الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا هو ، وحده لا شريك له ، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله رحمة للعالمين ، وأنزل عليه كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد . اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، أولئك هم المفلحون .
وبعد : فإن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ولينقذهم من الكفر والظلم والفجور . [ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ ]( {[1]} ) .
وقد أنزل الله –تعالى- هذا القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم ، لمقاصد عالية ، وحكم سامية ، وأغراض شريفة . . .
من أهمها أن يكون هذا القرآن هداية للإنس وللجن في كل زمان ومكان إلى الصراط المستقيم ، وإلى السعادة التي تصبو إليها النفوس ، وتتطلع إليها الأفئدة والقلوب . . .
وقد أودع –تعالى- في هذا الكتاب من العقائد السليمة ، والعبادات القويمة ، والأحكام الجليلة ، والآداب الفاضلة ، والعظات البليغة ، والتوجيهات الحكيمة . . . ما به قوام الملة الكاملة ، والأمة الفاضلة ، والجماعة الراشدة ، والفرد السليم في عقيدته وسلوكه وفي كل شئونه .
فكان هذا الكتاب أفضل الكتب السماوية ، وأوفاها بحاجة البشرية ، وأجمعها للخير ، وأبقاها على الدهر ، وأعمها وأتمها وأصحها في هدايته الناس إلى ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم .
قال –تعالى- [ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ]( {[2]} ) .
وقال تعالى : [ لَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ ، وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ، وَيَهْدِيهم إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ]( {[3]} ) .
وقال –تعالى- [ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ ، فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَأَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ]( {[4]} ) .
كذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا القرآن ، أن يكون هذا القرآن معجزة ناطقة في فم الدنيا بصدقه فيما يبلغه عن ربه .
ولقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس فدعاهم إلى وحدانية الله ، وإلى مكارم الأخلاق ، وقال لهم : معجزتي الدالة على صدقي هذا القرآن ، فإن كنتم في شك من ذلك فأتوا بمثله فعجزوا ، فأرخى لهم العنان وتحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله فما استطاعوا ، فزاد في إرخاء العنان لهم –وهم أرباب البلاغة والبيان- وتحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله ، فأخرسوا وانقلبوا صاغرين . فثبت أن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً .
قال الله تعالى- : [ وَإِنْ كُنْتُم فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه ، وادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين ]( {[5]} ) .
كذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله هذا القرآن على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتقرب الناس به إلى خالقهم عن طريق تلاوته ، وحفظه ، وتدبره ، والعمل بتشريعاته وآدابه وتوجيهاته . . .
ولقد تكلم الإمام القرطبي بإسهاب في مقدمة تفسيره عن فضائل القرآن ، والترغيب فيه ، وفضل طالبه ، وقارئه ، ومستمعه ، والعامل به ، وكيفية تلاوته . . . فقال ما ملخصه :
اعلم أن هذا الباب واسع كبير . ألف فيه العلماء كتباً كثيرة ، نذكر من ذلك نكتا تدل على فضله ، وما أعد الله لأهله إذا أخلصوا الطلب لوجهه ، وعملوا به . فأول ذلك أن يستشعر المؤمن من فضل القرآن أنه كلام رب العالمين . كلام من ليس كمثله شيء . . .
ومن الآثار التي جاءت في هذا الباب ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : " من شغله القرآن وذكري عن مسألتي ، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين . . . " .
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هذا القرآن مأدبة الله ، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم . . . " .
وروى البخاري عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ، وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة( {[6]} ) ريحها طيب وطعمها طيب . ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو . ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر . ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر " .
وروى مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه –أي يقرؤه بصعوبة- وهو عليه شاق له أجران " .
وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله بكل حرف حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها . لا أقول الَم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف " ( {[7]} ) .
هذا جانب من الأحاديث الشريفة التي أوردها القرطبي ، وهو يتحدث عن فضائل القرآن ، والترغيب فيه . . . الخ .
ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم : أمته تحذيراً شديداً من نسيان القرآن ، فقد روى الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تعاهدوا القرآن ؛ فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً –أي : تفلتا- من الإبل في عُقُلِها " .
وروى الترمذي وأبو داود عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجها ثم نسيها " .
هذه أهم المقاصد والحكم التي من أجلها أنزل الله –تعالى- القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم : أن يكون هداية للناس ، وأن يكون معجزة خالدة باقية شاهدة بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم : فيما يبلغه عن ربه ، وأن يتقرب الناس بقراءته والعمل به إلى خالقهم –عز وجل- ولقد تكفل الله –تعالى- بحفظ هذا القرآن ، وصانه من التحريف والتبديل ، والتغيير والمعارضة . قال –تعالى- : [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون ]( {[8]} ) .
وكان من مظاهر عنايته –سبحانه- بكتابه ، أن جعله محفوظاً في كل العصور بالتواتر الصادق القاطع ، يرويه الخلف عن السلف بالكيفية المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن وفق له في كل عصر حفاظاً متقنين جمعوه في صدورهم ، وعمروا به ليلهم ونهارهم . . .
وأن قيض لهم رجالا قضوا معظم أيام حياتهم في خدمته ودراسة علومه ، فمنهم من كتب في إعجازه وبلاغته ، ومنهم من كتب في قصصه وأخباره ، ومنهم من كتب في أسباب نزوله ، ومنهم من كتب في قراءاته ورسمه ، ومنهم من كتب في محكمه ومتشابهه ، ومنهم من كتب في ناسخه ومنسوخه ، ومنهم من كتب في مكيه ومدنيه ، ومنهم من كتب في غريب ألفاظه . . . . . إلى غير ذلك من ألوان علومه .
وكثير منهم كتبوا في تفسيره . وتوضيح معانيه ومقاصده وألفاظه ، وذلك لأن سعادة الأفراد والأمم لا تتأتى إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن وتوجيهاته ، وهذا الاسترشاد لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان ، لما تدل عليه ألفاظ القرآن . وهو ما يسمى بعلم التفسير .
فتفسير القرآن هو المفتاح الذي يكشف عن تلك الهدايات السامية ، والتوجيهات النافعة ، والعظات الشافية والكنوز الثمينة التي احتواها هذا الكتاب الكريم .
وبدون تفسير القرآن ، تفسيراً علمياً سليماً لا يمكن الوصول إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من هدايات وتوجيهات ، مهما قرأه القارئون وردد ألفاظه المرددون .
قال إياس بن معاوية : مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره ، كمثل قوم جاءهم كتاب من مليكهم ليلا ، وليس عندهم مصباح ، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب . ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرأوا ما في الكتاب " ( {[9]} ) .
ولقد أفاض الإمام ابن كثير في بيان هذا المعنى " وفي بيان أحسن طرق التفسير فقال : " فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله ، وتفسير ذلك ، وطلبه من مظانه ، وتعلم ذلك وتعليمه . . . .
فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير ؟ فالجواب : إن أصح الطريق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر ، فإن أعياك ذلك عليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له . . . . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " . يعني السنة . . . .
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه ، فإن لم تجده فمن السنة . . . . فإن لم تجده فمن أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ، لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالخلفاء الراشدين ، والأئمة المهتدين المهديين . . . قال عبد الله بن مسعود : والذي لا إله غيره ، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت . ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته " . وقال : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن " .
وقال أبو عبد الرحمن السلمي : " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً " . . . .
فإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة ، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر ، وسعيد ابن جبير . وعكرمة مولى ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ، والحسن البصري وغيرهم " ( {[10]} ) .
هذا ، وأنت إذا سرحت طرفك في المكتبة الإسلامية ترى العشرات من كتب التفسير ، منها القديم والحديث ، وترى منها الكبير والوسيط والوجيز ، وترى منها ما يغلب عليه طابع التفسير بالمأثور ، وترى ما يغلب عليه طابع التفسير بالرأي ، وترى منها ما تغلب عليه الصبغة الفقهية ، أو البلاغية ، أو الفلسفية ، أو الصوفية ، أو العلمية ، أو الاجتماعية ، أوالطائفية . . . . أو غير ذلك من الاتجاهات والميول التي تختلف باختلاف أفكار الكاتبين وثقافتهم ومذهبهم . . .
وترى منها المحرر أو شبه المحرر من الخرافات ، والأقوال السقيمة ، والقصص الباطلة . . . كما ترى منها ما هو محشو بذلك .
ولقد انتفعت كثيراً بما كتبه الكاتبون عن كتاب الله –تعالى- ، وهاأنذا –أخي القارئ- أقدم لك تفسيراً وسيطا لسورتي الفاتحة والبقرة ، وقد بذلت فيه أقصى جهدي ليكون تفسيراً علمياً محققاً ، محرراً من الأقوال الضعيفة ، والشبه الباطلة ، والمعاني السقيمة . .
وستلاحظ خلال قراءتك له أنني كثيراً ما أبدأ بشرح الألفاظ القرآنية شرحا لغوياً مناسبا ثم أبين المراد منها –إذا كان الأمر يقتضي ذلك- .
ثم أذكر سبب النزول للآية أو الآيات –إذا وجد وكان مقبولا- .
ثم أذكر المعنى الإجمالي للآية أو الجملة ، عارضا( {[11]} ) ما اشتملت عليه من وجوه البلاغة والبيان ، والعظات والآداب والأحكام . . . ، مدعما ذلك بما يؤيد المعنى من آيات أخرى ، ومن الأحاديث النبوية ، ومن أقوال السلف الصالح .
وقد تجنبت التوسع في وجوه الإعراب ، واكتفيت بالرأي أو الآراء الراجحة إذا تعددت الأقوال . . .
وذلك لأنني توخيت فيما كتبت إبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة ، وأحكام سامية ، وتشريعات جليلة ، وآداب فاضلة ، وعظات بليغة ، وأخبار صادقة ، وتوجيهات نافعة ، وأساليب بليغة ، وألفاظ فصيحة . . .
والله أسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا ، وبهجة أفئدتنا ، وأن يعيننا ويوفقنا لإتمام ما بدأناه من خدمة كتابه ، وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهه ، ونافعة لعباده .
{ بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ }
الاسم : اللفظ الذي يدل على ذات أو معنى . وقد اختلف النحويون فى اشتقاقه على وجهين ، فقال البصريون : هو مشتق من السمو ، ، فقيل : اسم ، لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به .
وقال الكوفيون : إنه مشتق من السمة وهى العلامة ، لأن الاسم علامة لمن وضع له ، فأصل اسم على هذا " وسم " .
ويرى المحققون أن رأى البصريين أرجح ، لأنه يقال فى تصغير " اسم " سُمىَ ، وفى جمعه أسماء ، والتصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها . ولو كان أصله وسم - كما قال الكوفيون - لقيل في جمعه : أوسام ، وفى تصغيره وسيم .
ولفظ الجلالة وهو " الله " علم على ذات الخالق - عز وجل - تفرد به - سبحانه - ولا يطلق على غيره ، ولا يشاركه فيه أحد . قال القرطبى : قوله " الله " هذا الاسم أكبر أسمائه - سبحانه - وأجمعها حتى قال بعض العلماء : إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره ، ولذلك لم يثن ولم يجمع : فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإِلهية ، المنعوت بنعوت الربوبية ، المنفرد بالوجود الحقيقي ، لا إله إلا هو - سبحانه -
و { الرحمن الرحيم } صفتان مشتقتان من الرحمة . والرحمة فى أصل اللغة : رقة في القلب تقتضى الإِحسان ، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفًا لله - تعالى- ، ولذا فسرها بعض العلماء بإرادة الإِحسان . وفسرها آخرون بالإِحسان نفسه .
والموافق لمذهب السلف أن يقال : هي صفة قائمة بذاته - تعالى - لا نعرف حقيقتها ، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإِحسان .
وقد كثرت أقوال المفسرين في العلاقة بين هاتين الصفتين ، فبعضهم يرى أن { الرحمن } هو المنعم على جميع الخلق . وأن { الرحيم } هو المنعم على المؤمنين خاصة . ويرى آخرون أن { الرحمن } هو المنعم بجلائل النعم ، وأن { الرحيم } هو المنعم بدقائقها .
ويرى فريق ثالث أن الوصفين بمعنى واحد وأن الثاني منهما تأكيد للأول . والذي يراه المحققون من العلماء أن الصفتين ليستا بمعنى واحد ، بل روعي في كل منهما معنى لم يراع في الآخر ، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة ، لأن فعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته ، ويلزم منه الدوام كغضبان وسكران . والرحيم بمعنى دائم الرحمة ، لأن صيغته فعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف . فكأنه قيل : العظيم الرحمة الدائمة .
أو أن { الرحمن } صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة والإِحسان . و { الرحيم } صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإِحسان وتعديهما إلى المنعم عليه . ولعل مما يؤيد ذلك أن لفظ الرحمن لم يذكر في القرآن إلا مجرى عليه الصفات كما هو الشأنِ في أسماء الذات . قال - تعالى- : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } و { الرحمن عَلَى العرش استوى } { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } وهكذا . . .
أما لفظ الرحيم فقد كثر في القرآن استعماله وصفًا فعليًا ، وجاء فى الغالب بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه . قال - تعالى - { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } الخ .
قال بعض العلماء " وهذا الرأي في نظرنا هو أقوى الآراء ، فإن تخصيص أحد الوصفين بدقائق النعم أو ببعض المنعم عليهم لا دليل عليه ، كما أنه ليس مستساغاً أن يقال فى القرآن : إن كلمة ذكرت بعد أخرى لمجرد تأكيد المعنى المستفاد منها " .
والجار والمجرور " بسم " متعلق بمحذوف تقديره أبتدئ . والمعنى : أبتدئ قراءتي متبركًا ومتيمنًا باسم الله الذي هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، والذي رحمته وسعت كل شئ ، وأتبرأ مما كان يفعله المشركون والضالون ، من ابتدائهم قراءتهم وأفعالهم باسم اللات أو باسم العزى أو باسم غيرهما من الآلهة الباطلة .
هذا وقد أجمع العلماء على أن البسملة جزء آية من سورة النمل في قوله - تعالى - { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم } ثم اختلفوا بعد ذلك فى كونها آية مستقلة أنزلت للفصل بين السور مرة واحدة ، أو هي آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة الخ .
فبعضهم يرى أن البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة ، ومن حججهم أن السلف قد أثبتوها فى المصحف مع الأمر بتجريد القرآن مما ليس منه ، ولذا لم يكتبوا " آمين " . فثبت بهذا أن البسملة جزء من الفاتحة ومن كل سورة . وبهذا الرأي قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن جبير والشافعي ، وأحمد في أحد قوليه . ويرى آخرون أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وقالوا : إنها آية فذة . من القرآن أنزلت للفصل والتبرك للابتداء بها ، ومن حججهم أنها لو كانت آية من الفاتحة ومن كل سورة ، لما اختلف الناس في ذلك ، ولما اضطربت أقوالهم في كونها آية من كل سورة أو من الفاتحة فقط . وكما وقع الخلاف بين العلماء في كونها آية مستقلة أو آية من كل سورة ، فقد وقع الخلاف بينهم - أيضًا - في وجوب قراءتها في الصلاة ، وفى الجهر بها أو الإِسرار إذا قرئت . وتحقيق القول في ذلك مرجعه إلى كتب الفقه ، وإلى كتب التفسير التي عنيت بتفسير آيات الأحكام .
وتسمى أم القرآن ، لأنها مفتتحه ومبدؤه ، فكأنها أصله ومنشؤه ، ولذلك تسمى أساسا .
أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله سبحانه وتعالى ، والتعبد بأمره ونهيه وبيان وعده ووعيده . أو على جملة معانيه من الحكم النظرية ، والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء . وسورة الكنز والوافية والكافية لذلك . وسورة الحمد والشكر والدعاء . وتعليم المسألة لاشتمالها عليها والصلاة لوجوب قراءتها أو استحبابها فيها . والشافية والشفاء لقوله عليه الصلاة والسلام : " هي شفاء من كل داء " . والسبع المثاني لأنها سبع آيات بالاتفاق ، إلا أن منهم من عد التسمية دون { أنعمت عليهم } ، ومنهم من عكس ، وتثنى في الصلاة ، أو الإنزال إن صح أنها نزلت بمكة حين فرضت الصلاة ، وبالمدينة حين حولت القبلة ، وقد صح أنها مكية لقوله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } ، وهو مكي بالنص .
{ بسم الله الرحمن الرحيم } من الفاتحة ، ومن كل سورة ، وعليه قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك رحمه الله تعالى والشافعي ، وخالفهم قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها ومالك والأوزاعي ، ولم ينص أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيه بشيء فظن أنها ليست من السورة عنده . وسئل محمد بن الحسن عنها فقال : ما بين الدفتين كلام الله تعالى . ولنا أحاديث كثيرة : منها ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ، أنه عليه الصلاة والسلام قال " فاتحة الكتاب سبع آيات ، أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم " . وقول أم سلمة رضي الله عنها " قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة وعد " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين " آية ومن أجلهما اختلف في أنها آية برأسها أم بما بعدها ، والإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله سبحانه وتعالى ، والوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن .
حتى لم تكتب آمين والباء متعلقة بمحذوف تقديره : بسم الله أقرأ لأن الذي يتلوه مقروء . وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له ، وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه . أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه ، وتقديم المعمول ههنا أوقع كما في قوله : { بسم الله مجراها } وقوله { إياك نعبد } لأنه أهم وأدل على الاختصاص ، وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسمه سبحانه وتعالى مقدم على القراءة ، كيف لا وقد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعا ما لم يصدر باسمه تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر " ، وقيل الباء للمصاحبة ، والمعنى متبركا باسم الله تعالى اقرأ ، وهذه وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه ، ويحمد على نعمه ، ويسأل من فضله ، وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح ، لاختصاصها باللزوم الحرفية والجر كما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما وبين لام الابتداء ، والاسم عند أصحابنا البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال ، وبينت أوائلها على السكون ، وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل ، لأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن . ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمى وسميت ومجيء سمى كهدى لغة فيه قال :
والله أسماك سمى مباركا *** آثرك الله به إيثاركا
والقلب بعيد غير مطرد ، واشتقاقه من السمو لأنه رفعة للمسمى وشعار له . ومن السمة عند الكوفيين ، وأصله وسم حذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلاله . ورد بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم ، ومن لغاته سم وسم قال :
بسم الذي في كل سورة سمه *** . . .
والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى ، لأنه يتألف من أصوات متقطعة غير قارة ، ويختلف باختلاف الأمم والأعصار ، ويتعدد تارة ويتحد أخرى . والمسمى لا يكون كذلك ، وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى وقوله تعالى : { تبارك اسم ربك } و{ سبح اسم ربك } المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى وصفاته عن النقائص ، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب . أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** . . .
وإن أريد به الصفة ، كما هو رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري ، انقسم انقسام الصفة عنده : إلى ما هو نفس المسمى ، وإلى ما هو غيره ، وإلى ما ليس هو ولا غيره . وإنما قال بسم الله ولم يقل بالله ، لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه . أو للفرق بين اليمين والتيمن .
ولم تكتب الألف على ما هو وضع الخط لكثرة الاستعمال وطولت الباء عوضا عنها . والله أصله إله ، فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام ولذلك قيل : يا الله ، بالقطع إلا أنه مختص بالمعبود بالحق . والإله في الأصل لكل معبود ، ثم غلب على المعبود بالحق . واشتقاقه من أله ألهة وألوهة وألوهية بمعنى عبد ، ومنه تأله واستأله ، وقيل من أله إذا تحير لأن العقول تتحير في معرفته . أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه ، لأن القلوب تطمئن بذكره ، والأرواح تسكن إلى معرفته . أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه ، وآلهة غيره أجاره إذ العائذ يفزع إليه وهو يجيره حقيقة أو بزعمه . أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه ، إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد . أو من وله إذا تحير وتخبط عقله ، وكان أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه ، فقيل إله كإعاء وإشاح ، ويرده الجمع على آلهة دون أولهة . وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها ولاها ، إذا احتجب وارتفع لأنه سبحانه وتعالى محجوب عن إدراك الأبصار ، ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به ويشهد له قول الشاعر :
كحلفة من أبي رباح *** يشهدها لاهه الكبار
وقيل علم لذاته المخصوصة لأنه يوصف ولا يوصف به ، ولأنه لا بد له من اسم تجري عليه صفاته ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه ، ولأنه لو كان وصفا لم يكن قول : لا إله إلا الله ، توحيدا مثل : لا إله إلا الرحمن ، فإنه لا يمنع الشركة ، والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل : الثريا والصعق أجرى مجراه في أجراء الأوصاف عليه ، وامتناع الوصف به ، وعدم تطرق احتمال الشركة إليه ، لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر ، فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ، ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله سبحانه وتعالى { وهو الله في السماوات } معنى صحيحا ، ولأن معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب ، وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة ، وقيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الأخيرة ، وإدخال اللام عليه ، وتفخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة ، وقيل مطلقا ، وحذف ألفه لحن تفسد به الصلاة ، ولا ينعقد به صريح اليمين ، وقد جاء لضرورة الشعر :
ألا لا بارك الله في سهيل *** إذا ما الله بارك في الرجال
و{ الرحمن الرحيم } اسمان بنيا للمبالغة من رحم ، كالغضبان من غضب ، والعليم من علم ، والرحمة في اللغة : رقة القلب ، وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان ، ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها . وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات . و{ الرحمن } أبلغ من { الرحيم } ، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قطع وقطع وكبار وكبار ، وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية ، وأخرى باعتبار الكيفية ، فعلى الأول قيل : يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ، ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن ، وعلى الثاني قيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الدنيا ، لأن النعم الأخروية كلها جسام ، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة ، وإنما قدم والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، لتقدم رحمة الدنيا ، ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها ، وذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه وإنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج رقة الجنسية أو حب المال عن القلب ، ثم إنه كالواسطة في ذلك لأن ذات النعم ووجودها ، والقدرة على إيصالها ، والداعية الباعثة عليه ، والتمكن من الانتفاع بها ، والقوى التي بها يحصل الانتفاع ، إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره . أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأوصلها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها ، فيكون كالتتمة والرديف له .
والأظهر أنه غير مصروف وإن حظر اختصاصه بالله تعالى أن يكون له مؤنث على فعلى أو فعلانة إلحاقا له بما هو الغالب في بابه . وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور ، هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها ، جليلها وحقيرها ، فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس ، ويتمسك بحبل التوفيق ، ويشغل سره بذكره والاستعداد به عن غيره .
سورة الفاتحة من السور ذات الأسماء الكثيرة : أنهاها صاحب الإتقان إلى نيف وعشرين بين ألقاب وصفات جرت على ألسنة القراء من عهد السلف ، ولم يثبت في السنة الصحيحة والمأثور من أسمائها إلا فاتحة الكتاب ، والسبع المثاني ، وأم القرآن ، أو أم الكتاب ، فلنقتصر على بيان هذه الأسماء الثلاثة .
فأما تسميتها فاتحة الكتاب فقد ثبتت في السنة في أحاديث كثيرة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، وفاتحة مشتقة من الفتح وهو إزالة حاجز عن مكان مقصود ولُوجه فصيغتها تقتضي أن موصوفها شيء يزيل حاجزا ، وليس مستعملا في حقيقته بل مستعملا في معنى أول الشيء تشبيها للأول بالفاتح لأن الفاتح للباب هو أول من يدخل ، فقيل الفاتحة في الأصل مصدر بمعنى الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب ، والباقية بمعنى البقاء في قوله تعالى { فهل ترى لهم من باقية } وكذلك الطاغية في قوله تعالى : { فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية } في قول ابن عباس أي بطغيانهم .
والخاطئة بمعنى الخطأ والحاقة بمعنى الحق . وإنما سمي أول الشيء بالفاتحة إما تسمية للمفعول بالمصدر الآتي على وزن فاعلة لآن الفتح يتعلق بأول أجزاء الفعل ففيه يظهر مبدأ المصدر ، وإما على اعتبار الفاتحة اسم فاعل ثم جعلت اسما لأول الشيء ؛ إذ بذلك الأول يتعلق الفتح بالمجموع فهو كالباعث على الفتح ، فالأصل فاتح الكتاب ، وأدخلت عليه هاء التأنيث دلالة على النقل من الوصفية إلى الاسمية أي إلى معاملة الصفة معاملة الاسم في الدلالة على ذات معينة لا على ذي وصف ، مثل الغائبة في قوله تعالى { وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين } ومثل العافية والعاقبة .
قال التفتزاني في شرح الكشاف : ولعدم اختصاص الفاتحة والخاتمة بالسورة ونحوها كانت التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية وليست لتأنيث الموصوف في الأصل ، لأنهم يقولون فاتحة وخاتمة دائما لا في خصوص جريانه على موصوف مؤنث كالسورة والقطعة ، وذلك كقولهم فلان خاتمة العلماء ، وكقول الحريري في المقامة الأولى أدتني خاتمة المطاف ، وهدتني فاتحة الألطاف . وأيا ما كان ففاتحة وصف وصف به مبدأ القرآن وعومل معاملة الأسماء الجنسية ، ثم أضيف إلى الكتاب ثم صار هذا المركب علما بالغلبة على هذه السورة .
ومعنى فتحها الكتاب أنها جعلت أول القرآن لمن يريد أن يقرأ القرآن من أوله فتكون فاتحة بالجعل النبوي في ترتيب السور ، وقيل لأنها أول ما نزل وهو ضعيف لما ثبت في الصحيح واستفاض أن أول ما أنزل سورة { اقرأ باسم ربك } وهذا مما لا ينبغي أن يتردد فيه . فالذي نجزم به أن سورة الفاتحة بعد أن نزلت أمر الله رسوله أن يجعلها أول ما يقرأ في تلاوته .
وإضافة سورة إلى فاتحة الكتاب في قولهم سورة فاتحة الكتاب من إضافة العام إلى الخاص باعتبار فاتحة الكتاب علما على المقدار المخصوص من الآيات من الحمد لله إلى الضالين ، بخلاف إضافة سورة إلى ما أضيفت إليه في بقية سور القرآن فإنها على حذف مضاف أي سورة ذكر كذا ، وإضافة العام إلى الخاص وردت في كلام العرب مثل قولهم شجر الأراك ويوم الأحد وعلم الفقه ، ونراها قبيحة لو قال قائل : إنسان زيد ، وذلك باد لمن له أدنى ذوق إلا أن علماء العربية لم يفصحوا عن وجه الفرق بين ما هو مقبول من هذه الإضافة وبين ما هو قبيح فكان حقا أن أبين وجهه : وذلك ان إضافة العام إلى الخاص تحسن إذا كان المضاف والمضاف إليه اسمي جنس وأولهما أعم من الثاني ، فهنالك يجوز التوسع بإضافة الأعم إلى الأخص إضافة مقصودا منها الاختصار ، ثم تكسبها غلبة الاستعمال قبولا نحو قولهم شجر الأراك ، عوضا أن يقولوا : الشجر الذي هو الأراك ، ويوم الأحد عوضا عن أن يقولوا : يوم هو الأحد . وقد يكون ذلك جائزا غير مقبول لأنه لم يشع في الاستعمال كما لو قلت حيوان الإنسان ؛ فأما إذا كان المتضايفان غير اسم جنس فالإضافة في مثله ممتنعة فلا يقال : إنسان زيد . ولهذا جعل قول الناس شهر رمضان علما على الشهر المعروف بناءا على أن لفظ رمضان خاص بالشهر المعروف لا يحتمل معنى آخر ، فتعين أن يكون ذكر كلمة شهر معه قبيحا لعدم الفائدة منه لولا أنه شاع حتى صار مجموع المركب الإضافي علما على ذلك الشهر .
ويصح عندي أن تكون إضافة السورة إلى فاتحة الكتاب من إضافة الموصوف إلى الصفة ، كقولهم : مسجد الجامع ، وعشاء الآخرة ، أي سورة موصوفة بأنها فاتحة الكتاب فتكون الإضافة بيانية ، ولم يجعلوا لها اسما استغناء بالوصف ، كما يقول المؤلفون مقدمة أو باب بلا ترجمة ثم يقولون باب جامع مثلا ، ثم يضيفونه فيقولون : باب جامع الصلاة .
وأما إضافة فاتحة إلى الكتاب فإضافة حقيقية باعتبار أن المراد من الكتاب بقيته عدا السورة المسماة الفاتحة ، كما نقول : خطبة التأليف ، وديباجة التقليد .
وأما تسميتها أم القرآن وأم الكتاب فقد ثبتت في السنة ، من ذلك ما في صحيح البخاري في كتاب الطب أن أبا سعيد الخدري رقى ملدوغا فجعل يقرأ عليه بأم القرآن ، وفي الحديث قصة ، ووجه تسميتها أم القرآن أن الأم يطلق على أصل الشيء ومنشئه ، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم : كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج أي منقوصة مخدوجة . وقد ذكروا لتسمية الفاتحة أم القرآن وجوها ثلاثة :
أحدها أنها مبدؤه ومفتتحه فكأنها أصله ومنشؤه ، يعني أن افتتاحه الذي هو وجود أول أجزاء القرآن قد ظهر فيها فجعلت كالأم للولد في أنها الأصل والمنشأ فيكون أم القرآن تشبيها بالأم التي هي منشأ الولد لمشابهتها بالمنشأ من حيث ابتداء الظهور والوجود .
الثاني أنها تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن وهي ثلاثة أنواع : الثناء على الله ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه من جميع النقائص ، ولإثبات تفرده بالإلهية وإثبات البعث والجزاء وذلك من قوله { الحمد لله } إلى قوله { ملك يوم الدين } ، والأوامر والنواهي من قوله { إياك نعبد } والوعد والوعيد من قوله { صراط الذين } إلى آخرها ، فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله ، وغيرها تكملات لها لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين وذلك يحصل بالأوامر والنواهي ، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق معنى الصفات ، ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد . والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع فإن قوله { الحمد لله } إلى قوله { يوم الدين } حمد وثناء ، وقوله { إياك نعبد } إلى قوله { المستقيم } من نوع الأوامر والنواهي ، وقوله صراط الذين إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد مع أن ذكر المغضوب عليهم والضالين يشير أيضا إلى نوع قصص القرآن ، وقد يؤيد هذا الوجه بما ورد في الصحيح في { قل هو الله أحد } أنها تعدل ثلث القرآن لأن ألفاظها كلها ثناء على الله تعالى .
الثالث أنها تشتمل معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فإن معاني القرآن إما علوم تقصد معرفتها وإما أحكام يقصد منها العمل بها ، فالعلوم كالتوحيد والصفات والنبوءات والمواعظ والأمثال والحكم والقصص ، إما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات ، وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة ، وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام :
ف{ الحمد لله } يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة { الحمد لله } من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص كما سيأتي و{ رب العالمين } يشمل سائر صفات الأفعال والتكوين عند من أثبتها .
و{ الرحمن الرحيم } يشمل أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين ، و{ ملك يوم الدين } يشمل أحوال القيامة .
و{ إياك نعبد } يجمع معنى الديانة والشريعة . و{ إياك نستعين } يجمع معنى الإخلاص لله في الأعمال . قال عز الدين بن عبد السلام في كتابه حل الرموز ومفاتيح الكنوز : الطريقة إلى الله لها ظاهر أي عمل ظاهر أي بدني وباطن أي عمل قلبي فظاهرها الشريعة وباطنها الحقيقة ، والمراد من الشريعة والحقيقة إقامة العبودية على الوجه المراد من المكلف . ويجمع الشريعة والحقيقة كلمتان هما قوله { إياك نعبد وإياك نستعين } { فإياك نعبد } شريعة { وإياك نستعين } حقيقة ، اهـ .
و{ اهدنا الصراط المستقيم } يشمل الأحوال الإنسانية وأحكامها من عبادات ومعاملات وآداب ، و{ صراط الذين أنعمت عليهم } يشير إلى أحوال الأمم والأفراد الماضية الفاضلة .
وقوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } يشمل سائر قصص الأمم الضالة ويشير إلى تفاصيل ضلالاتهم المحكية عنهم في القرآن ، فلا جرم يحصل من معاني الفاتحة-تصريحا وتضمنا-علم إجمالي بما حواه القرآن من الأغراض . وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على حسب التمكن والقابلية . ولأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصا على التذكر لما في مطاويها .
وأما تسميتها السبع المثاني فهي تسمية ثبتت بالسنة ، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد ابن المعلى{[1]} أن رسول الله قال الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ووجه تسميتها بذلك أنها سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري فقال هي ثمان آيات ، وإلا الحسين{[2]} الجعفي فقال هي ست آيات ، وقال بعض الناس تسع آيات ويتعين حينئذ كون البسملة ليست من الفاتحة لتكون سبع آيات ومن عد البسملة أدمج آيتين . وأما وصفها بالمثاني فهو مفاعل جمع مثنى بضم الميم وتشديد النون ، أو مثنى مخفف مثنى ، أو مثنى بفتح الميم مخفف مثني كمعنى مخفف معني . ويجوز تأنيث الجميع كما نبه عليه السيد الجرجاني في شرح الكشاف . وكل ذلك مشتق من التثنية وهي ضم ثان إلى أول .
ووجه الوصف به أن تلك الآيات تثنى في كل ركعة كذا في الكشاف . قيل وهو مأثور عن عمر بن الخطاب ، وهو مستقيم لأن معناه أنها تضم إليها السورة في كل ركعة ، ولعل التسمية بذلك كانت في أول فرض الصلاة فإن الصلوات فرضت ركعتين ثم أقرت صلاة السفر وأطيلت صلاة الحضر كذا ثبت في حديث عائشة في الصحيح وقيل العكس ، وقيل لأنها تثنى في الصلاة أي تكرر فتكون التثنية بمعنى التكرير بناء على ما شاع عند العرب من استعمال المثنى في مطلق المكرر نحو { ثم ارجع البصر كرتين } وقولهم لبيك وسعديك ، وعليه فيكون المراد بالمثاني هنا مثل المراد بالمثاني في قوله تعالى { كتابا متشابها مثاني } أي مكرر القصص والأغراض . وقيل سميت المثاني لأنها ثنيت في النزول فنزلت بمكة ثم نزلت في المدينة وهذا قول بعيد جدا وتكرر النزول لا يعتبر قائله ، وقد اتفق على أنها مكية فأي معنى لإعادة نزولها بالمدينة .
وهذه السورة وضعت في أول السور لأنها تنزل منها منزل ديباجة الخطبة أو الكتاب ، مع ما تضمنته من أصول مقاصد القرآن كما علمت آنفا وذلك شأن الديباجة من براعة الاستهلال . وهذه السورة مكية باتفاق الجمهور ، وقال كثير إنها أول سورة نزلت ، والصحيح أنه نزل قبلها { اقرأ باسم ربك } وسورة المدثر ثم الفاتحة ، وقيل نزل قبلها أيضا { ن~ والقلم } وسورة المزمل ، وقال بعضهم هي أول سورة نزلت كاملة أي غير منجمة ، بخلاف سورة القلم ، وقد حقق بعض العلماء أنها نزلت عند فرض الصلاة فقرأ المسلمون بها في الصلاة عند فرضها ، وقد عدت في رواية عن جابر بن زيد السورة الخامسة في ترتيب نزول السور . وأيا ما كان فإنها قد سماها النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب وأمر بأن تكون أول القرآن .
قلت : ولا يناكد ذلك نزولها بعد سور أخرى لمصلحة اقتضت سبقها قبل أن يتجمع من القرآن مقدار يصير به كتابا فحين تجمع ذلك أنزلت الفاتحة لتكون ديباجة الكتاب . وأغراضها قد علمت من بيان وجه تسميتها أم القرآن .
وهي سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ، ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري ، قال هي ثمان آيات ، ونسب أيضا لعمرو بن عبيد وإلى الحسين الجعفي{[3]} قال هي ست آيات ، ونسب إلى بعضهم غير معين أنها تسع آيات ، وتحديد هذه الآيات السبع هو ما دل عليه حديث الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل ، قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، يقول العبد { الحمد لله رب العالمين } ، فأقول حمدني عبدي ، فإذا قال العبد { الرحمن الرحيم } ، يقول الله أثنى علي عبدي ، وإذا قال العبد { مالك يوم الدين } ، قال الله مجدني عبدي ، وإذا قال { إياك نعبد وإياك نستعين } ، قال الله : هذا بيني وبين عبدي ، وإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } ، قال الله هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل اهـ .
فهن ثلاث ثم واحدة ثم ثلاث ، فعند أهل المدينة لا تعد البسملة آية وتعد { أنعمت عليهم } آية ، وعند أهل مكة وأهل الكوفة تعد البسملة آية وتعد { أنعمت عليهم } جزء آية ، والحسن البصري عد البسملة آية وعد { أنعمت عليهم } آية .
البسملة اسم لكلمة باسم الله ، صيغ هذا الاسم على مادَّةٍ مؤلفة من حروف الكلمتين باسم والله على طريقة تسمى النَّحْت ، وهو صوغ فعلِ مُضِيٍ على زنة فَعْلَل مؤلفةٍ مادِّتُه من حروف جملة أو حروفِ مركَّب إِضَافِيَ ، مما ينطق به الناس اختصاراً عن ذكر الجملة كلها لقصد التخفيف لكثرة دوران ذلك على الألسنة . وقد استعمل العرب النحت في النَّسَب إلى الجملة أو المركب إذا كان في النسبِ إلى صدر ذلك أو إلى عَجزه التباس ، كما قالوا في النسبة إلى عبد شمس عَبْشَمِيّ خشية الالتباس بالنسب إلى عبدٍ أو إلى شمس ، وفي النسبة إلى عبد الدار عَبْدَرِيّ كذلك وإلى حضرموت حضرمي قال سيبويه في باب الإضافة ( أي النسَب ) إلى المضاف من الأسماء : « وقد يجعلون للنسب في الإضافة اسماً بمنزلة جَعْفَري ويجعلون فيه من حروف الأول والآخر ولا يخرجونه من حروفهما ليُعْرَف » ا هـ ، فجاء من خلفهم من مولدي العرب واستعملوا هذه الطريقة في حكاية الجمل التي يكثر دورانها في الألسنة لقصد الاختصار ، وذلك من صدر الإسلام فصارت الطريقة عربية . قال الراعي :
قَومٌ على الإسلام لَمَّا يمنعوا *** ماعونَهم ويُضيِّعوا التَهْلِيلا
أي لم يتركوا قول : لا إله إلا الله . وقال عُمر بن أبي ربيعة :
لقد بسملت ليلَى غداةَ لقيتُها *** ألا حَبَّذا ذاك الحبيبُ المُبَسْمِلُ
أي قالت بسم الله فَرَقاً منه ، فأصل بسمل قال بسم الله ثم أطلقه المولدون على قول بسم الله الرحمن الرحيم ، اكتفاء واعتماداً على الشهرة وإن كان هذا المنحوتُ خِليَّاً من الحاء والراء اللذين هما من حروف الرحمان الرحيم ، فشاع قولهم بسمل في معنى قال بسم الله الرحمن الرحيم ، واشتق من فعل بسمل مصدر هو البسملة كما اشتق من هَلَّل مصدر هو الهيللة وهو مصدر قياسي لفعلل . واشتق منه اسم فاعل في بيت عمر بن أبي ربيعة ولم يسمع اشتقاق اسم مفعول .
ورأيت في « شرح ابن هارون التونسي على مختصر ابن الحاجب »{[46]} في باب الأذان عن المطرز في كتاب « اليواقيت » : الأفعالُ التي نحتت من أسمائها سبعة : بَسْمَلَ في بسم الله ، وسَبْحَلَ في سبحان الله ، وحَيْعَلَ في حي على الصلاة ، وحَوْقَلَ في لا حول ولا قوة إلا بالله ، وحَمْدَلَ في الحمدُ لله ، وهَلَّل في لا إله إلا الله ، وجَيْعَل إذا قال : جُعلت فِداك ، وزاد الطَّيْقَلَة في أَطال الله بقاءك ، والدَّمْعَزَةَ في أدام الله عزك .
ولَما كان كثير من أيمة الدين قائلاً بأنها آية من أوائل جميع السور غير براءة أو بعض السور تعين على المفسر أن يفسر معناها وحكمها وموقعها عند من عدوها آية من بعض السور . وينحصر الكلام عليها في ثلاثة مباحث . الأول : في بيان أهي آية من أوائل السور أم لا ؟ .
الثاني : في حكم الابتداء بها عند القراءة . الثالث في تفسير معناها المختص بها .
فأما المبحث الأول فهو أن لا خلاف بين المسلمين في أن لفظ { بسم الله الرحمن الرحيم } هو لفظ قرآني لأنه جزء آية من قوله تعالى : { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } [ النمل : 30 ] كما أنهم لم يختلفوا في أن الافتتاح بالتسمية في الأمور المهمة ذوات البال ورد في الإسلام ، وروي فيه حديث : " كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع " لم يروه أصحاب « السنن » ولا « المستدركات » ، وقد وصف بأنه حسن ، وقال الجمهور إن البسملة رسمها الذين كتبوا المصاحف في أوائل السور ما عدا سورة براءة ، كما يؤخذ من محادثة ابن عباس مع عثمان ، وقد مضت في المقدمة الثامنة ، ولم يختلفوا في أنها كتبت في المصحف في أول سورة الفاتحة وذلك ليس موضع فصل السورة عما قبلها ، وإنما اختلفوا في أن البسملة هل هي آية من سورة الفاتحة ومن أوائل السور غير براءة ، بمعنى أن الاختلاف بينهم ليس في كونها قرآناً ، ولكنه في تكرر قرآنيتها كما أشار إليه ابن رشد الحفيد في « البداية » ، فذهب مالك والأوزاعي وفقهاء المدينة والشام والبصرة وقيل باستثناء عبد الله بن عمرو ابن شهاب من فقهاء المدينة إلى أنها ليست بآية من أوائل السور لكنها جزء آية من سورة النمل ، وذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وفقهاء مكة والكوفة غير أبي حنيفة ، إلى أنها آية في أول سورة الفاتحة خاصة ، وذهب عبد الله بن المبارك والشافعي في أحد قوليه وهو الأصح عنه إلى أنها آية من كل سورة . ولم ينقل عن أبي حنيفة من فقهاء الكوفة فيها شيء ، وأخذ منه صاحب « الكشاف » أنها ليست من السور عنده فعَدَّه في الذين قالوا بعدم جزئيتها من السور وهو الصحيح عنه . قال عبد الحكيم لأنه قال بعدم الجهر بها مع الفاتحة في الصلاة الجهرية وكره قراءتها في أوائل السور الموصولة بالفاتحة في الركعتين الأوليين . وأَزِيدُ فأقول إنه لم ير الاقتصار عليها في الصلاة مجزئاً عن القراءة .
أما حجة مذهب مالك ومن وافقه فلهم فيها مسالك : أحدها من طريق النظر ، والثاني من طريق الأثر ، والثالث من طريق الذوق العربي .
فأما المسلك الأول : فللمالكية فيه مقالة فائقة للقاضي أبي بكر الباقلاني وتابَعَه أبو بكر ابن العربي في « أحكام القرآن » والقاضي عبد الوهاب في كتاب « الإشراف » ، قال الباقلاني : « لو كانت التسمية من القرآن لكان طريق إثباتها إما التواتر أو الآحاد ، والأول : باطل لأنه لو ثبت بالتواتر كونها من القرآن لحصل العلم الضروري بذلك ولامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأُمَّة ، والثاني : أيضاً باطل لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلو جعلناه طريقاً إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية ، ولصار ذلك ظنياً ، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف » ا هـ وهو كلام وجيه والأقيسة الاستثنائية التي طواها في كلامه واضحة لمن له ممارسة للمنطق وشرطياتها لا تحتاج للاستدلال لأنها بديهية من الشريعة فلا حاجة إلى بسطها .
زاد أبو بكر بن العربي في « أحكام القرآن » فقال : يكفيك أنها ليست من القرآن الاختلافُ فيها ، والقرآن لا يُختلف فه ا هـ . وزاد عبد الوهاب فقال : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القرآن بياناً واحداً متساوياً ولم تكن عادته في بيانه مختلفة بالظهور والخفاء حتى يختص به الواحد والاثنان ؛ ولذلك قطعنا بمنع أن يكون شيء من القرآن لم ينقل إلينا وأبطلنا قول الرافضة إن القرآن حِمْل جَمَل عند الإمام المعصوم المنتظر فلو كانت البسملة من الحمد لبيّنها رسول الله بياناً شافياً » ا هـ .
وقال ابن العربي في « العارضة » : إن القاضي أبا بكر بن الطيب ، لم يتكلم من الفقه إلا في هذه المسألة خاصة لأنها متعلقة بالأصول .
وقد عارض هذا الدليل أبو حامد الغزالي في « المستصفى » فقال : « نُفي كون البسملة من القرآن أيضاً إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف ( أي وهو ظاهر البطلان ) وإن ثبت بالآحاد يصير القرآن ظنياً ، قال : ولا يقال : إن كون شيء ليس من القرآن عدم والعدم لا يحتاج إلى الإثبات لأنه الأصل بخلاف القول بأنها من القرآن ، لأنّا نجيب بأن هذا وإن كان عدماً إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهن كونها ليست من القرآن فهاهنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بالدليل ويأتي الكلام في أن الدليل ما هو ، فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه ا هـ ، وتبعه على ذلك الفخر الرازي في « تفسيره » ولا يخفى أنه آل في استدلاله إلى المصادرة إذ قد صار مرجع استدلال الغزالي وفخر الدين إلى رسم البسملة في المصاحف ، وسنتكلم عن تحقيق ذلك عند الكلام على مدرك الشافعي . وتعقب ابن رشد في « بداية المجتهد » كلام الباقلاني والغزالي بكلام غير محرر فلا نطيل به .
وأما المسلك الثاني : وهو الاستدلال من الأثر فلا نجد في صحيح السنة ما يشهد بأن البسملة آية من أوائل سور القرآن والأدلة ستة :
الدليل الأول : ما روى مالك في « الموطأ » عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، يقول العبد : { الحمد لله رب العالمين } ، فأقول : حمدني عبدي " الخ ، والمراد في الصلاة القراءة في الصلاة ووجه الدليل منه أنه لم يذكر بسم الله الرحمن الرحيم .
الثاني : حديث أُبيّ بن كعب في « الموطأ » و« الصحيحين » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " ألا أعلمك سورة لم يُنْزَل في التوراة ولا في الإنجيل مثُلها قبل أن تخرج من المسجد " ؟ قال : بلى ، فلما قارب الخروج قال له : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ قال أبيٌّ فقرأت { الحمد لله رب العالمين } حتى أتيت على آخرها ، فهذا دليل على أنه لم يقرأ منها البسملة .
الثالث : ما في « صحيح مسلم » و« سنن أبي داود » و« سنن النسائي » عن أنس بن مالك من طرق كثيرة أنه قال : صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، لا في أول قراءة ولا في آخرها .
الرابع : حديث عائشة في « صحيح مسلم » و« سنن أبي داود » قالت : كان رسول الله يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءةَ بالحمد الله رب العالمين .
الخامس : ما في « سنن الترمذي والنسائي » عن عبد الله بن مغفل قال : صليت مع النبيء وأبي بكر وعمر وعثمان ، فلم أسمع أحداً منهم يقول : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، إذا أنت صليت فقل { الحمد لله رب العالمين } .
السادس وهو الحاسم : عمل أهل المدينة ، فإن المسجد النبوي من وقت نزول الوحي إلى زمن مالك صلى فيه رسول الله والخلفاء الراشدون والأمراء وصلى وراءهم الصحابة وأهل العلم ولم يسمع أحد قرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في الصلاة الجهرية ، وهل يقول عالم أن بعض السورة جهر وبعضها سر ، فقد حصل التواتر بأن النبيء والخلفاء لم يجهروا بها في الجهرية ، فدل على أنها ليست من السورة ولو جهروا بها لما اختلف الناس فيها .
وهناك دليل آخر لم يذكروه هنا وهو حديث عائشة في بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتبر مرفوعاً إلى النبي ، وذلك قوله : « ففَجِئَه الملَك فقال : اقرأ قال رسول الله فقلت ما أنا بقارىء إلى أن قال فغطني الثالثة ثم قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق : 1 ] الحديث . فلم يقل فقال لي بسم الله الرحمن الرحيم { اقرأ بسم ربك } ، وقد ذكروا هذا في تفسير سورة العلق وفي شرح حديث بدء الوحي .
وأما المسلك الثالث وهو الاستدلال من طريق الاستعمال العربي فيأتي القول فيه على مراعاة قول القائلين بأن البسملة آية من سورة الفاتحة خاصة ، وذلك يوجب أن يتكرر لفظان وهما { الرحمن الرحيم } في كلام غير طويل ليس بينهما فصل كثير وذلك مما لا يحمد في باب البلاغة ، وهذا الاستدلال نقله الإمام الرازي في « تفسيره » وأجاب عنه بقوله : إن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن وإن تأكيد كونه تعالى رحماناً رحيماً من أعظم المهمات .
وأَنَا أَدْفع جوابه بأن التكرار وإن كانت له مواقع محمودة في الكلام البليغ مثل التهويل ، ومقام الرثاء أو التعديد أو التوكيد اللفظي ، إلا أن الفاتحة لا مناسبة لها بأغراض التكرير ولا سيما التوكيد لأنه لا منكر لكونه تعالى رحماناً رحيماً ، ولأن شأن التوكيد اللفظي أن يقترن فيه اللفظان بلا فصل فتعين أنه تكرير اللفظ في الكلام لوجود مقتضى التعبير عن مدلوله بطريق الاسم الظاهر دون الضمير ، وذلك مشروط بأن يبعد ما بين المكرَّرَيْن بُعداً يقصيه عن السمع ، وقد علمتَ أنهم عدوا في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار ، والقربُ بين الرحمن والرحيم حين كررا يمنع ذلك .
وأجاب البيضاوي بأن نكتة التكرير هنا هي تعليل استحقاق الحمد ، فقال السلكوتي أشار بهذا إلى الرد على ما قاله بعض الحنفية : إن البسملة لو كانت من الفاتحة للزم التكرار وهو جواب لا يستقيم لأنه إذا كان التعليل قاضياً بذكر صفتي { الرحمن الرحيم } فدفع التكرير يقتضي تجريد البسملة التي في أول الفاتحة من هاتين الصفتين بأن تصير الفاتحة هكذا : ( بسم الله الحمد لله الخ ) .
وأنا أرى في الاستدلال بمسلك الذوق العربي أن يكون على مراعاة قول القائلين بكون البسملة آية من كل سورة فينشأ من هذا القولِ أَنْ تكون فواتح سور القرآن كلُّها متماثلة وذلك مما لا يحمد في كلام البلغاء إذ الشأن أن يقع التفنن في الفواتح ، بل قد عد علماء البلاغة أَهَمَّ مواضع التأنق فاتحةَ الكلام وخاتمتَه ، وذكروا أن فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن وجوه البيان وأكملها فكيف يسوغ أن يُدَّعَى أَن فواتح سوره جملةٌ واحدة ، مع أن عامة البلغاء من الخطباء والشعراء والكتاب يتنافسون في تفنن فواتح منشآتهم ويعيبون من يلتزم في كلامه طريقة واحدة فما ظنك بأبلغ كلام .
وأما حجة مذهب الشافعي ومن وافقه بأنها آية من سورة الفاتحة خاصة فأمور كثيرة أنهاها فخر الدين إلى سبع عشرة حجة لا يكاد يستقيم منها بعد طرح المتداخل والخارج عن محل النزاع وضعيف السند أو واهيه إلا أمران : أحدهما أحاديث كثيرة منها ما روى أبو هريرة أن النبيء عليه الصلاة والسلام قال : " فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن { بسم الله الرحمن الرحيم } " وقول أم سلمة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة وعدَّ : { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } آية . الثاني : الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله .
والجواب : أما عن حديث أبي هريرة فهو لم يخرجه أحد من رجال الصحيح إنما خرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي فهو نازل عن درجة الصحيح فلا يعارض الأحاديث الصحيحة ، وأما حديث أم سلمة فلم يخرجه من رجال الصحيح غير أبي داود وأخرجه أحمد بن حنبل والبيهقي ، وصحح بعض طرقه وقد طعن فيه الطحاوي بأنه رواه ابن أبي مليكة ، ولم يثبت سماع ابن أبي مليكة من أم سلمة ، يعني أنه مقطوع ، على أنه روى عنها ما يخالفه ، على أن شيخ الإسلام زكرياء قد صرح في « حاشيته على تفسير البيضاوي » بأنه لم يرو باللفظ المذكور وإنما روي بألفاظ تدل على أن { بسم الله } آية وحدها ، فلا يؤخذ منه كونها من الفاتحة ، على أن هذا يفضي إلى إثبات القرآنية بغير المتواتر وهو ما يأباه المسلمون .
وأما عن الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله ، فالجواب أنه لا يقتضي إلا أن البسملة قرآن وهذا لا نزاع فيه ، وأما كون المواضع التي رسمت فيها في المصحف مما تجب قراءتها فيها ، فذلك أمر يتبع رواية القراء وأخبار السنة الصحيحة فيعود إلى الأدلة السابقة .
وهذا كله بناء على تسليم أن الصحابة لم يكتبوا أسماء السور وكونها مكية أو مدنية في المصحف وأن ذلك من صنع المتأخرين وهو صريح كلام عبد الحكيم في « حاشية البيضاوي » ، وأما إذا ثبت أن بعض السلف كتبوا ذلك كما هو ظاهر كلام المفسرين والأصوليين والقراء كما في « لطائف الإشارات » للقسطلاني وهو مقتضى كتابة المتأخرين لذلك لأنهم ما كانوا يجرأون على الزيادة على ما فعله السلف فالاحتجاج حينئذٍ بالكتابة باطل من أصله ودعوى كون أسماء السور كتبت بلون مخالف لحِبْر القرآن ، يرده أن المشاهد في مصاحف السلف أن حبرها بلون واحد ولم يكن التلوين فاشياً .
وقد احتج بعضهم بما رواه البخاري عن أنس أنه سئل كيف كانت قراءة النبيء ؟ فقال كانت مدًّا ثم قرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } يمد { بسم الله } ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم ، ا هـ ، ولا حجة في هذا لأن ضمير قرأ وضمير يمد عائدان إلى أنس ، وإنما جاء بالبسملة على وجه التمثيل لكيفية القراءة لشهرة البسملة .
وحجةُ عبد الله بن المبارك وثاني قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أنس قال : « بينا رسول الله بين أظهرنا ذات يوم إذْ أغفَى إِغفَاءَةً ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : أنزلت عليَّ سورة آنفاً فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر } [ الكوثر : 1 ] السورة ، قالوا وللإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله ولإثبات الصحابة إياها في المصاحف مع حرصهم على أن لا يدخلوا في القرآن ما ليس منه ولذلك لم يكتبوا آمين في الفاتحة .
والجواب عن الحديث أنا نمنع أن يكون قرأ البسملة على أنها من السورة بل افتتح بها عند إرادة القراءة لأنها تغني عن الاستعاذة إذا نوى المبسمل تقديرَ أستعيذ باسم الله وحذَفَ متعلق الفعل ، ويتعين حمله على نحو هذا لأن راويه أنساً بن مالك جزم في حديثه الآخر أنه لم يسمع رسول الله بسمل في الصلاة .
فإن أبوا تأويله بما تأولناه لزم اضطراب أنس في روايته اضطراباً يوجب سقوطها .
والحق البين في أمر البسملة في أوائل السور ، أنها كتبت للفصل بين السور ليكون الفصل مناسباً لابتداء المصحف ، ولئلا يكون بلفظ من غير القرآن ، وقد روى أبو داود في « سننه » والترمذي وصححه عن ابن عباس أنه قال : قلت لعثمان بن عفان : « ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين وإلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموهما في السبع الطوال ولم تكتبوا بينهما سطراً بسم الله الرحمن الرحيم » ، قال عثمان كان النبيء لما تنزل عليه الآياتُ فيدعو بعض من كان يكتب له ويقول له ضع هذه الآية بالسورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، أو تنزل عليه الآية والآيتان فيقول مثل ذلك ، وكانت الأنفال من أول ما أنزل عليه بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما أنزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقُبِض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها ، فظننتُ أنها منها ، فمن هناك وضعتُها في السبع الطوال ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم » .
وأرى في هذا دلالة بينة على أن البسملة لم تكتب بين السور غيرِ الأنفال وبراءةَ إلا حينَ جُمع القرآن في مصحف واحد زمن عثمان ، وأنها لم تكن مكتوبة في أوائل السور في الصحف التي جمعها زيد بن ثابت في خلافة أبي بكر إذ كانت لكل سورة صحيفة مفردة كما تقدم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير .
وعلى أن البسملة مختلف في كونها آية من أول كل سورة غيرِ براءة ، أو آية من أول سورة الفاتحة فقط ، أو ليست بآية من أول شيء من السور ؛ فإن القراء اتفقوا على قراءة البسملة عند الشروع في قراءة سورة من أولها غير براءة . ورووا ذلك عمن تلقَّوْا ، فأما الذين منهم يروون اجتهاداً أو تقليداً أن البسملة آية من أول كل سورة غيرِ براءة ، فأمرهم ظاهر ، وقراءة البسملة في أوائل السور واجبة عندهم لا محالة في الصلاة وغيرها ، وأما الذين لا يروون البسملة آية من أوائل السور كلها أو ما عدا الفاتحة فإن قراءتهم البسملة في أول السورة عند الشروع في قراءة سورة غير مسبوقة بقراءة سورة قبلها تُعلَّل بالتيمن باقتفاء أثر كُتَّاب المصحف ، أي قصد التشبُه في مجرد ابتداء فعل تشبيهاً لابتداء القراءة بابتداء الكتابة . فتكون قراءتهم البسملة أمراً مستحباً للتأسي في القراءة بما فعله الصحابة الكاتبون للمصحف ، فقراءة البسملة عند هؤلاء نظير النطْق بالاستعاذة ونظير التهليل والتكبير بين بعض السور مِن آخر المفصَّل ، ولا يبسملون في قراءة الصلاة الفريضة ، وهؤلاء إذا قرأوا في صلاة الفريضة تجري قراءتهم على ما انتهى إليه فهمهم من أمر البسملة من اجتهاد أو تقليد . وبهذا تعلم أنه لا ينبغي أن يؤخذ من قراءتهم قولٌ لهم بأن البسملة آية من أول كل سورة كما فعل صاحب « الكشاف » والبيضاوي .
واختلفوا في قراءة البسملة في غير الشروع في قراءة سورةٍ من أولها ، أي في قراءة البسملة بين السورتين .
فورش عن نافع في أشهر الروايات عنه وابنُ عامر ، وأبو عمرو ، وحمزة ، ويعقوبُ ، وخلف ، لا يبسملون بين السورتين وذلك يعلل بأن التشبُّه بفعل كتَّاب المصحف خاص بالابتداء ، وبحملهم رسمَ البسملة في المصحف على أنه علامة على ابتداء السورة لا على الفصل ، إذ لو كانت البسملة علامة على الفصل بين السورة والتي تليها لما كتبت في أول سورة الفاتحة ، فكان صنيعُهم وجيهاً لأنهم جمعوا بين ما روَوه عن سلفهم وبين دليلِ قصد التيمن ، ودليل رأيهم أن البسملة ليست آية من أول كل سورة .
وقالون عن نافع وابنُ كثير وعاصمٌ والكسائي وأبو جعفر يبسملون بين السورتين سوى ما بين الأنفال وبراءة ، وعدوه من سنة القراءة ، وليس حظهم في ذلك إلا اتباع سلفهم ، إذ ليس جميعهم من أهل الاجتهاد ، ولعلهم طردوا قصد التيمن بمشابهة كُتَّاب المصحف في الإشعار بابتداء السورة والإشعار بانتهاء التي قبلها .
واتفق المسلمون على ترك البسملة في أول سورة براءة وقد تبين وجه ذلك آنفاً ، ووجَّهه الأئمة بوجوه أخر تأتي في أول سورة براءة ، وذكر الجاحظ في « البيان والتبيين »{[47]} أن مُؤرِّجاً السَّدُوسي البصري سمع رجلاً يقول : « أميرُ المؤمنين يَرُدُّ على المظلوم » فرجع مؤرج إلى مُصحفه فردَّ على براءة بسم الله الرحمن الرحيم ، ويحمل هذا الذي صنعه مُؤَرج إن صح عنه إنما هو على التمليح والهزل وليس على الجد .
وفي هذا ما يدل على أن اختلاف مذاهب القراء في قراءة البسملة في مواضع من القرآن ابتداء ووصلاً كما تقدم لا أثر له في الاختلاف في حكم قراءتها في الصلاة ، فإن قراءتها في الصلاة تجري على أحكام النظر في الأدلة ، وليست مذاهب القراء بمعدودة من أدلة الفقه ، وإنما قراءاتهم روايات وسنة متبعة في قراءة القرآن دون استناد إلى اعتبار أحكام رواية القرآن من تواتر ودونه ، ولا إلى وجوب واستحباب وتخيير ، فالقارىء يقرأ كما روى عن معلميه ولا ينظر في حكم ما يقرأه من لزوم كونه كما قرأ أو عدم اللزوم ، فالقراء تجري أعمالهم في صلاتهم على نزعاتهم في الفقه من اجتهاد وتقليد ، ويوضح غلط من ظن أن خلاف الفقهاء في إثبات البسملة وعدمه مبني على خلاف القراء ، كما يوضح تسامح صاحب « الكشاف » في عده مذاهب القراء في نسق مذاهب الفقهاء . وإنما اختلف المجتهدون لأجل الأدلة التي تقدم بيانها ، وأما الموافقة بينهم وبين قراء أمصارهم غالباً في هاته المسألة فسببه شيوع القول بين أهل ذلك العصر بما قال به فقهاؤه في المسائل ، أو شيوع الأدلة التي تلقاها المجتهدون من مشائخهم بين أهل ذلك العصر ولو من قبل ظهور المجتهد مثل سَبْق نافِعِ بن أبي نعيم إلى عدم ذكر البسملة قبل أن يقول مالك بعدم جزئيتها ؛ لأن مالكاً تلقى أدلة نفيِ الجزئية عن علماء المدينة وعنهم أو عن شيوخهم تلقى نافع بن أبي نعيم ، وإذ قد كنا قد تقلدنا مذهب مالك واطمأننا لمداركه في انتفاء كون البسملة آية من أول سورة البقرة كان حقاً علينا أن لا نتعرض لتفسيرها هنا وأن نرجئه إلى الكلام على قوله تعالى في سورة النمل :
{ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } غير أننا لما وجدنا من سلفنا من المفسرين كلهم لم يهملوا الكلام على البسملة في هذا الموضع اقتفينا أثرهم إذ صار ذلك مصطلح المفسرين .
واعلم أن متعلق المجرور في { بسم الله } محذوف تقديره هنا أقرأ ، وسبب حذف متعلق المجرور أن البسملة سنت عند ابتداء الأعمال الصالحة فَحُذف متعلق المجرور فيها حذفاً ملتزماً إيجازاً اعتماداً على القرينة ، وقد حكى القرآن قول سحرة فرعون عند شروعهم في السحر بقوله : { فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون } [ الشعراء : 44 ] وذكر صاحب « الكشاف » أن أهل الجاهلية كانوا يقولون في ابتداء أعمالهم : « باسم اللاتِ باسم العُزَّى » فالمجرور ظرف لغو معمول للفعل المحذوف ومتعلق به وليس ظرفاً مستقراً مثل الظروف التي تقع أخباراً ، وَدليل المتعلق ينبىء عنه العمل الذي شُرع فيه فتعين أن يكون فعلاً خاصاً من النوع الدال على معنى العمل المشروع فيه دون المتعلِّق العام مثل أبتَدِىء لأن القرينة الدالة على المتعلق هي الفعل المشروع فيه المبدوء بالبسملة فتعين أن يكون المقدر اللفظ الدال على ذلك الفعل ، ولا يجري{[48]} في هذا الخلاف الواقع بين النحاة في كون متعلق الظروف هل يقدر اسماً نحو كائن أو مُستقر أم فعلاً نحو كان أو استقر لأن ذلك الخلاف في الظروف الواقعة أخباراً أو أحوالاً بناء على تعارض مقتضى تقدير الاسم وهو كونه الأصل في الأخبار والحالية ، ومقتضى تقدير الفعل وهو كونه الأصل في العمل لأن ما هنا ظرف لغو ، والأصل فيه أن يعدى الأفعال ويتعلق بها ، ولأن مقصد المبتدىء بالبسملة أن يكون جميع عمله ذلك مقارناً لبركة اسم الله تعالى فلذلك ناسب أن يقدر متعلق الجار لفظاً دالاً على الفعل المشروع فيه . وهو أنسب لتعميم التيمن لإجزاء الفعل ، فالابتداء من هذه الجهة أقل عموماً ، فتقدير الفعل العام يخصص وتقدير الفعل الخاص يعمم وهذا يشبه أن يلغز به . وهذا التقدير من المقدرات التي دلت عليها القرائن كقول الداعي للمُعَرِّس « بالرفاء والبنين »{[49]} وقول المسافر عند حلوله وترحاله « باسم الله والبركات » وقول نساء العرب عندما يَزفُفْنَ العروس « ياليُمْنِ والبركة وعلَى الطائر الميمون » ولذلك كان تقدير الفعل هاهنا واضحاً .
وقد أسعف هذا الحذف بفائدة وهي صلوحية البسملة ليَبتَدِىءَ بها كلُّ شارع في فعل فلا يلجأ إلى مخالفة لفظ القرآن عند اقتباسه ، والحذف من قبيل الإيجاز لأنه حذف ما قد يصرح به في الكلام ، بخلاف متعلقات الظروف المستقرة نحو عندك خير ، فإنهم لا يظهرون المتعلق فلا يقولون خير كائن عندك ولذلك عدوا نحو قوله :
* فإنك كالليل الذي هو مُدركي *
من المساواة دون الإيجاز يعني مع ما فيه من حذف المتعلق . وإذ قد كان المتعلق محذوفاً تعين أن يقدر في موضعه متقدِّماً على المتعلِّق به كما هو أصل الكلام ؛ إذ لا قصد هنا لإفادة البسملة الحَصر ، ودعوى صاحب « الكشاف » تقديره مُؤخراً تعمق غير مقبول ، لا سيما عند حالة الحذف ، فالأنسب أن يقدر على حسب الأصل .
والباء باء الملابسة والملابسة ، هي المصاحبة ، وهي الإلصاق أيضاً فهذه مترادفات في الدلالة على هذا المعنى وهي كما في قوله تعالى : { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] وقولهم : « بالرفاء والبنين » وهذا المعنى هو أكثر معاني الباء وأشهرها ، قال سيبويه : الإلصاق لا يفارق الباء وإليه ترجع تصاريف معانيها ولذلك قال صاحب « الكشاف » : « وهذا الوجه ( أي الملابسة ) أعْرَبُ وأحسن » أي أحسن من جعل الباء للآلة أي أدخل في العربية وأحسن لما فيه من زيادة التبرك بملابسة جميع أجزاء الفعل لاسمه تعالى .
والاسم لفظ جُعِل دالاً على ذات حسية أو معنوية بشخصها أو نوعها ، وجعله أئمة البصرة مشتقاً من السمو وهو الرفعة لأنها تتحقق في إطلاقات الاسم ولو بتأويل فإن أصل الاسم في كلام العرب هو العلم ولا توضع الأعلام إلا لشيء مهتم به ، وهذا اعتداد بالأصل والغالب ، وإلا فقد توضع الأعلام لغير ما يهتم به كما قالوا فَجَارِ علم للفَجْرة . فأصل صيغته عند البصريين من الناقص الواوي فهو إما سِمْو بوزن حِمْل ، أو سُمْو بوزن قفل فحذفت اللام حذفاً لمجرد التخفيف أو لكثرة الاستعمال ولذلك جرى الإعراب على الحرف الباقي ، لأنه لو حذفت لامه لعلة صرفية لكان الإعراب مقدراً على الحرف المحذوف كما في نحو قاضٍ وجَوارٍ ، فلما جرى الإعراب على الحرف الباقي الذي كان ساكناً نقلوا سكونه للمتحرك وهو أول الكلمة وجلبوا همزة الوصل للنطق بالساكن ؛ إذ العرب لا تستحسن الابتداء بحرف ساكن لابتناء لغتهم على التخفيف ، وقد قضوا باجتلاب الهمزة وطراً ثانياً من التخفيف وهوعود الكلمة إلى الثلاثي لأن الأسماء التي تبقى بالحذف على حرفين كيدٍ ودمٍ لا تخلو من ثِقل ، وفي هذا دليل على أن الهمزة لم تجتلب لتعويض الحرف المحذوف وإلا لاجتلبوها في يدٍ ودمٍ وغدٍ .
وقد احتجوا على أن أصله كذلك بجمعه على أسماء بوزن أفعال ، فظهرت في آخره همزة وهي منقلبة عن الواو المتطرفة إثر ألف الجمع ، وبأنه جمع على أساميّ وهو جمع الجمع بوزن أفاعيل بإدغام ياء الجمع في لام الكلمة ويجوز تخفيفها كما في أثافِي وأَماني ، وبأنه صُغِّر على سُمَي .
وأن الفعل منه سمَّيْت ، وهي حجج بينة على أن أصله من الناقص الواوي . وبأنه يقال سُمىً كهدى ؛ لأنهم صاغوه على فُعَل كرُطَب فتنقلب الواو المتحركة ألفاً إثر الفتحة وأنشدوا على ذلك قول أبي خالد القَنَاني الراجز{[50]} :
واللَّهُ أَسْمَاكَ سُمًى مُبارَكاً *** آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إِيثَارَكا
وقال ابن يعيش : لا حجة فيه لاحتمال كونه لغة من قال سُم والنصب فيه نصب إعراب لا نصب الإعلال ، ورده عبد الحكيم بأن كتابته بالإمالة تدل على خلاف ذلك . وعندي فيه أن الكتابة لا تتعلق بها الرواية فلعل الذين كتبوه بالياء هم الذين ظنوه مقصوراً ، على أن قياسها الكتابة بالألف مطلقاً لأنه واوي إلا إذا أريد عدم التباس الألف بألف النصب . ورَأْيُ البصريين أرجح من ناحية تصاريف هذا اللفظ . وذهب الكوفيون إلى أن أصله وِسْم بكسر الواو لأنه من السمة وهي العَلامة ، فحذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليبقى على ثلاثة أحرف ثم يتوسل بذلك إلى تخفيفه في الوصل ، وكأنهم رأوا أن لا وجه لاشتقاقه من السمو لأنه قد يستعمل لأشياء غير سامية وقد علمتَ وجه الجواب ، ورأي الكوفيين أرجح من جانب الاشتقاق دون التصريف ، على أن همزة الوصل لم يعهد دخولها على ما حذف صدره وردوا استدلال البصريين بتصاريفه بأنها يحتمل أن تكون تلك التصاريف من القلب المكاني بأن يكون أصل اسم وسم ، ثم نقلت الواو التي هي فاء الكلمة فجعلت لاماً ليتوسل بذلك إلى حذفها ورد في تصرفاته في الموضع الذي حذف منه لأنه تنوسي أصله ، وأجيب عن ذلك بأن هذا بعيد لأنه خلاف الأصل وبأن القلب لا يلزم الكلمة في سائر تصاريفها وإلا لما عرف أصل تلك الكلمة . وقد اتفق علماء اللغة على أن التصاريف هي التي يعرف بها الزائد من الأصلي والمنقلب من غيره .
وزعم ابن حزم في كتاب « الملل والنحل » أن كلا قولي البصريين والكوفيين فاسد افتعله النحاة ولم يصح عن العرب وأن لفظ الاسم غير مشتق بل هو جامد وتطاول ببذاءته عليهم وهي جرأة عجيبة ، وقد قال تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [ النحل : 43 ] .
وإنما أقحم لفظ اسم مضافاً إلى علم الجلالة إذ قيل ( بسم الله ) ولم يقل بالله لأن المقصود أن يكون الفعل المشروع فيه من شؤون أهل التوحيد الموسومة باسم الإله الواحد فلذلك تقحم كلمة اسم في كل ما كان على هذا المقصد كالتسمية على النسك قال تعالى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 118 ] وقال : { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 119 ] وكالأفعال التي يقصد بها التيمن والتبرك وحصول المعونة مثل : { اقرأ باسم ربك } [ العلق : 1 ] فاسم الله هو الذي تمكن مقارنته للأفعال لا ذاته ، ففي مثل هذا لا يحسن أن يقال بالله لأنه حينئذٍ يكون المعنى أنه يستمد من الله تيسيراً وتصرفاً من تصرفات قدرته وليس ذلك هو المقصود بالشروع ، فقوله تعالى : { فسبح باسم ربك العظيم } [ الواقعة : 74 ] أَمْرٌ بأن يقول سبحان الله ، وقوله : { وسبحه } [ الإنسان : 26 ] أمْرٌ بتنزيه ذاته وصفاته عن النقائص ، فاستعمال لفظ الاسم في هذا بمنزلة استعمال سمات الإبل عند القبائل ، وبمنزلة استعمال القبائل شعار تعارفهم{[51]} ، واستعمال الجيوش شعارهم المصطلح عليه . والخلاصة{[52]} أن كل مقام يقصد فيه التيمن والانتساب إلى الرب الواحد الواجب الوجود يعدى فيه الفعل إلى لفظ اسم الله كقوله : { وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها } [ هود : 41 ] وفي الحديث في دعاء الاضطجاع : " باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه " وكذلك المقام الذي يقصد فيه ذكر اسم الله تعالى كقوله تعالى : { فسبح باسم ربك العظيم } أي قل سبحان الله : { سبح اسم ربك الأعلى } [ الأعلى : 1 ] وكل مقام يقصد فيه طلب التيسير والعون من الله تعالى يعدى الفعل المسؤول إلى علم الذات باعتبار ما له من صفات الخلق والتكوين كما في قوله تعالى : { فاسجد له } [ الإنسان : 26 ] وقوله في الحديث : " اللهم بك نصبح وبك نمسي " أي بقدرتك ومشيئتك وكذلك المقام الذي يقصد فيه توجه الفعل إلى الله تعالى كقوله تعالى : { فاسجد له } { وسبحه } أي نزه ذاته وحقيقته عن النقائص . فمعنى ( بسم الله الرحمن الرحيم ) أقرأ قراءة ملابسة لبركة هذا الاسم المبارك .
هذا وقد ورد في استعمال العرب توسعات في إطلاق لفظ الاسم مرة يعنون به ما يرادف المسمى كقول النابغة :
نبئتُ زُرعة والسفاهةُ كاسمها *** يُهدى إليَّ غرائبَ الأَشعار
يعني أن السفاهة هي هي لا تُعرَّف للناس بأكثر من اسمها وهو قريب من استعمال اسم الإشارة في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] . أي مثل ذلك الجعل الواضح الشهير ويطلقون الاسم مقحماً زائداً كما في قول لبيد :
* إلى الحولِ ثم اسم السلام عليكُما* يعني ثم السلام عليكما وليس هذا خاصاً بلفظ الاسم بل يجىء فيما يرادفه مثل الكلمة في قوله تعالى : { وألزمهم كلمة التقوى } [ الفتح : 26 ] وكذلك « لفظ » في قول بشار هاجياً :
وكذاك ، كان أبوك يؤثر بالهُنَى *** ويظل في لَفْظِ النَّدى يتَرَدَّد
وقد يطلق الاسم وما في معناه كنايةً عن وجود المسمى ، ومنه قوله تعالى : { وجعلوا لله شركاء قل سموهم } [ الرعد : 33 ] والأمر للتعجيز أي أثبتوا وجودهم ووضعَ أسماء لهم . فهذه اطلاقات أخرى ليس ذكر اسم الله في البسملة من قبيلها ، وإنما نبهنا عليها لأن بعض المفسرين خلط بها في تفسير البسملة ، ذكرتها هنا توضيحاً ليكون نظركم فيها فسيحاً فشدوا بها يداً ولا تتبعوا طرائق قدداً .
وقد تكلموا على ملحظ تطويل الباء في رسم البسملة بكلام كله غير مقنع ، والذي يظهر لي أن الصحابة لما كتبوا المصحف طولوها في سورة النمل للإشارة إلى أنها مبدأ كتاب سليمان فهي من المحكي ، فلما جعلوها علامة على فواتح السور نقلوها برسمها ، وتطويل الباء فيها صالح لاتخاذه قدوة في ابتداء الغرض الجديد من الكلام بحرف غليظ أو ملون .
والكلام على اسم الجلالة ووصفه يأتي في تفسير قوله تعالى : { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم } [ الفاتحة : 2 ، 3 ] .
ومناسبة الجمع في البسملة بين علم الجلالة وبين صفتي الرحمن الرحيم ، قال البيضاوي إن المُسمِّي إذا قصَد الاستعانة بالمعبود الحق الموصوف بأنه مُولي النعم كلها جليلها ودقيقها يذكر عَلَم الذات إشارة إلى استحقاقه أن يستعان به بالذات ، ثم يذكر وصف الرحمن إشارة إلى أن الاستعانة على الأعمال الصالحة وهي نعم ، وذكر الرحيم للوجوه التي سنذكرها في عطف صفة الرحيم على صفة الرحمن .
وقال الأستاذ الإمام محمد عبده : إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم ونحوها باسم الأب والابن والروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم ، فجاءت فاتحة كتابِ الإسلام بالرد عليهم موقظة لهم بأن الإله الواحد وإن تعددت أسماؤه فإنما هو تعدد الأوصاف دون تعدد المسميات ، يعني فهو رد عليهم بتغليظ وتبليد . وإذا صح أن فواتح النصارى وأدعيتهم كانت تشتمل على ذلك إذ الناقل أمين فهي نكتة لطيفة .
وعندي أن البسملة كان ما يرادفها قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه السلام فهي من كلام الحنيفية ، فقد حكى الله عن إبراهيم أنه قال لأبيه : { يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن } [ مريم : 45 ] ، وقال : { سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً } [ مريم : 47 ] ومعنى الحفي قريب من معنى الرحيم . وحُكِي عنه قوله : { وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم } [ البقرة : 128 ] . وورد ذكر مرادفها في كتاب سليمان إلى ملكة سبأ : { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين } [ النمل : 30 ، 31 ] . والمظنون أن سليمان اقتدى في افتتاح كتابه بالبسملة بسنة موروثة من عهد إبراهيم جعلها إبراهيم كلمة باقية في وارثي نبوته ، وأن الله أحيا هذه السنة في الإسلام في جملة ما أوحى له من الحنيفية كما قال تعالى : { ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل } [ الحج : 78 ] .