التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفٗاۖ وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ لَرَجَمۡنَٰكَۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡنَا بِعَزِيزٖ} (91)

ولكن القوم كانوا قد بلغوا من الفساد نهايته ، ومن الجهل أقصاه . . . فقد ردوا على هذه النصائح الغالية بقولهم : { قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ . . . }

أى : قال قوم شعيب له على سبيل التحدى والتكذيب : يا شعيب إننا لا نفهم الكثير من قولك ، لأنه قول لم نألفه ولم تتقبله نفوسنا ، ولقد أطلت فى دعوتنا إلى عبادة الله وترك النقص فى الكيل والميزان حتى مللنا دعوتك وسئمناها ، وصارت ثقيلة على مسامعنا ، وخافية على عقولنا . .

فمرادهم بهذه الجملة الاستهانة ، به والصدود عنه ، كما يقول الرجل لمن لا يعبأ بحديثه : لا أدرى ما تقوله ، ولا أفهم ما تتفوه به من ألفاظ .

قال أبو السعود ما ملخصه : والفقه : معرفة غرض المتكلم من كلامه ، أى : ما نفهم مرادك وإنما قالوا ذلك بعد أن سمعوا منه دلائل الحق البين على أسحن وجه وأبلغه ، وضاقت عليهم الحيل ، فلم يجدوا إلى محاورته سبيلا . . . كما هو ديدن المفحم المحجوج ، يقابل النصائح البينات بالسب والإِبراق والإِرعاد . . . إذ جعلوا كلامه المشتمل على الحكم من قبيل ما لا يفهم معناه . . .

ثم قالوا له - ثانيا - { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } أى : لا قوة لك إلى جانب قوتنا ، ولا قدرة عندك على مقاومتنا إن أردنا قتلك أو طردك من قريتنا .

ثم قالوا له . . ثانيا - { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } ورهط الرجل : قومه وعشيرته الأقربون . ومنه الراهط لحجر اليربوع ، لأنه يحتمى فيه . . .

ولفظ ( الرهط ) اسم جمع يطلق غالبا على العصابة دون العشرة من الرجال ليس فيهم أمرأة .

أى : ولولا عشيرتك التى هى على ملتنا وشريعتنا لرجمناك بالحجارة حتى تموت ، ولكن مجاملتنا لعشيرتك التى كفرت بك هى التى جعلتنا نبقى عليك .

ثم قالوا له - رابعا - { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أى : وما أنت علينا بمكرم أو محبوب أو قوى حتى نمتنع عن رجمك ، بل أنت فينا الضعيف المكروه . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفٗاۖ وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ لَرَجَمۡنَٰكَۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡنَا بِعَزِيزٖ} (91)

والفقه : الفهم . وتقدّم عند قوله تعالى : { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } في سورة [ النّساء : 78 ] ، وقوله : { انظر كيف نصرّف الآيات لعلّهم يفقهون } في سورة [ الأنعام : 65 ] .

ومرادهم من هذا يحتمل أن يكون قصد المباهتة كما حكى الله عن المشركين { وقالوا قلوبنا في أكنةٍ ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا وقْرٌ } [ فصلت : 5 ] وقوله عن اليهود : { وقالوا قلوبنا غلفٌ } [ البقرة : 88 ] . ويجوز أن يكون المراد ما نتعقّله لأنه عندهم كالمحال لمخالفته ما يألفون ، كما حكى الله عن غيرهم بقوله : { أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيءٌ عجابٌ } [ ص : 5 ] ، وليس المراد عدم فهم كلامه لأنّ شعيباً عليه السّلام كان مقوالاً فصيحاً ، ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه خطيب الأنبياء .

فالمعنى : أنك تقول مَا لاَ نصدق به . وهذا مقدمة لإدانته واستحقاقه الذم والعقاب عندهم في قولهم : { ولولا رهطك لرجمناك } ، ولذلك عطفوا عليه { وإنّا لنراك فينا ضعيفاً } أي وإنّك فينا لضعيف ، أي غير ذي قوّة ولا منعة . فالمراد الضعف عن المدافعة إذا راموا أذَاهُ وذلك ممّا يُرى لأنّه تُرى دلائله وسماته .

وذكر فعل الرؤية هنا للتّحقيق ، كما تقدّم في قوله تعالى : { ما نراك إلاّ بشراً مثلنا وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا } [ هود : 27 ] بحيث نزّلوه منزلة من تُظنون أنهم لا يرون ذلك بأبصارهم فصرحوا بفعل الرؤية . وأكّدوه بِ ( إنّ ) وَلاَم الابتداء مبالغة في تنزيله منزلة من يجهل أنهم يعلمون ذلك فيه ، أوْ مَنْ ينكر ذلك . وفي هذا التنزيل تعريض بغباوته كما في قول حجل بن نضلة :

إن بني عمّك فيهم رماح

ومن فساد التفاسير تفسير الضعيف بفاقد البصر وأنه لغة حميرية فركبوا منه أنّ شعيباً عليه السّلام كان أعمى ، وتطرّقوا من ذلك إلى فرض مسألة جواز العمى على الأنبياء ، وهو بناء على أوهام . ولم يعرف من الأثر ولا من كتب الأوّلين ما فيه أنّ شعيباً عليه السّلام كان أعمى .

وعطفوا على هذا قولهم : { وَلَوْلاَ رهطك لرجمناك } وهو المقصود ممّا مُهّد إليه من المقدمات ، أي لا يصدّنا عن رجمك شيء إلاّ مكان رهطك فينا ، لأنك أوجبت رجمك بطعنك في ديننا .

والرهط إذا أضيف إلى رجل أريد بِه القرابة الأدنَوْن لأنّهم لا يكونون كثيراً ، فأطلقوا عليهم لفظ الرهط الذي أصله الطائفة القليلة من الثلاثة إلى العشرة ، ولم يقولوا قومك ، لأنّ قومه قد نبذوه . وكان رهط شعيب عليه السّلام من خاصة أهل دين قومه فلذلك وقّروهم بكفّ الأذى عن قريبهم لأنهم يكرهون ما يؤذيه لقرابته . ولولا ذلك لما نصره رهطه لأنّهم لا ينصرون من سخطه أهل دينهم . على أنّ قرابته ما هم إلاّ عددٌ قليل لا يُخشى بأسهم ولكن الإبقاء عليه مجرد كرامة لقرابته لأنّهم من المخلصين لدينهم .

فالخبر المحذوف بعد { لَوْلاَ } يُقَدّرُ بما يدلّ على معنى الكرامة بقرينة قولهم : { وما أنت علينا بعزيز } وقوله : { أرهطي أعزّ عليكم من الله } [ هود : 92 ] ، فلمّا نفوا أن يكون عزيزاً وإنما عزة الرجل بحماته تعين أن وجود رهطه المانع من رجمه وجود خاص وهو وجود التكريم والتوقير ، فالتقدير : ولولا رهطك مكرمون عندنا لرجمناك .

والرجم : القتل بالحجارة رَمْياً ، وهو قِتلة حقارة وخزي . وفيه دلالة على أن حكم من يخلع دينه الرجم في عوائدهم .

وجملة { وما أنت علينا بعزيز } مؤكدة لمضمون { ولولا رهطك لرجمناك } لأنّه إذا انتفى كونه قويّاً في نفوسهم تعيّن أن كفّهم عن رجمه مع استحقاقه إيّاه في اعتقادهم ما كان إلاّ لأجل إكرامهم رهطَه لا للخوف منهم .

وإنّما عطفت هذه الجملة على التي قبلها مع أنّ حق الجملة المؤكدة أن تفصل ولا تعطف لأنّها مع إفادتها تأكيد مضمون الّتي قبلها قد أفادت أيضاً حكماً يخصّ المخاطب فكانت بهذا الاعتبار جديرة بأن تعطف على الجمل المفيدة أحواله مثل جملة { ما نَفْقَهُ كثيراً ممّا تقول } والجمل بعدها .

والعزة : القوم والشدّة والغلبة . والعزيز : وصف منه ، وتعديته بحرف ( على ) لما فيه من معنى الشّدة والوقْع على النفس كقوله تعالى : { عزيزٌ عليه ما عنتم } [ التوبة : 128 ] ، أي شديد على نفسه ، فمعنى { وما أنت علينا بعزيز } أنك لا يعجزنا قتلك ولا يشتدّ على نفوسنا ، أي لأنّك هَيّنُ علينا ومحقّر عندنا وليس لك من ينصرك منّا . وعزة المرء على قبيلة لا تكون غلبةَ ذاته إذْ لاَ يغلب واحد جماعة ، وإنما عزّته بقومه وقبيلته ، كما قال الأعشى :

وإنّما العِزّة للكاثِر

فمعنى { وما أنت علينا بعزيز } أنك لا تستطيع غلبتنا .

وقصدهم من هذا الكلام تحذيره من الاستمرار على مخالفة رهطه بأنّهم يوشك أن يخلعوه ويبيحوا لهم رجمه . وهذه معان جدّ دقيقة وإيجاز جدّ بديع .

وليس تقديم المسند إليه على المسند في قوله : { وما أنت علينا بعزيز } بمفيد تخصيصاً ولا تقوياً .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفٗاۖ وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ لَرَجَمۡنَٰكَۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡنَا بِعَزِيزٖ} (91)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قالوا يا شعيب ما نفقه}، يعني: ما نعقل، {كثيرا مما تقول} لنا من التوحيد، ومن وفاء الكيل والميزان، {وإنا لنراك فينا ضعيفا}، يعني: ذليلا لا قوة لك ولا حيلة، {ولولا رهطك لرجمناك}، يعني: عشيرتك وأقرباءك لقتلناك، {وما أنت علينا}، يعني: عندنا {بعزيز}، يعني: بعظيم... يقولون: أنت علينا هين.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: قال قوم شعيب لشعيب: {يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيرا مِمّا تَقُول}، أي: ما نعلم حقيقة كثير مما تقول وتخبرنا به.

{وَإنّا لَنَرَاك فِينا ضَعِيفا}...

{وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ}، يقول: يقولون: ولولا أنت في عشيرتك وقومك لرجمناك، يعنون: لسببناك. وقال بعضهم: معناه: لقتلناك.

{وَما أنْتَ عَلَيْنا بعَزيزٍ}، يعنون: ما أنت ممن يكرم علينا، فيعظم علينا إذلاله وهَوَانُه، بل ذلك علينا هَين.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) قوله: (ما نفقه) يحتمل ما نفهم (كثيرا) مما تقول لأن كلامك كلام مجانين، وهذه هي عادة القوم؛ كانوا ينسبون الرسل إلى الجنون...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

... الفقه: فهم الكلام على ما تضمن من المعنى...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{مَا نَفْقَهُ}: ما نفهم {كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ} لأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم رغبة عنه وكراهية له، كقوله: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25]. أو كانوا يفقهونه ولكنهم لم يقبلوه، فكأنهم لم يفقهوه. وقالوا ذلك على وجه الاستهانة به، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه: ما أدري ما تقول، أو جعلوا كلامه هذياناً وتخليطاً لا ينفعهم كثير منه، وكيف لا ينفعهم كلامه وهو خطيب الأنبياء.

{فِينَا ضَعِيفًا} لا قوة لك ولا عز فيما بيننا، فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروهاً... ولذلك قللوا قومه حيث جعلوهم رهطاً، والرهط: من الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى السبعة...

وإنما قالوا: ولولا هم، احتراماً لهم واعتداداً بهم؛ لأنهم كانوا على ملتهم، لا خوفا من شوكتهم وعزتهم

{لرجمناك}: لقتلناك شرّ قتلة. {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أي لا تعزّ علينا ولا تكرم، حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم، وإنما يعزّ علينا رهطك، لأنهم من أهل ديننا لم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا...

زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :

{وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} فيه قولان:...

والثاني: بممتنع أن نقتلك.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

فلما رأوه لا ينزع عنهم ولم يقدروا لكلامه على جواب، أيأسوه من الرجوع إليه بأن أنزلوا أنفسهم عناداً في الفهم لهذا الكلام الواضح جداً إلى عداد البهائم، وهددوه فأخبر تعالى عنهم بذلك استئنافاً في جواب من يقول: ما قالوا بعد هذا الدعاء الحسن؟ بقوله: {قالوا يا شعيب} منادين له باسمه جفاء وغلظة {ما نفقه} أي الآن لأن "ما "تخص بالحال {كثيراً مما تقول} وإذا لم يفهم الكثير من الكلام لم يفهم مقصوده، يعنون: خفض عليك واترك كلامك فإنا لا نفهمه تهاوناً به كما يقول الإنسان لخصمه إذا نسبه إلى الهذيان: أنا لا أدري ما تقول، ولما كان غرضهم مع العناد قطع الأمر، خصواً عدم الفهم بالكثير ليكون أقرب إلى الإمكان، وكأنهم -والله أعلم- أشاروا إلى أنه كلام غير منتظم فلا حاصل له ولا لمضمونه وجود في الخارج...

ولما كان في ذلك إشارة إلى أنه ضعيف العقل لأن كلامه مثل كلام المجانين، أتبعوه قولهم: {وإنا لنراك} أي رؤية مجددة مستمرة {فينا ضعيفاً} أي في البدن وغيره، فلا تتعرض لسخطنا فإنك لا تقدر على الامتناع من مكروه نحله بك بقوة عقل ولا جسم ولا عشيرة، وأشاروا إلى ضعف العشيرة بتعبيرهم بالرهط في قولهم: {ولولا رهطك لرجمناك} أي قتلناك شر قتلة -فإن الرهط من ثلاثة إلى عشرة وأكثر ما قيل: إن فخذه أربعون- فما أنت علينا بممتنع لضعفك وقلة قومك {وما أنت} أي خاصة، لأن "ما" لنفي الحال اختصاص بالزمان، والقياس أن يكون مدخولها فعلاً أو شبهه، وحيث أوليت الاسم لا سيما الضمير دل على أن التقديم للاهتمام والاختصاص {علينا بعزيز} بكريم مودود، تقول: أعززت فلاناً -إذا كان له عندك ود، بل قومك هم الأعزة عندنا لموافقتهم لنا، ولو كان المراد: ما عززت علينا، لكان الجواب: لم لا أعز وقد شرفني الله- أو نحو هذا، ويصح أن يراد بالعزيز القوي الممتنع، ويصير إفهامه لامتناع رهطه محمولاً على أن المانع لهم موافقتهم لهم لا قوتهم...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

الفِقهُ: غرض المتكلّم من كلامه، أي ما نفهم مرادَك، وإنما قالوه بعد ما سمعوا منه دلائلَ الحقِّ المبينِ على أحسن وجهٍ وأبلغِه وضاقت عليهم الحيلُ وعيّتْ بهم العلل، فلم يجدوا إلى محاورته سبيلاً سوى الصدودِ عن منهاج الحقِّ والسلوكِ إلى سبيل الشقاءِ كما هو ديدَنُ المُفحَمِ المحجوجِ يقابل البيناتِ بالسبّ والإبراق والإرعاد، فجعلوا كلامَه المشتملَ على فنون الحِكَم والمواعظِ وأنواعِ العلومِ والمعارفِ من قبيل ما لا يُفقه معناه ولا يُدرك فحواه وأدمجوا في ضمن ذلك أن في تضاعيفه ما يستوجب أقصى ما يكون من المؤاخذة والعقاب، ولعل ذلك ما فيه من التحذير من عواقب الأممِ السالفة ولذلك قالوا: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا} فيما بيننا {ضَعِيفاً} لا قوة لك ولا قدرةَ على شيء من الضر والنفعِ والإيقاعِ والدفع... كان غرضُهم من عظيمتهم هذه عائداً إلى نفي ما فيه عليه السلام من القوة والعزةِ الربّانيّتين حسبما يوجبه كونُه على بينة من ربه مؤيَّداً من عنده ويقتضيه قضيةُ طلبِ التوفيقِ منه والتوكلِ عليه والإنابةِ إليه وإلى إسقاط ذلك كلِّه عن درجة الاعتدادِ به والاعتبار...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول} حققنا في تفسير سورة الأعراف أن الفقه في اللغة أخص من الفهم والعلم، وهو الفهم الدقيق العميق المؤثر في النفس الباعث على العمل، أي ما نفقه كثيرا مما ترمي مما وراء ظواهر أقوالك من بواطنها وتأويلها، كبطلان عبادة آلهتنا، وقبح حرية التصرف في أموالنا، وعذاب محيط يبيدنا، وإصابتنا بمثل الأحداث الجوية التي نزلت بمن قبلنا، كأن أمرها بيدك وتصرفك أو تصرف ربك، يصيب بها من تشاء أو يشاء لأجلك. {وإنا لنراك فينا ضعيفا} لا حول ولا قوة تمتنع بها منا إن أردنا أن نبطش بك، وأنت على ضعفك تنذرنا العذاب المحيط الذي لا يفلت منه أحد...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولكن القوم كانوا قد بلغوا من فساد القلوب، ومن سوء تقدير القيم في الحياة، وسوء التصور لدوافع العمل والسلوك، ما كشف عنه تبجحهم من قبل بالسخرية والتكذيب: (قالوا: يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول، وإنا لنراك فينا ضعيفا، ولولا رهطك لرجمناك، وما أنت علينا بعزيز).. فهم ضيقو الصدور بالحق الواضح، لا يريدون أن يدركوه: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول).. وهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة: (وإنا لنراك فينا ضعيفا).. فلا وزن عندهم للحقيقة القوية التي يحملها ويواجههم بها. (ولولا رهطك لرجمناك).. ففي حسابهم عصبية العشيرة، لا عصبية الاعتقاد، وصلة الدم لا صلة القلب. ثم هم يغفلون عن غيرة الله على أوليائه فلا يضعونها في الحساب. (وما أنت علينا بعزيز).. لا عزة التقدير والكرامة ولا عزة الغلب والقهر. ولكننا نحسب حساب الأهل والعشيرة! وحين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والمثل العالية؛ فإنها تقبع على الأرض ومصالحها القريبة وقيمها الدنيا؛ فلا ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة، ولا لحقيقة كبيرة؛ ولا تتحرج عن البطش بالداعية إلا أن تكون له عصبة تؤويه؛ وإلا أن تكون معه قوة مادية تحميه. أما حرمة العقيدة والحق والدعوة فلا وزن لها ولا ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ومرادهم من هذا يحتمل أن يكون قصد المباهتة كما حكى الله عن المشركين {وقالوا قلوبنا في أكنةٍ ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا وقْرٌ} [فصلت: 5] وقوله عن اليهود: {وقالوا قلوبنا غلفٌ} [البقرة: 88]. ويجوز أن يكون المراد ما نتعقّله لأنه عندهم كالمحال لمخالفته ما يألفون، كما حكى الله عن غيرهم بقوله: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيءٌ عجابٌ} [ص: 5]، وليس المراد عدم فهم كلامه لأنّ شعيباً عليه السّلام كان مقوالاً فصيحاً، ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه خطيب الأنبياء. فالمعنى: أنك تقول مَا لاَ نصدق به. وهذا مقدمة لإدانته واستحقاقه الذم والعقاب عندهم في قولهم: {ولولا رهطك لرجمناك}، ولذلك عطفوا عليه {وإنّا لنراك فينا ضعيفاً} أي وإنّك فينا لضعيف، أي غير ذي قوّة ولا منعة. فالمراد الضعف عن المدافعة إذا راموا أذَاهُ وذلك ممّا يُرى لأنّه تُرى دلائله وسماته. وذكر فعل الرؤية هنا للتّحقيق، كما تقدّم في قوله تعالى: {ما نراك إلاّ بشراً مثلنا وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا} [هود: 27] بحيث نزّلوه منزلة من تُظنون أنهم لا يرون ذلك بأبصارهم فصرحوا بفعل الرؤية. وأكّدوه بِ (إنّ) وَلاَم الابتداء مبالغة في تنزيله منزلة من يجهل أنهم يعلمون ذلك فيه، أوْ مَنْ ينكر ذلك...

وعطفوا على هذا قولهم: {وَلَوْلاَ رهطك لرجمناك} وهو المقصود ممّا مُهّد إليه من المقدمات، أي لا يصدّنا عن رجمك شيء إلاّ مكان رهطك فينا، لأنك أوجبت رجمك بطعنك في ديننا...

وجملة {وما أنت علينا بعزيز} مؤكدة لمضمون {ولولا رهطك لرجمناك} لأنّه إذا انتفى كونه قويّاً في نفوسهم تعيّن أن كفّهم عن رجمه مع استحقاقه إيّاه في اعتقادهم ما كان إلاّ لأجل إكرامهم رهطَه لا للخوف منهم...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

التّهديدات المتبادلة بين شعيب وقومه:

إِنّ شعيباً هذا النّبي العظيم الذي لُقِّبَ بخطيب الأنبياء لخطبته المعروفة والواضحة، والتي كانت أفضل دليل أمين للحياة المادّية والمعنوية لهذه الجماعة، واصل محاججته لقومه بالصبر والأناة والقلب المحترق، ولكن تعالوا لنرى كيف ردّ عليه هؤلاء القوم الضالون؟! لقد أجابوه بأربع جمل كلّها تحكي عن جهلهم ولجاجتهم:

فأوّلها: أنّهم قالوا: (يا شعيب ما نفقه كثيراً ممّا تقول)... فكلامك أساساً ليس فيه أوّل ولا آخر، وليس فيه محتوى ولا منطق قيم لنفكر فيه ونتدبره وليس لديك شيء نجعله ملاكاً لعملنا، فلا ترهق نفسك أكثر! وامض إلى قوم غيرنا...

والثّانية: قولهم (وإِنّا لنراك فينا ضعيفاً) فإذا كنت تتصور أنّك تستطيع إثبات كلماتك غير المنطقية بالقدرة والقوّة فأنت غارق في الوهم.

والثّالثة: هي أنّه لا تظنّ أنّنا نتردد في القضاء عليك بأبشع صورة خوفاً منك ومن بأسك، ولكن احترامنا لعشيرتك هو الذي يمنعنا من ذلك (ولولا رهطك لرجمناك)! والطريف أنّهم عبّروا عن قبيلة شعيب: ب «الرّهط» وهذه الكلمة تطلق في لغة العرب على الجماعة التي مجموع أنصارها ثلاثة إلى سبعة، أو عشرة، أو على قول. وهو الحدّ الأكثر تطلق على أربعين نفراً. وهم يشيرون بذلك إلى أنّ قبيلتك لا تتمتع بالقوة الكافية مقابل قوتنا، ولكن تمنعنا أمور أُخرى، وهذا يشبه قول القائل: لولا هؤلاء الأربعة من قومك وأُسرتك لأعطيناك جزاءك بيدك. في حين أنّ قومه وأسرته ليسوا بأربعة، بل المراد بيان هذه المسألة، وهي أنّهم لا أهمية لقدرتهم في نظر القائل.

(وما أنت علينا بعزيز) فمهما كانت منزلتك في عشيرتك، ومهما كنت كبيراً في قبيلتك إِلاّ أنّه لا منزلة لك عندنا لسلوكك المخالف والمرفوض...