و قوله - سبحانه - : { قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } حكاية لما قاله موسى - عليه السلام - للسامرى .
والمساس : مصدر ماسّ - بالتشديد - كقتال من قاتل ، وهو منفى بلا التى لنفى الجنس .
والمعنى : قال موسى للسامرى : ما دمت قد فعلت ذلك فاذهب ، فإن لك فى مدة حياتك ، أن تعاقب بالنبذ من الناس ، وأن تقول لهم إذا ما اقترب أحد منك : { لاَ مِسَاسَ } أى لا أمَسُّ أحدا ولا يَمسُّنى أحد ، ولا أخالط أحداً ولا يخالطنى أحد .
قال صاحب الكشاف : عوقب فى الدنيا بعقوبة لا شىء أطم منها وأوحش وذلك أنه مُنِع من مخالطة الناس منعا كليا ، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمه ومبايعته ومواجهته ، وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا . وإذا اتفق أن يماس أحدا - رجلا أو امرأة - حم الماس والممسوس - أى أصيبا بمرض الحمى - فتحامى الناس وتحاموه ، وكان يصيح : لا مساس . وعادى فى الناس أوحش من القاتل اللاجىء إلى الحرم ، ومن الوحش النافر فى البرية . . .
وقال الآلوسى ما ملخصه : والسر فى عقوبته على جنايته بما ذكر . أنه ضد ما قصده من إظهار ذلك ليجتمع عليه الناس ويعززوه ، فكان ما فعله سببا لبعدهم عنه وتحقيره . وقيل : عوقب بذلك ليكون الجزاء من جنس العمل ، حيث نبذ فنبذ ، فإن ذلك التحامى عنه أشبه شىء بالنبذ . . .
قالوا : وهذه الآية الكريمة أصلى فى نفى أهل البدع والمعاصى وهجرانهم وعدم مخالطتهم .
ثم بين - سبحانه - عقوبة السامرى فى الآخرة ، بعد بيان عقوبته فى الدنيا فقال : { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ } .
وقوله : { تُخْلَفَهُ } قرأها الجمهور بضم التاء وفتح اللام . أى : وإن لك موعدا فى الآخرة لن يخلفك الله - تعالى - إياه . بل سينجزه لك ، فيعاقبك يومئذ العقاب الأليم الذى تستحقه بسبب ضلالك وإضلالك ، كما عاقبك فى الدنيا بعقوبة الطرد والنفور من الناس .
وقرأ ابن كثير وأبو عمر { لَّن تُخِلَفَهُ } بضم التاء وكسر اللام أى : وإن لك موعدا فى الآخرة لن تستطيع التخلف عنه ، أو المهرب منه ، بل ستأتيه وأنت صاغر . . .
ثم بين - سبحانه - أيضا - للسامرى : وانظر إلى معبودك العجل الذى أقمت على عبادته أنت وأتباعك فى غيبتى عنكم .
{ لَّنُحَرِّقَنَّهُ } بالنار أمام أعينكم ، والجملة جواب لقسم محذوف ، أى : والله لنحرقنه { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً } أى : لم لَنُذرِينَّه فى البحر تذرية ، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر .
يقال : نسف الطعام ينسفه نسفا ، إذا فرقه وذراه بحيث لا يبقى منه شىء .
وقد نفذ موسى - عليه السلام - ذلك حتى يظهر للأغبياء الجاهلين الذين عبدوا العجل ، أنه لا يستحق ذلك . وإنما يستحق الذبح والتذرية ، وأن عبادتهم له إنما هى دليل واضح على انطماس بصائرهم ، وشدة جهلهم .
لم يزد موسى في عقاب السامريّ على أن خلعه من الأمّة ، إما لأنّه لم يكن من أنفسهم فلم يكن بالذي تجري عليه أحكام الشريعة ، وإما لأنّ موسى أعلم بأن السامري لا يرجى صلاحه ، فيكون ممن حقّت عليه كلمة العذاب ، مثل الذين قال الله تعالى فيهم : { إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 96 ، 97 ] ، ويكون قد أطلع الله موسى على ذلك بوحي أو إلهام ، مثل الذي قاتل قتالاً شديداً مع المسلمين ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما إنه من أهل النّار " ، ومثل المنافقين الذين أعلم الله بهم محمداً صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم حذيفة بن اليمان ببعضهم .
فقوله { فَاذْهَبْ } الأظهر أنه أمر له بالانصراف والخروج من وسط الأمّة ، ويجوز أن يكون كلمة زجر ، كقوله تعالى : { قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنّم جزاؤكم } [ الإسراء : 63 ] ، وكقول الشاعر مما أنشده سيبويه في « كتابه » ولم يعزه :
فاليوم قَرّبْتَ تهجونا وتشتمنا *** فاذْهَبْ فما وبك لأيام من عجب
ويجوز أن يكون مراداً به عدم الاكتراث بحاله كقول النبهاني من شعراء « الحماسة » :
فإن كنتَ سيدنا سُدْتَنا *** وإن كنت للخَال فاذْهَب فَخَلْ
أما قوله { فَإنَّ لَكَ في الحَيَاةِ أن تَقُولَ لا مِساس وإنَّ لكَ مَوْعِداً لَن تُخْلفَهُ } فهو إخبار بما عاقبه الله به في الدنيا والآخرة ، فجعل حَظه في حياته أن يقول لا مِساس ، أي سلبه الله الأُنس الذي في طبع الإنسان فعوضه به هوساً ووسواساً وتوحشاً ، فأصبح متباعداً عن مخالطة الناس ، عائشاً وحده لا يترك أحداً يقترب منه ، فإذا لقيه إنسان قال له : لا مساس ، يخشى أن يمسه ، أي لا تمسني ولا أمسك ، أو أراد لا اقتراب مني ، فإن المس يطلق على الاقتراب كقوله { ولا تمسوها بسوء } [ هود : 64 ] ، وهذا أنسب بصيغة المفاعلة ، أي مقاربة بيننا ، فكان يقول ذلك ، وهذه حالة فظيعة أصبح بها سخرية .
ومِساس بكسر الميم في قراءة جميع القراء وهو مصدر ماسّهُ بمعنى مسه ، و ( لا ) نافية للجنس ، و { مساس اسمها مبني على الفتح .
وقوله وإنَّ لكَ مَوعِداً } اللام في { لَكَ } استعارة تهكمية ، كقوله تعالى : { وإن أسأتم لها } [ الإسراء : 7 ] أي فعليها . وتوعده بعذاب الآخرة فجعله موعداً له ، أي موعد الحشر والعذابِ ، فالموعد مصدر ، أي وعد لا يخلف { وعد الله لا يخلف الله وعده } [ الروم : 6 ] . وهنا توعُّد بعذاب الآخرة .
وقرأ الجمهور { لن تُخلَفه } بفتح اللاّم مبنيّاً للمجهول للعلم بفاعله ، وهو الله تعالى ، أي لا يؤخره الله عنك ، فاستعير الإخلاف للتأخير لمناسبة الموعد .
وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب بكسر اللام مضارع أخْلَف وهمزته للوجدان . يقال : أخلف الوعد إذا وجده مُخْلَفاً ، وإما على جعل السامريّ هو الذي بيده إخلاف الوعد وأنه لا يخلفه ، وذلك على طريق التهكم تبعاً للتهكم الذي أفاده لام الملك .
وبعد أن أوعد موسى السامريّ بيّن له وللذين اتبعوه ضلالهم بعبادتهم العجل بأنه لا يستحق الإلهيّة لأنّه معرّض للامتهان والعَجز ، فقال : { وانْظُر إلى إلهك الَّذِي ظَلتَ عليهِ عاكِفاً لنُحرِقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ في الْيَمِ نَسْفاً } . فجعَل الاستدلال بالنظر إشارة إلى أنه دليل بيّن لا يحتاج المستدل به إلى أكثر من المشاهدة فإن دلالة المحسوسات أوضح من دلالة المعقولات .
وأضاف الإله إلى ضمير السامريّ تهكماً بالسامريّ وتحقيراً له ، ووصف ذلك الإله المزعوم بطريق الموصولية لما تدلّ عليه الصلة من التنبيه على الضلال والخطأ ، أي الذي لا يستحق أن يعكف عليه .
وقوله { ظلتَ } بفتح الظاء في القراءات المشهورة ، وأصله : ظَلَلْتَ : حذفت منه اللام الأولى تخفيفاً من توالي اللاميْن وهو حذف نادر عند سيبويه وعند غيره هو قياس .
وفعل ( ظلّ ) من أخوات ( كان ) . وأصله الدلالة على اتصاف اسمه بخبره في وقت النّهار ، وهو هنا مجاز في معنى ( دام ) بعلاقة الإطلاق بناء على أنّ غالب الأعمال يكون في النّهار .
والعكوف : ملازمة العبادة وتقدم آنفاً . وتقديم المجرور في قوله { عَلَيْهِ عَاكِفَاً } للتخصيص ، أي الذي اخترته للعبادة دون غيره ، أي دون الله تعالى .
وقرأ الجمهور { لنُحرِّقنَّه } بضم النون الأولى وفتح الحاء وكسر الراء مشددة . والتحريق : الإحراق الشديد ، أي لنحرقنه إحراقاً لا يدع له شكلاً . وأراد به أن يذيبه بالنّار حتى يفسد شكله ويصير قِطَعاً .
وقرأ ابن جمّاز عن أبي جعفر { لنُحْرِقنه بضم النّون الأولى وبإسكان الحاء وتخفيف الراء . وقرأه ابن وَردان عن أبي جعفر بفتح النون الأولى وإسكان الحاء وضم الراء لأنّه يقال : أحرقه وحرّقه .
والنسف : تفريقٌ وإذراء لأجزاء شيء صلب كالبناء والتراب .
وأراد باليمّ البحر الأحمر المسمى بحر القلزم ، والمسمى في التوراة : بحْرَ سُوف ، وكانوا نازلين حينئذ على ساحله في سفح الطور .
و ( ثم ) للتّراخي الرتبي ، لأن نسف العجل أشد في إعدامه من تحريقه وأذل له .
وأكد ننسِفَنّه بالمفعول المطلق إشارة إلى أنه لا يتردد في ذلك ولا يخشى غضبه كما يزعمون أنّه إله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.