله ووحدوه، الذين تستحقرهم أعينكم، وقلتم إنهم أراذلكم: "لن يؤتيكم الله خيرا"، وذلك الإيمان بالله. "اللّهُ أعْلَمُ بِمَا فِي أنْفُسِهِمُ" يقول: الله أعلم بضمائر صدورهم واعتقاد قلوبهم، وهو وليّ أمرهم في ذلك، وإنما لي منهم ما ظهر وبدا، وقد أظهروا الإيمان بالله واتبعوني، فلا أطردهم ولا أستحلّ ذلك. "إنّي إذا لِمِنَ الظّالِمِينَ" يقول: إني إن قلت لهؤلاء الذين أظهروا الإيمان بالله وتصديقي: لن يؤتَيهم الله خيرا، وقضيت على سرائرهم بخلاف ما أبدته ألسنتهم لي على غير علم مني بما في نفوسهم وطردتهم بفعلي ذلك، لَمِن الفاعلين ما ليس لهم فعله المعتدين ما أمرهم الله به وذلك هو الظلم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ) يخرج على وجوه:
أحدها: يقول: ليس عندي خزائن الله والسعة، فأبذل لكم لتؤمنوا رغبة في المال والسعة.
والثاني: يقول: ليس عندي سعة، فيقع عندكم أني أدعوكم إلى ما أدعوكم إليه افتعالا لا رغبة في المال على ما يفعل المفتعلون للرغبة في المال، ولكن لتعلموا أني مكلف في ذلك...
وقوله تعالى: (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) هذا القول منه لهم يحتمل الوجهين:
...والثاني: أنه قال ذلك على إثر أسئلة كانت منهم من نحو قولهم: (لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) [الآية: 12] وقولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة) [الإسراء: 90و91] وقولهم: (أو يكون لك بيت من زخرف) [الإسراء: 93] وأمثال ما كان منهم، فيقول لهم: ليس عندي، وبيدي، إنما ذلك عند الله وبيده.
وقوله تعالى: (ولا أعلم الغيب) يحتمل أن يكونوا سألوه أن يخبرهم عن أمور تستقبلهم قبل أن تستقبلهم، إن كانت شرا يعدوا له في دفعه، وإن كانت منافع يستقبلوها ويتأهبوا لها. فيقول لهم: ذا غيب، فأنا لا أعلم الغيب، إنما العلم في ذلك إلى الله...
ويحتمل أن يكون قال لهم الرسول هذا لدفع الشبه عنهم؛ وذلك أن من الكفار من اتخذ الرسول إلها، فعبدوه بعدما عاينوا أنه من البشر، ومنهم من قال: إنه ابن الله، ومنهم من قال: إنه ملك، وكانوا يعبدون الملائكة، وكان يخبرهم عن أشياء غابت عنهم، وظنوا أنه إنما علم ذلك لأنه إله، فيقول لهم ذلك ليدفع عنهم تلك الشبه، ويتبرأ من ذلك.
ولذلك قال عيسى: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا) (وجعلني مباركا) [مريم: 30و31] هو عليه السلام كان يعلم في نفسه أنه عبد الله، ولكن يقول لئلا ينسبوه إلى الألوهية والربوبية على ما نسبوا إليه، فأقر بالعبودية له، والله أعلم بذلك.
وقال بعض أهل التأويل: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) أي مفاتيح الله بأن يهدي السفلة دونكم (ولا أعلم الغيب) أي لا أقول: إن عندي غيب ذلك إن الله يهديهم، وهم مؤمنون في السر. وذلك كقوله: (وما علمي بما كانوا يعملون) [الشعراء: 112] وقوله: (الله أعلم بما في أنفسهم) من الصدق (ولا أقول إني ملك) أي إنما أنا بشر كقولهم: (ما نراك إلا بشرا) [الآية: 27] إلى آخر الآية.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً} أي ليس لاحتقاركم لهم يبطل أجرهم أو ينقص ثوابهم، وكذلك لستم لعلوكم في الدنيا تزدادون على أجوركم.
{اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} يعني أنه يجازيهم عليه ويؤاخذهم به...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...والمعنى: إني لا أرفع نفسي فوق قدرها، فأدعي أن عندي خزائن الله من الأموال فأعطيكم منها وأستطيل عليكم بها، أو أقول إني أعلم الغيب، أو أقول لكم إني ملك روحاني غير مخلوق من ذكر وأنثى بخلاف ما خلقني الله، بل أنا بشر مثلكم وانما خصني الله بالرسالة وشرفني بها. وقيل معنى خزائن الله مقدوراته لأنه يوجد منها ما يشاء، وفي وصفها بذلك بلاغة. وقيل "لا أقول لكم عندي خزائن الله "فادعوكم إلى أن أعطيكم منها، ذكره ابن جريح...
و (الغيب): ذهاب الشيء عن الادراك، ومنه الشاهد خلاف الغائب. وإذا قيل: علم الغيب معناه علم من غير تعلم، وهو جميع الغيب، وعلى هذا لا يعلم الغيب إلا الله تعالى...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا أتخطَّى خَطِّي عما أبلغ مما حملتُ من رسالتي، ولا أتعدى ما كُلِّفْتُ به، ولا أزيد عما أُمِرْتُ، ولن أخرجَ عن الذي أنبأوني، بل أنتصب بشاهدي فيما أقاموني...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ومعناه: لا أقول لكم: عندي خزائن الله فأدعي فضلا عليكم في الغنى، حتى تجحدوا فضلي بقولكم {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} [هود: 27] ولا أدعي علم الغيب حتى تنسبوني إلى الكذب والافتراء، أو حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي وضمائر قلوبهم {وَلا أَقُولُ إِنّي مَلَكٌ} حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا، ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن الله لن يؤتيهم خيراً في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه، كما تقولون، مساعدة لكم ونزولاً على هواكم {إِنّي إِذًا لَّمِنَ الظالمين} إن قلت شيئاً من ذلك...
أي كما لا أسألكم، فكذلك لا أدعي أني أملك مالا ولا لي غرض في المال لا أخذا ولا دفعا، ولا أعلم الغيب حتى أصل به إلى ما أريد لنفسي ولا أتباعي، ولا أقول إني ملك حتى أتعظم بذلك عليكم، بل طريقي الخضوع والتواضع ومن كان هذا شأنه وطريقه فإنه لا يستنكف عن مخالطة الفقراء والمساكين، ولا يطلب مجالسة الأمراء والسلاطين، وإنما شأنه طلب الدين وسيرته مخالطة الخاضعين والخاشعين، فلما كانت طريقتي توجب مخالطة الفقراء، فكيف جعلتم ذلك عيبا علي، ثم إنه أكد هذا البيان بطريق رابع فقال: {ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم} وهذا كالدلالة على أنهم كانوا ينسبون أتباعه مع الفقر والذلة إلى النفاق فقال: إني لا أقول ذلك، لأنه من باب الغيب والغيب لا يعلمه إلا الله، فربما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله ملك الآخرة فأكون كاذبا فيما أخبرت به، فإني إن فعلت ذلك كنت من الظالمين لنفسي ومن الظالمين لهم في وصفهم بأنهم لا خير لهم مع أن الله تعالى آتاهم الخير في الآخرة...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
أودع الله قلوب أتباع رسله سرا من أسرار معرفته ومحبته، والإيمان به خفي على أعداء الرسل، فنظروا إلى ظواهرهم، وعموا عن بواطنهم، فازدروهم واحتقروهم وقالوا للرسول: أبعد هؤلاء عنك حتى نأتيك ونسمع منك، وقالوا: {أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} [الأنعام: 53] فقال نوح عليه السلام لقومه: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم} [هود: 31]...
والذي يظهر من الآية: أن الله يعلم ما في أنفسهم إذ أهلهم لقبول دينه وتوحيده، وتصديق رسله، والله سبحانه وتعالى عليم حكيم، يضع العطاء في مواضعه... فإنهم أنكروا أن يكون الله سبحانه أهلهم للهدى، والحق، وحرمه رؤساء الكفار وأهل العزة منهم والثروة، كأنهم استدلوا بعطاء الدنيا على عطاء الآخرة، فأخبر الله سبحانه أنه أعلم بمن يؤهله لذلك، لسر عنده من معرفة قدر النعمة ورؤيتها من مجرد فضل المنعم ومحبته وشكره عليها، وليس كل أحد عنده هذا السر، فلا يؤهل كل أحد لهذا العطاء...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان نفيهم للفضل شاملاً للأموال وعلم الغيب، أقرهم على ذلك منبهاً على خطئهم فيه بأنه لم يقل بينهم قط ما يكون سبباً له، فقال عاطفاً على قوله {لا أسئلكم عليه أجراً}؛ {ولا أقول لكم} أي في وقت من الأوقات {عندي خزائن الله} أي الملك الأعظم فأتفضل عليكم بها؛ ولما كان من الجائز أن يمكن الله من يشاء من خزائن الأرزاق ونحوها فيسوغ له أن يطلق ملك ذلك مجازاً، ولا يجوز أن يمكنه من علم الغيب، وهو ما غاب عن الخلق كلهم، لأنه خاصته سبحانه، قال عاطفاً على {أقول} لا على المقول: {ولا أعلم الغيب} لا حقيقة ولا مجازاً فأعلم وقت ما توعدون به أو ما في قلوب المؤمنين مما قد يتوهم به من السوء، وأعلمهم أنه لا مانع من إرسال البشر بقوله: {ولا أقول إني ملك} فتكون قوتي أفضل من قوتكم أو خلقي أعظم قدراً من خلقكم ونحو ذلك من الفضل الصوري الذي جعلتموه هو الفضل، فلا تكون الآية دليلاً على أفضلية الملائكة، وتقدم في الأنعام سر إسقاطه {لكم}. ولما كان تعريضهم بنفي الملكية عنه من باب الإزراء، أتبعه تأكيد قبوله لمن آمن كائناً من كان وإن ازدروه بقوله: {ولا أقول للذين} أي لأجل الذين {تزدري} أي تحتقر {أعينكم} أي تقصرون به عن الفضل عند نظركم له وتعيبونه {لن يؤتيهم الله} أي الذي له الكمال كله {خيراً} ولما كان كأنه قيل: ما لك لا تقول ذلك؟ أجاب بما تقديره: لأني أعلم ضمائرهم ولا أحكم إلا على الظاهر: {الله} أي المحيط بكل شيء {أعلم} أي حتى منهم {بما في أنفسهم} ومن المعلوم أنه لا يظلم أحداً، فمن كان في نفسه خير جازاه عليه... ثم علل كفه عن ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم ظلمه على ذلك التقدير: {إني إذاً} أي إذا قلت لهم ذلك {لمن الظالمين} أي العريقين في وضع الشيء في غير موضعه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك} هذا معطوف على قوله:"لا أسألكم عليه أجرا" ولهذا لم يكرر النداء فيه. وهذه الثلاث التي نفاها نوح عليه السلام عن نفسه هي التي كان يظن المشركون من قومه وممن بعدهم أن ثبوتها لازم لمن كان نبيا مرسلا من الله تعالى إن صحت دعواه، وإلا كان كسائر البشر لا فضل له عليهم، ومن ثم كان نفيها متضمنا لرد شبهة حجتهم الثالثة، ولهذا أمر الله تعالى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بنفيها عن نفسه في سورة الأنعام [50] ونختصر في تفسيرها هنا لتفصيله هنالك.
{أما خزائن الله} تعالى فالمراد منها أنواع رزقه التي يحتاج إليها عباده للإنفاق منها كما قال: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا} [الإسراء: 100] والمعنى: لا أقول لكم بادعائي للنبوة والرسالة إن عندي خزائن رزق الله تعالى أتصرف فيها بغير وسائل الأسباب المسخرة لسائر الناس، بحيث أنفق على نفسي وعلى من اتبعني بالتصرف فيها بخوارق العادات، بل أنا وغيري من البشر في كسبها سواء إذ ليست من موضوع الرسالة ولا من خصائصها ووظائفها، ولو كانت كذلك لاتبع الناس الرسل لأجلها، لا لما بعثوا لأجله من تزكية الأنفس بمعرفة الله وعبادته، وتأهيلها للقائه تعالى ومثوبته في دار كرامته.
وأما علم الغيب فالمراد به امتياز النبي على سائر البشر بعلم ما لا يصل إليه علمهم الكسبي من مصالحهم ومنافعهم ومضارهم في معايشهم وكسبهم فيخبر بها أتباعه ليفضلوا غيرهم بالتبع له، ولهذا أمر الله خاتم النبيين أن يقول لقومه {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} [الأعراف: 188] وقال بعض المفسرين إن نفي ادعائه الغيب يتضمن الرد على قولهم في اتباعه أنهم اتبعوه بادي الرأي من غير تفكر ولا استدلال فهم غير موقنين بإيمانهم، وإنما يظنون ظنا، فهو يقول: إنه لم يعط علم الغيب فيحكم على بواطنهم وإنما أمر أن يأخذ بالظاهر، والله هو الذي يعلم السرائر، وهذان الأمران اللذان نفاهما كتاب الله عن رسله يثبتهما مبتدعة المسلمين وأهل الكتاب لمن يسمونهم الأولياء والقديسين منهم، وقد بينا بطلان هذا مرارا.
وأما نفي كونه ملكا فهو داحض لشبهتهم أن الرسول من الله إلى البشر يجب أن يفضلهم ويمتاز عليهم، وإذن لا بد أن يكون ملكا من ملائكة الله يعلم ما لا يعلم البشر ويقدر على ما لا يقدر عليه البشر، وهذه المسألة مفصلة ومكررة في سورة الأنعام وبينا في خلاصة تفسيرها من (جزء التفسير الثامن) جملة ما جاء فيها مع شواهده من غيرها في ذلك تحت عنوان (شبهات الكفار على الوحي والرسالة) فراجعها.
{ولا أقول للذين تزدري أعينكم} الازدراء افتعال من الزراية، يقال زرى على فلان يزري زرية وزراية [بالكسر] إذا عابه واستهزأ به، وأزرى به إزراء تهاون به، أي ولا أقول في شأن الذين تنظرون إليهم نظر الاستصغار والاحتقار فتزدريهم أعينكم لفقرهم ورثاثتهم {لن يؤتيهم الله خيرا} كما تقولون أنتم والمراد بالخير ما وعد على الإيمان والهدى من سعادة الدنيا والآخرة، ويراجع تفسير ما حكى الله عن كفار قريش بقوله: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه} [الأحقاف: 11] وغير هذا مما في معناه.
{الله أعلم بما في أنفسهم} مما آتاهم من الإيمان على بصيرة، واتباع رسوله بإخلاص وصدق سريرة، خلافا لما زعمتم من اتباعي بادي الرأي بغير بصيرة ولا علم {إني إذا لمن الظالمين} أي إني إذا قلت ذلك فيهم لمن الظالمين؛ إذ أكون ظالما لنفسي بالتقول على الله غير ما أعلمه عنه من وعد المؤمنين بخير الدنيا والآخرة، وظالما للمؤمنين المحسنين بهضم حقهم، ويجوز أن يكون المعنى: إني إذا قلت شيئا مما نفيته من أول الآية بأن ادعيت أني أملك التصرف في خزائن رزق الله ورحمته بالعطاء والمنع أو أعلم الغيب الخ لمن زمرة الظالمين الراسخين في الظلم، لا من الأنبياء المرسلين المعتصمين بالحق والعدل، وفي هذا التعليل لاجتناب ما ذكر تعريض بالمخاطبين، يدل على أنهم من الظالمين، وبهذا تمت حجته عليه السلام عليهم، ودحضه لجميع شبهاتهم، ولذلك قالوا قول المعترف بالعجز، المنتهي به عجزه إلى حد اليأس: {قال يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (32)}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يقدم لهم شخصه ورسالته مجردين عن كل زخرف وكل طلاء وكل قيمة من تلك القيم العرضية الزائفة. يقدمها لهم في معرض التذكير، ليقرر لهم القيم الحقيقية، ويزدري أمامهم القيم الظاهرية، بتخليه عنها، وتجرده منها. فمن شاء الرسالة كما هي، بقيمها، بدون زخرف، بدون ادعاء، فليتقدم إليها مجردة خالصة لله... وهكذا ينفي نوح -عليه السلام- عن نفسه وعن رسالته كل قيمة زائفة وكل هالة مصطنعة يتطلبها الملأ من قومه في الرسول والرسالة. ويتقدم إليهم بها مجردة إلا من حقيقتها العظيمة التي لا تحتاج إلى مزيد من تلك الأعراض السطحية. ويردهم في نصاعة الحق وقوته، مع سماحة القول ووده إلى الحقيقة المجردة ليواجهوها، ويتخذوا لأنفسهم خطة على هداها. بلا ملق ولا زيف ولا محاولة استرضاء على حساب الرسالة وحقيقتها البسيطة. فيعطي أصحاب الدعوة في أجيالها جميعا، نموذجا للداعية، ودرسا في مواجهة أصحاب السلطان بالحق المجرد، دون استرضاء لتصوراتهم، ودون ممالأة لهم، مع المودة التي لا تنحني معها الرؤوس!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا تفصيل لما ردّ به مقالة قومه إجمالاً، فهم استدلوا على نفي نبُوّته بأنهم لم يروا له فضلاً عليهم، فجاء هو في جوابهم بالقول بالموجَب أنه لم يدع فضلاً غير الوحي إليه كما حكى الله عن أنبيائه عليهم السّلام في قوله: {قالت لهم رسلهم إن نحن إلاّ بشر مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده} [إبراهيم: 11]، ولذلك نفى أن يكون قد ادّعى غير ذلك. واقتصر على بعض ما يتوهّمونه من لوازم النبوءة وهو أن يكون أغنى منهم، أو أن يعلم الأمور الغائبة. والقول بمعنى الدعوى، وإنما نفى ذلك بصيغة المضارع للدّلالة على أنّه منتف عنه ذلك في الحال، فأما انتفاؤه في الماضي فمعلوم لديهم حيث لم يقله، أي لا تظنوا أني مضمر ادّعاء ذلك وإن لم أقله...
وذكر الخزائن هنا استعارة مكنية؛ شبهت النعم والأشياء النافعة بالأموال النفيسة التي تُدخر في الخزائن، ورمز إلى ذلك بذكر ما هو من روادف المشبّه به وهو الخزائن. وإضافة {خزائن} إلى {الله} لاختصاص الله بِها...
وجيء في النفي بحرف {لن} الدّالة على تأكيد نفي الفعل في المستقبل تعريضاً بقومه لأنّهم جعلوا ضعف أتباع نوح عليه السّلام وفقرهم دليلاً على انتفاء الخير عنهم فاقتضى دوام ذلك ما داموا ضعفاء فقراء، فلسان حالهم يقول: لن ينالوا خيراً، فكان رده عليهم بأنه لا يقول: {لن يؤتيهم الله خيراً}...
وجملة {الله أعلم بما في أنفسهم} تعليل لنفي أن يقول: {لن يؤتيهم الله خيراً}...
وتعليقه بالنفوس تنبيه لقومه على غلطهم في قولهم: {وما نرى لكم علينا من فضل} [هود: 27] بأنهم نظروا إلى الجانب الجثماني الدنيوي وجهلوا الفضائل والكمالات النفسانية والعطايا اللدنية التي اللّهُ أعلم بها...
وجملة {إني إذن لمن الظالمين} تعليل ثان لنفي أن يقول: {لن يؤتيهم الله خيراً}. و {إذن} حرف جواب وجزاء مجازاة للقَول، أي لو قلت ذلك لكنت من الظالمين، وذلك أنه يظلمهم بالقضاء عليهم بما لا يعلم من حقيقتهم، ويظلم نفسه باقتحام القول بما لا يصدق. وقوله: {لمن الظالمين} أبلغ في إثبات الظلم من: إني ظالم، كما تقدم في قوله تعالى: {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} في سورة [البقرة: 67]. وأكده بثلاث مؤكدات: إنّ ولام الابتداء وحرف الجزاء، تحقيقاً لظلم الذين رموا المؤمنين بالرذالة وسلبوا الفضل عنهم، لأنه أراد التعريض بقومه في ذلك...