ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض المحرمات المتعلقة بالأنفس والأموال ، بعد أن بين لهم قبل ذلك المحرمات من النساء والمحللات منهم ومظاهر فضله - سبحانه - بعباده ورحمته بهم فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين . . . كَرِيماً } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ( 29 ) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 30 ) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ( 31 )
المراد بالأكل فى قوله { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ } مطلق الأخذ الذى يشمل سائر التصرفات التى نهى الله عنها .
وخص الأكل بالذكر ؛ لأن المقصود الأعظم من الأموال هو التصرف فيها بالأكل .
والباطل : اسم لكل تصرف لا يبيحه الشرع كالربا والقمار والرشوة والغضب والسرقة والخيانة والظلم إلى غير ذلك من التصرفات المحرمة .
والمعنى . يأيها المؤمنون لا يحل لكم أن يأكل بعضكم مال غيره بطريقة باطلة لا يقرها الشرع ، ولا يرتضيها الدين ، كما أنه لا يحل لكم أن تتصرفوا فى الأموال التى تملكونها تصرفا منهيا عنه بأن تنفقوها فى وجوه المعاصى التى نهى الله عنها ؛ فإن ذلك يتنافى مع طبيعة هذا الدين الذى آمنتم به .
وناداهم - سبحانه - بصفة الإِيمان ، لتحريك حرارة العقيدة فى قلوبهم وإغرائهم بالاستجابة لما أمروا به أو نهو عنه .
وفى قوله { أَمْوَالَكُمْ } إشارة إلى أن هذه الأموال هى نعمة من الله لنا ، وأن على الأمة جميعها أن تصون هذه الأموال عن التصرفات الباطة التى لا تبيحها شريعة الله .
وفى قوله { بَيْنَكُمْ } إشارة إلى أن تبادل الأموال بين الأفراد والجماعات يجب أن يكون على أساس من الحق والعدل ولا يكون بالباطل أو بالظلم .
والاستثناء فى قوله { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } استثناء منقطع لأن التجارة ليست من جنس الأموال المأكولة بالباطل .
والمعنى : لا يحل لكم - أيها المؤمنون - أن تتصرفوا فى أموالكم بالطرق المحرمة ، لكن يباح لكم أن تتصرفوا فيها بالتجارة الناشئة عن تراض فيما بينكم ؛ لأنه لا يحل لمسلم أن يقتطع مال أخيه المسلم إلا عن طيب نفس منه .
والتجارة : اسم يقع على عقود المعارضات التى يقصد بها طلب الربح . وخصت بالذكر من بين سائر أسباب الملك ؛ لكونها أغلب وقوعا ولأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها .
أخرج الأصبهانى عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا وعدوا لم يخلفوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا اشتروا لم يذموا ، وإذا باعوا لم يمدحوا ، وإذا كان عليهم لم يمطلوا ، وإذا كان لهم لم يعسروا " .
وكلمة { تِجَارَةً } قرأها عاصم وحمزة والكسائى بالنصب على أنها خبر لكان الناقصة ، واسم كان ضمير يعود عل الأموال أى إلا أن تكون الأموال المتداولة بينكم تجارة صادرة عن تراض منكم . وقرأها الباقون بالرفع على أنها فاعل لكان التامة أى : إلا أن تقع تجارة بينكم عن تراض منكم .
وقوله { عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } صفة لقوله { تِجَارَةً } ولفظ { عَن } للمجاوزة أى : إلا أن تكون تجارة صادرة عن تراض كائن منكم .
والتراضى : هو الرضا من الجانبين بما بدل عليه من لفظ أو عرف ، وهو أساس العقود بصفة عامة ، وأساس المبادلات المالية بصفة خاصة ، فلا بيع ولا شراء ولا إجارة ولا شركة ولا غيرها من عقود التجارة ما لم يتحقق الرضا .
قال بعضهم : وحقيقة التراضى لا يعلمها إلى الله - تعالى - والمراد هنا أمارته . كالإِيجاب والقبول وكالتعاطى عند القائل به . وقد قال - تعالى - { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } فدل ذلك على أن مجرد التراضى هو المناط . ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كتابة ، بأى لفظ وقع وعلى أى صفة كان ، وبأى إشارة مفيدة حصل .
وقال الآلوسى : والمراد بالتراضى مراضاة المتبايعين بما تعاقدوا عليه فى حال المبايعة وقت الإِيجاب والقبول عندنا . وعند المالكية والشافعية حالة الافتراق عن مجلس العقد وقيل التراضى : التخيير بعد البيع . . .
هذا ، وظاهر قوله - تعالى - { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } يفيد إباحة جميع أنواع التجارات ما دام قد حصل التراضى بين المتعاقدين ، ولكن هذا الظاهر غير مراد ؛ لأن الشارع قد حرم المتاجرة فى أشياء معينة حتى ولو تم التراضى بين المتعاقدين بين المتعاقدين فيها ، وذلك مثل المتاجرة فى الخمر والميتة ولحم الخنزير ، ومثل بيع الغرر والعبد الآبق ونحو ذلك مما نهى عنه الشارع من العقود والمعاملات .
وقوله { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } معطوف على ما قبله .
وللعلماء فى تأويله اتجاهات : فمنهم من يرى أن معناه : ولا يقتل بعضكم بعضا ، فإن قتل بعضكم لبعض قتل لأنفسكم . والتعبير عن قتل بعضهم لبعض بقتل أنفسهم للمبالغة فى الزجر عن هذا الفعل ، وبتصويره بصورة مالا يكاد يفعله عاقل .
وإلى هذا المعنى اتجه الفخر الرازى فقد قال : اتفقوا على أن هذا نهى عن أن يقتل بعضهم بعضا . وإنما قال : { أَنْفُسَكُمْ } لقوله صلى الله عليه وسلم " المؤمنون كنفس واحدة " ولأن العرب يقولون :
قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم ؛ لأن قتل بعضهم يجرى مجرى قتلهم .
ومنهم من يرى أن معناه النهى عن قتل الإِنسان لنفسه . ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من تردى من جبل فقتل نفسه فهو فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً . ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه فى يده يتحساه فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً . ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته فى يده يجأ - أى يطعن - بها فى بطنه فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبداً " .
وروى مسلم عن جابر بن سمرة قال : أتى النبى صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص - أى سهام عراض واحدها مشقص - فلم يصل عليه .
ومنهم من يرى أن معناه : لا تقتلوا أنفسكم بأكل بعضكم أموال بعض وبارتكابكم للمعاصى التى نهى الله عنها ، فإن ذلك يؤدى إلى إفساد أمركم ، وذهاب ريحكم ، وتمزق وحدتكم ، ولا قتل للأمم والجماعات أشد من فساد أمرها ، وذهاب ريحها .
وقد ذهب إلى هذا المعنى الإِمام ابن كثير فقد قال : وقوله : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } أى بارتكاب محارم الله - وتعاطى معاصيه ، وأكل أموالكم بينكم بالباطل .
والذى نراه أن الجملة الكريمة تتناول كل هذه الاتجاهات ، فهى تنهى المسلم عن أن يقتل نفسه ، كما أنها تنهاه عن أن يقتل غيره ، وهى أيضا تنهاه عن ارتكاب المعاصى التى تؤدى إلى هلاكه .
وقدم - سبحانه - النهى عن أكل الأموال بالباطل على النهى عن قتل الأنفس مع أن الثانى أخطر ، للإِشعار بالتدريج فى النهى من الشديد إلى الأشد ولأن وقوعهم فى أكل الأموال بالباطل كان أكثر منهم وأسهل عليهم من وقوعهم فى القتل .
وقد ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } لبيان أن ما نهى الله عنه من محرمات ، وما أباحه من مباحات ، إنما هو من باب الرحمة بالناس ، وعدم المشقة عليهم . فالله - تعالى- رءوف بعباده ومن مظاهر ذلك أنه لم يكلفهم إلا بما هو فى قدرتهم واستطاعتهم .
وهذه الآية الكريمة أصل عظيم فى حرمة الأموال والأنفس . ولقد أكد النبى صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فى خطبته فى حجة الوداع حيث قال : " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، فى شهركم هذا ، فى بلدكم هذا " .
هذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن إن كانت تجارة فكلوها{[3968]} .
وقرأ المدنيون وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : «تجارةٌ » بالرفع على تمام «كان » وأنها بمعنى : وقع ، وقرأت فرقة ، هي الكوفيون حمزة وعاصم والكسائي : «تجارةً » بالنصب على نقصان «كان » ، وهو اختيار أبي عبيد .
قال القاضي أبو محمد : وهما قولان قويان ، إلا أن تمام «كان » يترجح عند بعض ، لأنها صلة «أن » فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها ، وهذا ترجيح ليس بالقوي ولكنه حسن ، و { أن } في موضع نصب ، ومن نصب «تجارة » جعل اسم كان مضمراً ، تقديره الأموال أموال تجارة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، أو يكون التقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة ، ومثل ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إذا كان يوماً ذا كواكبَ أشنعا{[3969]}
أي : إذا كان اليوم يوماً ، والاستثناء منقطع في كل تقدير وفي قراءة الرفع . فأكل الأموال بالتجارة جائز بإجماع الأمّة ، والجمهور على جواز الغبن في التجارة ، مثال ذلك : أن يبيع الرجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة ، فذلك جائز ، ويعضده حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يبع حاضر لبادٍ »{[3970]} لأنه إنما أراد بذلك أن يبيع البادي باجتهاده ، ولا يمنع الحاضر الحاضر من رزق الله في غبنه ، وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود ، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات ، وأما المتفاحش الفادح فلا ، وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله . و { عن تراض } معناه عن رضا ، إلا أنها جاءت من المفاعلة ، إذ التجارة من اثنين ، واختلف أهل العلم في التراضي ، فقالت طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر فيقول : قد اخترت ، وذلك بعد العقدة أيضاً ، فينجزم حينئذ ، هذا هو قول الشافعي وجماعة من الصحابة ، وحجته حديث النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار »{[3971]} وهو حديث ابن عمر وأبي برزة ، ورأيهما - وهما الراويان - أنه افتراق الأبدان .
قال القاضي أبو محمد : والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان ، لأنه من صفات الجواهر ، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله : تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة فتنجزم العقدة بذلك ويرتفع الخيار ، وقالا في الحديث المتقدم : إنه التفرق بالقول ، واحتج بعضهم بقوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته }{[3972]} فهذه فرقة بالقول لأنها بالطلاق ، قال من احتج للشافعي : بل هي فرقة بالأبدان ، بدليل تثنية الضمير ، والطلاق لا حظّ للمرأة فيه ، وإنما حظها في فرقة البدن التي هي ثمرة الطلاق ، قال الشافعي : ولو كان معنى قوله : يتفرقا بالقول الذي هو العقد لبطلت الفائدة في قوله : البيعان بالخيار ، لأنه لا يشك في أن كل ذي سلعة مخير ما لم يعقد ، فجاء الإخبار لا طائل فيه ، قال من احتجّ لمالك : إنما القصد في الحديث الإخبار عن وجوب ثبوت العقد ، فجاء قوله : البيعان بالخيار توطئة لذلك ، وإن كانت التوطئة معلومة ، فإنها تهيىء النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومها ، واستدل الشافعي بقوله عليه السلام :
«لا يسم الرجل على سوم أخيه ، ولا بيع الرجل على بيع أخيه »{[3973]} فجعلها مرتبتين لأن حالة البيعين بعد العقد قبل التفرق تقتضي أن يفسد مفسد بزيادة في السلعة فيختارربها حل الصفقة الأولى ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الإفساد ، ألا ترى أنه عليه السلام قال : «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه »{[3974]} فهي في درجة ؛ لا يسم ، ولم يقل : لا ينكح على نكاح أخيه لأنه لا درجة بعد عقد النكاح تقتضي تخييراً بإجماع من الأمة ، قال من يحتج لمالك رحمه الله : قوله عليه السلام : لا يسم ولا يبع ، هي درجة واحدة كلها قبل العقد ، وقال : لا بيع تجوزاً في لا يسم ، إذ مآله إلى البيع ، فهي جميعاً بمنزلة قوله : لا يخطب ، والعقد جازم فيهما جميعاً .
قال القاضي أبو محمد : وقوله في الحديث «إلا بيع الخيار » معناه عند المالكين : المتساومان بالخيار ما لم يعقدا ، فإذا عقدا بطل الخيار إلا في بيع الخيار الذي عقد من أوله على خيار مدة ما ، فإنه لا يبطل الخيار فيه ، ومعناه عند الشافعيين : المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما ، إلا بيعاً يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار ، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا ، فإن فرض بيع خيار فالمعنى إلا بيع الخيار فإنه يبقي الخيار بعد التفرق بالأبدان ، وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } قرأ الحسن «ولا تقتّلوا » على التكثير ، فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها ، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل ، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه ، فهذا كله يتناوله النهي ، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفاً على نفسه منه ، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه{[3975]} .