أما النموذج الأول فنراه فى شخص النبيين الكريمين داود وسليمان - عليهما السلام - فقد قال - سبحانه - فى شأنهما : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً . . . العذاب المهين } .
وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } بيان لما مَنّ الله - تعالى - به على عبده داود - عليه السلام - من خير وبركة .
أى : ولقد آتينا عبدنا فضلا عظيما ، وخيرا وفيرا ، وملكا كبيرا ، بسبب إنابته إلينا ، وطاعته لنا .
ثم فصل - سبحانه - مظاهر هذا الفضل فقال : { ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ } والتأويب الترديد والترجيع . يقال : أوَّب فلان تأويبا إذا رَجَّع مع غيره ما يقوله .
والجملة مقول لقول محذوف : أى : وقلنا يا جبال رددى ورجعى مع عبدنا داود تسبيحه لنا ، وتقديسه لذاتنا ، وثناءه علينا ، كما قال - تعالى - : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق } وقوله : { والطير } بالنصب عطفا على قوله { فَضْلاً } أى : وسخرنا له الطير لتسبح معه بحمدنا . أو معطوف على محل { ياجبال } أى : ودعونا الجبال والطير إلى التسبيح معه .
قال الإِمام ابن كثير - رحمه الله : يخبر - تعالى - عما به على عبده ورسوله داود - عليه السلام - مما آتاه من الفضل المبين ، وجمع له بين الانبوة والملك المتكن ، والجنود ذوى العَدَد والعُدَد ، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم ، الذى كان إذا سبح به ، تسبح معه الجبال الراسيات ، الصم الشامخات ، وتقف له الطيور السارحات . والغاديات الرائحات ، وتجاوبه بأنواع اللغات .
وفى الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبى موسى الأشعرى يقرأ من الليل ، فوقف فاستمع لقراءته ثم قال : " لقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود " " .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى فريق بين هذا النظم وبين أن يقال : { آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } تأويب الجبال معه والطير ؟
قلت : كم بينهما من الفرق ؟ ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التى لا تخفى ، من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية ، حيث جعلت الجبال مُنَزْلَةَّ مَنزِلَةَ العقلاء ، الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت إلا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته .
وقوله - تعالى - : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } ، بيان لنعمة أخرى من النعم التى أنعم بها - سبحانه - عليه .
أى : وصيرنا الحديد لينا فى يده ، بحيث يصبح - مع صلابته وقوته - كالعجيبن فى يده ، يشسكله كيف يشاء ، من غير أن يدخله فى نار ، أو أن يطرقه بمطرقة .
فالجملة الكريمة معطوفة على قوله { آتَيْنَا } ، وهى من جملة الفضل الذى منحه - سبحانه - لنبيه داود - عليه السلام - .
{ ولقد آتينا داود منا فضلا } أي على سائر الأنبياء وهو ما ذكر بعد ، أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن . { يا جبال أوبي معه } رجعي معه التسبيح أو النوحة على الذنب ، وذلك أما بخلق صوت مثل صوته فيها أو بحملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها ، أو سيري معه حيث سار . وقرئ " أوبي " من الأوب أي ارجعي في التسبيح كلما رجع فيه ، وهو بدل من { فضلا } ، أو من { آتينا } بإضمار قولنا أو قلنا . { والطير } عطف على محل الجبال ويؤيده القراءة بالرفع عطفا على لفظها تشبيها للحركة البنائية العارضة بالحركة الإعرابية أو على { فضلا } أو مفعول معه ل { أوبي } وعلى هذا يجوز أن يكون الرفع بالعطف على ضميره وكان الأصل : ولقد آتينا داود منا فضلا تأويب الجبال والطير ، فبدل بهذا النظم لما فيه من الفخامة والدلالة على عظم شأنه وكبرياء سلطانه ، حيث جعل الجبال والطيور كالعقلاء المنقادين لامره في نفاذ مشيئته فيها . { وألنا له الحديد } جعلناه في يده كالشمع يصرفه كيف يشاء من غير إحماء وطرق بإلانته أو بقوته .
مناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى ذكر داود خفيَّة . فقال ابن عطية : ذكر الله نعمته على داود وسليمان احتجاجاً على ما منح محمداً ، أي لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديماً .
وقال الزمخشري عند قوله : { إن في ذلك لآية لكل عبد منيب } [ سبأ : 9 ] لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كلّ شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به اهـ . فقال الطيبي : فيه إشارة إلى بيان نظم هذه الآية بقوله : { ولقد آتينا داود منا فضلاً } لأنه كالتخلص منه إليه ، لأنه من المنيبين المتفكرين في آيات الله ، قال تعالى : { واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب } [ ص : 17 ] اهـ . يريد الطيبي أن داود من أشهر المُثُل في المنيبين بما اشتهر به من انقلاب حاله بعد أن كان راعياً غليظاً إلى أن اصطفاه الله نبيئاً وملكاً صالحاً مُصْلِحاً لأمة عظيمة ، فهو مَثَل المنيبين كما قال تعالى : { واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب } وقال : { فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب } [ ص : 24 ] ، فلإِنابته وتأويبه أنعم الله عليه بنعم الدنيا والآخرة وباركه وبارك نسله . وفي ذكر فضله عبرة للناس بحسن عناية الله بالمنيبين تعريضاً بضد ذلك للذين لم يعتبروا بآيات الله ، وفي هذا إيماء إلى بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بعد تكذيب قومه وضيق حاله منهم سيؤول شأنه إلى عزة عظيمة وتأسيس ملك أمة عظيمة كما آلت حال داود ، وذلك الإِيماء أوضح في قوله تعالى : { اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أوّاب } الآية في سورة ص ( 17 ) . وسمَّى الطيبي هذا الانتقال إلى ذكر داود وسليمان تخلصاً ، والوجه أن يسميه استطراداً أو اعتراضاً وإن كان طويلاً ، فإن الرجوع إلى ذكر أحوال المشركين بعدما ذكر من قصة داود وسليمان وسبأ يرشد إلى أن إبطال أحوال أهل الشرك هي المقصود من هذه السورة كما سننبه عليه عند قوله تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } [ سبأ : 20 ] .
وتقديم التعريف بداود عليه السلام عند قوله تعالى : { وآتينا داود زبوراً } في سورة النساء ( 163 ) وعند قوله : { ومن ذريته داود } في سورة الأنعام ( 84 ) .
و ( مِنْ ) في قوله : { منا } ابتدائية متعلقة ب { آتينا } ، أي من لدنّا ومن عندنا ، وذلك تشريف للفضل الذي أوتيه داود ، كقوله تعالى : { رزقاً من لدنا } [ القصص : 57 ] . وتنكير { فضلاً } لتعظيمه وهو فضل النبوءة وفضل المُلك ، وفضل العناية بإصلاح الأمة ، وفضل القضاء بالعدل ، وفضل الشجاعة في الحرب ، وفضل سَعَة النعمة عليه ، وفضل إغنائه عن الناس بما ألهمه من صنع دروع الحديد ، وفضل إيتائه الزبور ، وإيتائه حسن الصوت ، وطولَ العمر في الصلاح وغير ذلك .
وجملة { يا جبال أوبي معه } مقول قول محذوف ، وحذف القول استعمال شائع ، وفعل القول المحذوف جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لجملة { آتينا داود منا فضلاً } .
وفي هذا الأسلوب الذي نظمت عليه الآية من الفخامة وجلالة الخالق وعظم شأن داود مع وفرة المعاني وإيجاز الألفاظ وإفادة معنى المعية بالواو دون ما لو كانت حرف عطف .
والأمر في { أوبي معه } أمر تكوين وتسخير .
والتأويب : الترجيع ، أي ترجيع الصوت ، وقيل : التأويب بمعنى التسبيح لغة حبشية فهو من المعرب في اللغة العربية ، وتقدم ذكر تسبيح الجبال مع داود في سورة الأنبياء .
و { الطير } منصوب بالعطف على المنادَى لأن المعطوف المعرَّف على المنادى يجوز نصبُه ورفعه ، والنصب أرجح عند يونس وأبي عمرو وعيسى بن عمر والجَرْميّ وهو أوجه ، ويجوز أن يكون { والطير } مفعولاً معه ل { أوبي } . والتقدير : أوبي معه ومع الطير ، فيفيد أن الطير تأوّب معه أيضاً .
وإلانة الحديد : تسخيره لأصابعه حينما يلوي حَلَق الدروع ويغمز المسامير .
و { أنْ } تفسيرية لما في { ألنا له } من معنى : أشعرناه بتسخير الحديد ليُقدم على صنعه فكان في { ألنا } معنى : وأوحينا إليه : { أن اعمل سابغات } .
و { الحديد } تراب معدني إذا صُهر بالنار امتزج بعضه ببعض ولاَنَ وأمكن تطريقه وتشكيله فإذا برد تصلب . وقد تقدم عند قوله تعالى : { قل كونوا حجارة أو حديداً } في سورة الإِسراء ( 50 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.