1- سورة " التحريم " من السور المدنية الخالصة ، وتسمى –أيضا- بسورة [ لم تحرم ] وبسورة " النبي " صلى الله عليه وسلم وعدد آياتها اثنتا عشرة آية .
2- وكان نزولها بعد سورة " الحجرات " وقبل سورة " الجمعة " فهي السورة الخامسة بعد المائة بالنسة لترتيب نزول السور القرآنية ، أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة السادسة والستون .
3- والسورة الكريمة في مطلعها تحكي جانبا مما دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض زوجاته فتعرض صفحة من حياته صلى الله عليه وسلم في بيته ، ومن عتاب الله –تعالى- له ومن فضله عليه ، ودفاعه عنه .
4- ثم وجهت نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يداوموا على العمل الصالح الذي ينجيهم من عذاب الله –تعالى- وحرضتهم على التسلح بالتوبة النصوح لأنها على رأس الأسباب التي تؤدي إلى تكفير سيئاتهم .
5- ثم ختمت السورة الكريمة بضرب مثلين أحدهما للذين آمنوا ، ويتمثل في امرأة فرعون وفي مريم ابنة عمران ، والآخر للذين كفروا ويتمثل في امرأة نوح وامرأة لوط –عليهما السلام- والغرض من ذلك العظة والاعتبار .
قد افتتح سبحانه - السورة الكريمة بقوله - تعالى - : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ . . . . ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة ، منها ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، ويمكث عندها فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير ؟ - والمغافير : صمغ حلو له رائحة كريهة - إنى أجد منك ريح مغافير .
فدخل على إحداهما فقالت له ذلك ، فقال : بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود إليه ، وقد حلفت ، فلا تخبرى بذلك أحدا ، فنزلت هذه الآيات " .
وفى رواية أن التى شرب عندها العسل : حفصة بنت عمر ، وأن القائلة له ذلك : سودة بنت زمعة ، وصفية بنت حيى .
قالوا : والاشتباه فى الاسم لا يضر ، بعد ثبوت أصل القصة .
وأخرج النسائى والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراما ، فأنزل الله - تعالى - { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ . . . الآيات . . . } .
وروى ابن جرير عن زيد بن أسلم : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصاب أم إبراهيم مارية ، فى بيت بعض نسائه - وفى رواية فى بيت حفصة فقالت : يا رسول الله فى بيتى وعلى فراشى ؟ فجعلها أى مارية - عليه حراما ، وحلف بهذا . . . فأنزل الله هذه الآيات .
قال القرطبى ما ملخصه : " وأصح هذه الأقوال أولها . . . والصحيح أن التحريم كان فى العسل ، وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه ، فجرى ما جرى فحلف أن لا يشربه وأسر ذلك ، ونزلت الآية فى الجميع " .
وقال الإمام ابن كثير - بعد أن ساق عددا من الروايات فى هذا الشأن : والصحيح أن ذلك كان فى تحريمه - صلى الله عليه وسلم - للعسل .
وقال الآلوسى : قال النووى فى شرح مسلم : الصحيح أن الآية فى قصة العسل ، لا فى قصة مارية المروية فى غير الصحيحين ، ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح .
والصواب أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش .
وقد افتتح - سبحانه - السورة الكريمة بتوجيه النداء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } .
وفى توجيه النداء إليه - صلى الله عليه وسلم - تنبيه إلى أن ما سيذكر بعد النداء ، شىء مهم ، بالنسبة له ولسائر المسلمين .
والاستفهام فى قوله - تعالى - { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ . . } للنفى المصحوب بالعتاب منه - سبحانه - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - .
وجملة { تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } حال من فاعل { تُحَرِّمُ } ، والعتاب واقع على مضمون هذه الجملة والتى قبلها ، وهى قوله { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } .
والمعنى : يا أيها الرسول الكريم ، لماذا حرمت على نفسك ما أحله الله - تعالى - لك من شراب أو غيره ؟ أفعلت ذلك من أجل إرضاء أزواجك ؟
إنه لا ينبغى لك أن تفعل ذلك ، لأن ما أباحه الله - تعالى - لك ، لا يصح أن تحرمه على نفسك أو أن تمتنع عن تعاطيه ، فتشق على نفسك من أجل إرضاء غيرك .
قال بعض العلماء : " ناداه بلفظ " النبى " إشعارا بأنه الذى نُبئَ بأسرار التحليل والتحريم الإلهى ، والمراد بتحريمه ما أُحِل له ، امتناعه منه ، وحظره إياه على نفسه .
وهذا المقدار مباح ، ليس فى ارتكابه جناح ، وإنما قيل له { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } رفقا به ، وشفقة عليه ، وتنويها لقدره ولمنصبه - صلى الله عليه وسلم - أن يراعى مرضاة أزواجه بما يشق عليه ، جريا على ما ألف من لطف الله - تعالى - به ، ورفعه عن أن يحرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه . . . " .
وقوله - سبحانه - : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من وقع هذا اللوم ، ومن أثر هذا العتاب ، وإرشاد له - صلى الله عليه وسلم - بأن ما فعله داخل تحت مغفرة الله - تعالى - ورحمته .
أى : والله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة وقد غفر لك - بفضله وكرمه ما فعلته بسبب بعض أزواجك ، وجعلك على رأس من تظلهم رحمته .
اختلُف في سبب نزول صدر هذه السورة ، فقيل : نزلت في شأن مارية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها ، فنزل قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } الآية .
قال أبو عبد الرحمن النسائي : أخبرنا إبراهيم بن يونس بن محمد ، حدثنا أبي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حَرَّمها ، فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى آخر الآية{[29019]} .
وقال ابن جرير : حدثني ابن عبد الرحيم البرقي{[29020]} حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا أبو غسان ، حدثني زيد بن أسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه ، فقالت : أي رسول الله ، في بيتي وعلى فراشي ؟ ! فجعلها عليه حرامًا فقالت : أيْ رسول الله ، كيف يَحْرُم عليك الحلال ؟ فحلف لها بالله لا يصيبها . فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ قال زيد : بن أسلم فقوله : أنت عليَّ حرام لغو{[29021]} .
وهكذا روى عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه .
وقال ابن جرير أيضًا حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، قال : قل لها : " أنت عليَّ حرام ، ووالله لا أطؤك " .
وقال سفيان الثوري وابن عُلَيَّة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم ، فعُوتِبَ في التحريم ، وأمر بالكفارة في اليمين . رواه ابن جرير . وكذا روي عن قتادة ، وغيره ، عن الشعبي ، نفسه . وكذا قال غير واحد من السلف ، منهم الضحاك ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان ، وروى العوفي ، عن ابن عباس القصة مطولة .
وقال ابن جرير : حدثنا سعيد بن يحيى ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عُبَيْد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب : من المرأتان ؟ قال : عائشة وحفصة . وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم القبطية ، أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في نوبتها{[29022]} فَوَجَدت حفصة ، فقالت : يا نبي الله ، لقد جئت إليَّ شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك ، في يومي ، وفي دوري ، وعلى فراشي . قال : " ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها ؟ " . قالت : بلى . فحَرَّمها وقال : " لا تذكري ذلك لأحد " . فذكرته لعائشة ، فأظهره الله عليه ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } الآيات{[29023]} فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّر [ عن ]{[29024]} يمينه ، وأصاب جاريته {[29025]} .
وقال الهيثم بن كُلَيب في مسنده : حدثنا أبو قِلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا جرير بن حازم ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة : " لا تخبري أحدًا ، وإن أم إبراهيم عليَّ حرام " . فقالت : أتحرم ما أحل الله لك ؟ قال : " فوالله لا أقربها " . قال : فلم يقربها حتى أخبرت عائشة . قال فأنزل الله : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }
وهذا إسناد صحيح ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج{[29026]} .
وقال ابن جرير : أيضا حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا هشام الدَّسْتُوَائي قال : كتب إلي يحيى يحدث عن يعلى بن حكيم ، عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس كان يقول في الحرام : يمين تكفرها ، وقال ابن عباس : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] يعني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم جاريته فقال الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى قوله : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فكفر يمينه ، فصير الحرام يمينًا {[29027]} .
ورواه البخاري عن معاذ بن فضالة ، عن هشام - هو الدستوائي - عن يحيى - هو ابن كثير - عن ابن حكيم - وهو يعلى - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في الحرام : يمين تُكَفر . وقال ابن عباس : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ]{[29028]} .
ورواه مسلم من حديث هشام الدَّسْتُوَائي به{[29029]} .
وقال النسائي : أنا عبد الله بن عبد الصمد بن علي ، حدثنا مَخْلد - هو ابن يزيد - حدثنا سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي عَلَيَّ حَرَاما ؟ قال : كذبتَ ليس عليك بحرام . ثم تلا هذه الآية : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ عليك أغلظ الكفارات ، عتق رقبة .
تفرد به النسائي من هذا الوجه ، بهذا اللفظ{[29030]} .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن زكَريا ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرَيَّته{[29031]} .
ومن هاهنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب الكفارة على من حرم جاريته أو زوجته أو طعامًا أو شرابًا أو ملبسًا أو شيئًا من المباحات ، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة . وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفارة فيما عدا الزوجة والجارية ، إذا حَرَّم عينيهما أو أطلق التحريم فيهما في قوله ، فأما إن نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمة ، نفذ فيهما .
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبو عبد الله الظهراني{[29032]} أخبرنا حفص بن عمر العَدَني ، أخبرنا الحكم بن أبان ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا قول غريب ، والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العَسَل ، كما قال البخاري عند هذه الآية :
حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن عبيد{[29033]} بن عمير ، عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جَحش ، ويمكث عندها ، فتواطأتُ أنا وحفصةُ على : أيتُنا دخلَ عليها ، فلتقل له : أكلتَ مَغَافير ؟ إني أجد منك ريح مغافير . قال : " لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جَحش ، فلن أعود له ، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا " ، { تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ }{[29034]} .
هكذا أورد هذا الحديث هاهنا بهذا اللفظ ، وقال في كتاب " الأيمان والنذور " : حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جريج قال : زعم عطاء أنه سمع عُبَيد بن عمير يقول : سمعتُ عائشة تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جَحش ويشرب عندها عَسَلا فتواصيتُ أنا وحفصة أن أيتُنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ : إني أجد منك ريح مغافير ؛ أكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ذلك له ، فقال : " لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جَحش ، ولن أعود له " . فنزلت : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } لعائشة وحفصة ، { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا } لقوله : " بل شربت عسلا " . وقال إبراهيم بن موسى ، عن هشام : " ولن أعود له ، وقد حلفت ، فلا تخبري بذلك أحدًا " {[29035]} .
وهكذا رواه في كتاب " الطلاق " بهذا الإسناد ، ولفظه قريب منه{[29036]} . ثم قال : المغافير : شبيه بالصمغ ، يكون في الرّمث فيه حلاوة ، أغفر الرّمث : إذا ظهر فيه . واحدها مغفور ، ويقال : مغافير . وهكذا قال الجوهري ، قال : وقد يكون المغفور أيضًا للعُشر والثُّمام والسَّلَم والطلح . قال : والرّمث ، بالكسر : مرعى من مراعي الإبل ، وهو من الحَمْض . قال : والعرفط : شجر من العضاه ينضَح المغفُور [ منه ]{[29037]} .
وقد روى مسلم هذا الحديث في كتاب " الطلاق " من صحيحه ، عن محمد بن حاتم ، عن حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، أخبرني عطاء ، عن عُبيد بن عمير ، عن عائشة{[29038]} ، به ، ولفظه كما أورده البخاري في " الأيمان والنذور " .
ثم قال البخاري في كتاب " الطلاق " : حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا علي بن مُسْهَر ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحَلوى والعَسل ، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه ، فيدنو من إحداهن . فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس ، فَغِرْتُ فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عُكَّة عَسَل ، فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة ، فقلت : أما والله لنحتالَن له . فقلت لسودة بنت زَمْعَةَ : إنه سيدنو منك ، فإذا دنا منك فقولي : أكلت مغَافير ؟ فإنه سيقول ذلك{[29039]} لا . فقولي له : ما هذه الريح التي أجد ؟ فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل . فقولي : جَرَسَتْ نحلُه العُرفُطَ . وسأقول ذلك ، وقولي أنت له يا صفية ذلك ، قالت - تقول سودة - : والله{[29040]} ما هو إلا أن قام على الباب ، فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقًا منك ، فلما دنا منها قالت له سودة : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ قال : " لا " . قالت : فما هذه الريح التي أجد منك ؟ قال : " سقتني حفصة شَربة عسل " . قالت : جَرَسَت نَحلُه العرفطَ . فلما دار إليَّ قلت نحو ذلك ، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك ، فلما دار إلى حفصة قالت له : يا رسول الله ، ألا أسقيك منه ؟ قال : " لا حاجةَ لي فيه " . قالت - تقول سودة - : والله لقد حَرَمْنَاه . قلت لها : اسكتي{[29041]} .
هذا لفظ البخاري . وقد رواه مسلم عن سُوَيد بن سَعيد ، عن علي بن مُسْهِر ، به . وعن أبي كُرَيْب وهارون بن عبد الله والحسن بن بشر ، ثلاثتهم عن أبي أسامة ، حماد بن أسامة ، عن هشام بن عروة ، به{[29042]} وعنده قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح يعني : الريح الخبيثة ؛ ولهذا قلن له : أكلت مغافير لأن ريحها فيه شيء . فلما قال : " بل شربت عسلا " . قلن : جَرَسَت نحلُه العرفطَ ، أي : رَعَت نحلُه شَجَر العرفط الذي صَمغُه المغافير ؛ فلهذا ظهر ريحُه في العسل الذي شربته .
قال الجوهري : جَرَسَت نحلُه العرفط تَجْرِس : إذا أكلته ، ومنه قيل للنحل : جوارس ، قال الشاعر :
تَظَلّ عَلَى الثَّمْرَاء مِنها جَوَارسُ . . .
وقال : الجَرْس والجِرْس : الصوت الخفي . ويقال : سمعت جرس الطير : إذا سمعتَ صوت مناقيرها على شيء تأكله ، وفي الحديث : " فيسمعون جَرْس طير الجنة " . قال الأصمعي : كنت في مجلس شُعبة قال : " فيسمعون جَرْشَ طير الجنة " بالشين [ المعجمة ]{[29043]} فقلت : " جرس " ؟ ! فنظر إلي فقال : خذوها عنه ، فإنه أعلم بهذا منا{[29044]} .
والغرض أن هذا السياق فيه أن حفصة هي الساقية للعسل ، وهو من طريق هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن خالته عن عائشة . وفي طريق ابن جريج عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة أن زينب بنت جَحش هي التي سقت العسل ، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه ، فالله أعلم . وقد يقال : إنهما واقعتان ، ولا بُعْدَ في ذلك ، إلا أن كونَهما سببًا لنزول هذه الآية فيه نظر ، والله أعلم .
ومما يدل على أن عائشة وحفصة ، رضي الله عنهما ، هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن ابن عباس قال : لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدَل عمر وعدلت معه بالإداوة . فتبرز ثم أتاني ، فسكبت على يديه فتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، اللتان قال الله تعالى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ؟ فقال عمر : واعجبا لك يا ابن عباس - قال الزهري : كره - والله ما سألته عنه ولم يكتمه قال : هي حفصة وعائشة . قال : ثم أخذ يسوق الحديث . قال : كنا مَعشَر قريش قومًا نَغلبُ النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تَغلِبُهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، قال : وكان منزلي في دار بنى أمية بن زيد بالعَوَالي . قال : فغضَبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تُرَاجِعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبي{[29045]} صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل . قال : فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم . قلت : وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل ؟ قالت : نعم . قلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخَسر ، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت ؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئًا ، وسليني من مالي ما بدا لك ، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسمُ وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك - يريد عائشة - قال : وكان لي جار من الأنصار ، وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يومًا وأنزل يومًا ، فيأتيني بخبر الوحي وغيره ، وآتيه بمثل ذلك . قال : وكنا نتحدث أن غَسَّان تُنعِل الخيل لتغزونا ، فنزل صاحبي يومًا ثم أتى عشاء ، فضرب بابي ثم ناداني ، فخرجت إليه فقال : حدث أمر عظيم ! فقلت : وما ذاك ؟ أجاءت غسان ؟ قال : لا بل أعظم من ذلك وأطول ! طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فقلت : قد خابت حفصةُ وخَسِرت ، قد كنت أظن{[29046]} هذا كائنا . حتى إذا صليتُ الصبح شددتُ عليَّ ثيابي ثم نزلت ، فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت : أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا أدري ، هو هذا معتزل في هذه المشرَبة{[29047]} فأتيت غلامًا له أسودَ فقلت : استأذن لعمر . فدخل الغلام ثم خرج إليَ فقال : ذكرتك له فصمت . فانطلقت حتى أتيت المنبر ، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم ، فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمرَ . فدخل ثم خرج فقال : قد ذكرتك له فصمت . فخرجت فجلست إلى المنبر ، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر . فدخل ثم خرج إلي فقال : قد ذكرتك له فصمتَ . فوليت مدبرًا فإذا الغلام يدعوني فقال : ادخل ، قد أذن لك . فدخلتُ فسلمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رُمَال{[29048]} حَصِير .
قال الإمام أحمد : وحدثناه يعقوب في حديث صالح : رُمَال حصير قد أثر في جنبه ، فقلت : أطلَّقت يا رسول الله نساءك ؟ فرفع رأسه إلي وقال : " لا " . فقلت : الله أكبر ، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قومًا نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل . فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، فَدخَلت على حفصة فقلت : لا يغُرنَّك أن كانت جارتُكِ هي أوسمُ - أو : أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك . فتبسم أخرى ، فقلت : أستأنس يا رسول الله . قال : " نعم " . فجلست فرفعت رأسي في البيت ، فوالله ما رأيت في البيت شيئًا يرد البصر إلا أهَبَةٌ ثلاثة{[29049]} فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك ، فقد وسَّع على فارس والروم ، وهم لا يعبدون الله . فاستوى جالسًا وقال : " أفي شك أنت يا بن الخطاب ؟ أولئك قوم عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " . فقلت : استغفر لي يا رسول الله . وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرًا ؛ من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله ، عز وجل{[29050]} .
وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ، من طرق ، عن الزهري ، به{[29051]} وأخرجه الشيخان من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن عُبَيد بن حُنَين ، عن ابن عباس ، قال : مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية ، فما أستطيع أن أسأله هيبةً له ، حتى خرج حاجًا فخرجت معه ، فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق ، عدل إلى الأرَاك لحاجة له ، قال : فوقفت حتى فرغ ، ثم سرت معه فقلت : يا أمير المؤمنين ، من اللتان{[29052]} تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم ؟{[29053]} .
هذا لفظ البخاري ، ولمسلم : من المرأتان اللتان قال الله تعالى : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } ؟ قال : عائشة وحفصة . ثم ساق الحديث بطوله ، ومنهم من اختصره .
وقال مسلم أيضًا : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا عمر بن يونس الحنفي ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن سِماك بن الوليد - أبي زميل - حدثني عبد الله بن عباس ، حدثني عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، دخلت المسجد ، فإذا الناس يَنكُتُون بالحصى ، ويقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ! وذلك قبل أن يُؤمَر بالحجاب . فقلت : لأعلمن ذلك اليوم . . . فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ، ووعظه إياهما ، إلى أن قال : فدخلت ، فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسكُفَّة المشرَبة ، فناديت فقلت : يا رباح ، استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . فذكر نحو ما تقدم ، إلى أن قال : فقلت يا رسول الله ما يَشُقّ عليك من أمر النساء ، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريلَ وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ، وقلما تكلمتُ - وأحمد الله - بكلام إلا رجوتُ أن يكون الله يصدق قولي ، ونزلت هذه الآية ، آية التخيير : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } فقلت : أطلقتهن ؟ قال : " لا " . فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق نساءه ، ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر{[29054]} .
وكذا قال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومقاتل بن حيان ، والضحاك ، وغيرهم : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر وعمر - زاد الحسن البصري : وعثمان . وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } قال : علي بن أبي طالب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي عمر ، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال : أخبرني رجل ثقة يرفعه إلى علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في ]{[29055]} قوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } قال : هو علي بن أبي طالب . إسناده ضعيف . وهو منكر جدًا .
وقال البخاري : حدثنا عمرو بن عون ، حدثنا هُشَيم ، عن حُميد ، عن أنس ، قال : قال عمر : اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه ، فقلت لهن : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } فنزلت هذه الآية{[29056]} .
وقد تقدّم أنه وافق القرآن في أماكنَ ، منها في نزول الحجاب ، ومنها في أسارى بدر ، ومنها قوله : لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فأنزل الله : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا [ أبي ، حدثنا ]{[29057]} الأنصاري ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس قال : قال عمر بن الخطاب : بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستقريتهن{[29058]} أقول : لتكفن عن رسول الله أو ليبدلَنّه الله أزواجًا خيرا منكن . حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين ، فقالت : يا عمر ، أما لي برسول الله ما يعظ نساءه ، حتى تعظهن ؟ ! فأمسكت ، فأنزل الله ، عز وجل : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } وهذه المرأة التي رَدّته عما كان فيه من وَعظ النساء هي أم سلمة ، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري{[29059]} .
وقال الطبراني ، حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني ، حدثنا إسماعيل البجلي ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي سنان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا } قال : دخلَت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها وهو يَطَأ مارية ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة ، فإن أباك يَلي الأمرَ من بعد أبي بكر إذا أنا مت " . فذهبت حفصة فأخبَرتْ عائشة ، فقالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : من أنبأك هذا ؟ قال : { نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } فقالت عائشة : لا أنظر إليك حتى تحرم مارية فحرمها ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ } {[29060]} .
إسناده فيه نظر ، وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه الآيات الكريمات .
روي في الحديث عن زيد بن أسلم والشعبي وغيرهما ما معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أهدى المقوقس مارية القبطية اتخذها سرية{[11179]} ، فلما كان في بعض الأيام وهو يوم حفصة بنت عمر ، وقيل بل كان في يوم عائشة ، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت حفصة فوجدها قد مرت إلى زيارة أبيها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في جاريته فقال معها{[11180]} ، فجاءت حفصة فوجدتهما فأقامت خارج البيت حتى أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية وذهبت ، فدخلت حفصة غيرى متغيرة اللون فقالت : يا رسول الله أما كان في نسائك أهون عليك مني ؟ أفي بيتي وعلى فراشي ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مترضياً لها : أيرضيك أن أحرمها قالت : نعم ، فقال : إني قد حرمتها . قال ابن عباس ، وقال مع ذلك والله لا أطؤها أبداً ، ثم قال لها : لا تخبري بهذا أحداً ، فمن قال إن ذلك كان في يوم عائشة ، قال استكتمها خوفاً من غضب عائشة وحسن عشرتها ، ومن قال : كان في يوم حفصة ، قال استكتمتها لنفس الأمر ، ثم إن حفصة رضي الله عنها قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة ، وأخبرتها لتسرها بالأمر ، ولم ترض إفشاءه إليها حرجاً واستكتمتها ، فأوحى الله بذلك إلى نبيه ، ونزلت الآية{[11181]} .
وروي عن عكرمة أن هذا نزل بسبب شريك التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم{[11182]} ، وذكر النقاش نحوه عن ابن عباس ، وروى عبد بن عمير عن عائشة أن هذا التحريم المذكور في الآية ، إنما هو بسبب شراب العسل الذي شربه صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش ، فتمالأت عائشة وحفصة وسودة على أن تقول له : من دنا منها ، أكلتَ مغافير ، والمغافير صمغ العرفط ، وهو حلو ثقيل الريح ، ففعلن ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ولكني شربت عسلاً » ، فقلن : جرست نحله العرفط ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا أشربه أبداً » وكان يكره أن توجد منه رائحة ثقيلة ، فدخل بعد ذلك على زينب ، فقالت : ألا نسقيك من ذلك العسل ؟ قال : «لا حاجة لي به » ، قالت عائشة : تقول سودة حين بلغها امتناعه والله لقد حرمتاه . قلت لها : اسكتي{[11183]} .
قال القاضي أبو محمد : والقول الأول إن الآية نزلت بسبب مارية أصح وأوضح ، وعليه تفقه الناس في الآية ، ومتى حرم رجل مالاً أو جارية دون أن يعتق و يشترط عتقاً أو نحو ذلك ، فليس تحريمه بشيء ، واختلف العلماء إذ حرم زوجته بأن يقول لها : أنت علي حرام ، والحلال علي حرام ، ولا يستثني زوجته ، فقال مالك رحمه الله : هي ثلاث في المدخول بها ، وينوي في غير المدخول بها فهو ما أراد من الواحدة أو الاثنين أو الثلاث ، وقال عبد الملك بن الماجشون : هي ثلاث في الوجهين ولا ينوي في شيء .
وروى ابن خويز منداد عن مالك : أنها واحدة بائنة في المدخول بها وغير المدخول بها ، وروي عن عبد العزيز بن الماجشون ، أنه كان يحملها على واحدة رجعية ، وقال غير واحد من أهل العلم : التحريم لا شيء ، وإنما عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم فيه ودله على تحلة اليمين المبينة في المائدة لقوله : «قد حرمتها والله لا أطؤها أبداً » ، وقال مسروق : ما أبالي أحرمتها أو قصعة من ثريد . وكذلك قال الشعبي ليس التحريم بشيء ، قال تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام }{[11184]} [ النحل : 116 ] وقال : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم }{[11185]} [ المائدة : 87 ] ، ومحرم زوجته مسم حراماً ما جعله حلالاً ، ومحرم ما أحل الله له ، وقال أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وابن مسعود وابن عباس وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة وأبو ثور والأوزاعي والحسن وجماعة : «التحريم » يلزم فيه تكفير يمين بالله ، والتحلة إنما هي من جهة التحريم ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والله لا أطؤها » ، وقال أبو قلابة : التحريم ظهار ، وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون : هو ما أراد من الطلاق ، فإن لم يرد بذلك طلاقاً فهو لا شيء . وقال : هو ما أراد من الطلاق ، فإن لم يرد طلاقاً فهو يمين ، فدعا الله تعالى نبيه باسم النبوة الذي هو دال على شرف منزلته وعلى فضيلته التي خصه بها دون البشر ، وقرره كالمعاتب على سبب تحريمه على نفسه ما أحل الله له ، وقوله : { تبتغي } جملة في موضع الحال من الضمير الذي في { تحرم } ، و «المرضاة » مصدر كالرضى ، ثم غفر له تعالى ما عاتبه فيه ورحمه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
سورة التحريم مدنية في قول الجميع.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تسمى سورة النبي صلى الله عليه وسلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الحث على تقدير التدبير في الأدب مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم مع سائر العباد والندب إلى التخلق بالأدب الشرعي وحسن المباشرة لا سيما للنساء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في حسن عشرته وكريم صحبته...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عندما جرى قدر الله أن يجعل الإسلام هو الرسالة الأخيرة؛ وأن يجعل منهجه هو المنهاج الباقي إلى آخر الخليقة؛ وأن تجري حياة المؤمنين به وفق الناموس الكوني العام؛ وأن يكون هذا الدين هو الذي يقود حياة البشرية ويهيمن على نشاطها في كل ميدان..
عندما جرى قدر الله بهذا كله جعل الله هذا المنهج في هذه الصورة، شاملا كاملا متكاملا، يلبي كل طاقات البشر واستعداداتهم، في الوقت الذي يرفع هذه الطاقات وهذه الاستعدادات إلى الأفق اللائق بخليفة الله في الأرض، وبالكائن الذي كرمه الله على كثير من عباده، ونفخ فيه من روحه.
وجعل طبيعة هذا الدين الانطلاق بالحياة إلى الأمام: نموا وتكاثرا، ورفعة وتطهرا، في آن واحد. فلم يعطل طاقة بانية، ولم يكبت استعدادا نافعا. بل نشط الطاقات وأيقظ الاستعدادات وفي الوقت ذاته حافظ على توازن حركة الاندفاع إلى الأمام مع حركة الارتفاع إلى الأفق الكريم، الذي يهيئ الأرواح في الدنيا لمستوى نعيم الآخرة، ويعد المخلوق الفاني في الأرض للحياة الباقية في دار الخلود.
وعندما جرى قدر الله أن يجعل طبيعة هذه العقيدة هكذا جرى كذلك باختيار رسولها [صلى الله عليه وسلم] إنسانا تتمثل فيه هذه العقيدة بكل خصائصها، وتتجسم فيه بكل حقيقتها، ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها. إنسانا قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلها. ضليع التكوين الجسدي، قوي البنية، سليم البناء؛ صحيح الحواس، يقظ الحس، يتذوق المحسوسات تذوقا كاملا سليما. وهو في ذات الوقت ضخم العاطفة، حي الطبع، سليم الحساسية، يتذوق الجمال، متفتح للتلقي والاستجابة. وهو في الوقت ذاته كبير العقل، واسع الفكر، فسيح الأفق، قوي الإرادة، يملك نفسه ولا تملكه.. ثم هو بعد ذلك كله.. النبي.. الذي تشرق روحه بالنور الكلي، والذي تطيق روحه الإسراء والمعراج، والذي ينادى من السماء، والذي يرى نور ربه، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كل شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر، فيسلم عليه الحصى والحجر، ويحن له الجذع، ويرتجف به أحد -الجبل..!.. ثم تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلها. فإذا هو التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها..
ثم يجعل الله حياته الخاصة والعامة كتابا مفتوحا لأمته وللبشرية كلها، تقرأ فيه صور هذه العقيدة، وترى فيه تطبيقاتها الواقعية. ومن ثم لا يجعل فيها سرا مخبوءا، ولا سترا مطويا. بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العادي. حتى مواضع الضعف البشري الذي لا حيلة فيه لبشر. بل إن الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول [صلى الله عليه وسلم] للناس!
إنه ليس له في نفسه شيء خاص. فهو لهذه الدعوة كله. فعلام يختبئ جانب من حياته [صلى الله عليه وسلم] أو يخبأ؟ إن حياته هي المشهد المنظور القريب الممكن التطبيق من هذه العقيدة؛ وقد جاء [صلى الله عليه وسلم] ليعرضها للناس في شخصه، وفي حياته، كما يعرضها بلسانه وتوجيهه. ولهذا خلق. ولهذا جاء.
ولقد حفظ عنه أصحابه [صلى الله عليه وسلم] ونقلوا للناس بعدهم- جزاهم الله خيرا -أدق تفصيلات هذه الحياة. فلم تبق صغيرة ولا كبيرة حتى في حياته اليومية العادية، لم تسجل ولم تنقل.. وكان هذا طرفا من قدر الله في تسجيل حياة هذا الرسول، أو تسجيل دقائق هذه العقيدة مطبقة في حياة الرسول. فكان هذا إلى جانب ما سجله القرآن الكريم من هذه الحياة السجل الباقي للبشرية إلى نهاية الحياة.
وهذه السورة تعرض في صدرها صفحة من الحياة البيتية لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] وصورة من الانفعالات والاستجابات الإنسانية بين بعض نسائه وبعض، وبينهن وبينه! وانعكاس هذه الانفعالات والاستجابات في حياته [صلى الله عليه وسلم] وفي حياة الجماعة المسلمة كذلك.. ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ما وقع في بيوت رسول الله وبين أزواجه.
والوقت الذي وقعت فيه الأحداث التي تشير إليها السورة ليس محددا. ولكن بالرجوع إلى الروايات التي جاءت عنه يتأكد أنه بعد زواج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من زينب بنت جحش قطعا.
ولعله يحسن أن نذكر هنا ملخصا عن قصة أزواج النبي، وعن حياته البيتية يعين على تصور الحوادث والنصوص التي جاءت بصددها في هذه السورة. ونعتمد في هذا الملخص على ما أثبته الإمام ابن حزم في كتابه: "جوامع السيرة".. وعلى السيرة لابن هشام مع بعض التعليقات السريعة:
أول أزواجه [صلى الله عليه وسلم] خديجة بنت خويلد. تزوجها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو ابن خمس وعشرين سنة وقيل ثلاث وعشرون، وسنها- رضي الله عنها -أربعون أو فوق الأربعين، وماتت- رضي الله عنها -قبل الهجرة بثلاث سنوات، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت. وقد تجاوزت سنه الخمسين.
فلما ماتت خديجة تزوج عليه السلام سودة بنت زمعة- رضي الله عنها -ولم يرو أنها ذات جمال ولا شباب. إنما كانت أرملة للسكران بن عمرو بن عبد شمس. كان زوجها من السابقين إلى الإسلام من مهاجري الحبشة. فلما توفي عنها، تزوجها رسول الله- [صلى الله عليه وسلم].
ثم تزوج عائشة -رضي الله عنها- بنت الصديق أبي بكر -رضي الله عنه وأرضاه- وكانت صغيرة، فلم يدخل بها إلا بعد الهجرة. ولم يتزوج بكرا غيرها. وكانت أحب نسائه إليه، وقيل كانت سنها تسع سنوات وبقيت معه تسع سنوات وخمسة أشهر. وتوفي عنها رسول الله [صلى الله عليه وسلم].
ثم تزوج حفصة بنت عمر -رضي الله عنه وعنها- بعد الهجرة بسنتين وأشهر. تزوجها ثيبا. بعدما عرضها أبوها على أبي بكر وعلى عثمان فلم يستجيبا. فوعده النبي خيرا منهما وتزوجها!
ثم تزوج زينب بنت خزيمة. وكان زوجها الأول عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب قد قتل يوم بدر. وتوفيت زينب هذه في حياته [صلى الله عليه وسلم]. وقيل كان زوجها قبل النبي هو عبد الله بن جحش الأسدي المستشهد يوم أحد. ولعل هذا هو الأقرب.
وتزوج أم سلمة. وكانت قبله زوجا لأبي سلمة، الذي جرح في أحد، وظل جرحه يعاوده حتى مات به. فتزوج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أرملته. وضم إليه عيالها من أبي سلمة.
وتزوج زينب بنت جحش. بعد أن زوجها لمولاه ومتبناه زيد بن حارثة فلم تستقم حياتهما فطلقها. وقد عرضنا قصتها في سورة الأحزاب في الجزء الثاني والعشرين، وكانت جميلة وضيئة. وهي التي كانت عائشة -رضي الله عنها- تحس أنها تساميها، لنسبها من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهي بنت عمته، ولوضاءتها!
ثم تزوج جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد غزوة بني المصطلق في أواسط السنة السادسة الهجرية. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها. قالت: " لما قسم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في أسهم الثابت ابن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة مليحة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول لله [صلى الله عليه وسلم] تستعينه في كتابتها. قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها! وعرفت أنه سيرى منها [صلى الله عليه وسلم] ما رأيت، فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله. أنا جويرية بنت الحارث بن أبي صرار سيد قومه. وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس -أو لابن عم له- فكاتبته على نفسي، فجئت أستعينك على كتابتي. قال: " فهل لك في خير من ذلك؟ " قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: " أقضي عنك كتابتك وأتزوجك؟ " قالت: نعم يا رسول الله. قال: " قد فعلت ""..
ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بعد الحديبية. وكانت مهاجرة مسلمة في بلاد الحبشة، فارتد زوجها عبيد الله بن جحش إلى النصرانية وتركها. فخطبها النبي [صلى الله عليه وسلم] وأمهرها عنه نجاشي الحبشة. وجاءت من هناك إلى المدينة.
وتزوج إثر فتح خيبر بعد الحديبية صفية بنت حيي بن أخطب زعيم بني النضير. وكانت زوجة لكنانة ابن أبي الحقيق وهو من زعماء اليهود أيضا. ويذكر ابن إسحاق في قصة زواجه [صلى الله عليه وسلم] منها: أنه أتي بها وبأخرى معها من السبي، فمر بهما بلال -رضي الله عنه- على قتلى من قتلى اليهود فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها. فقال [صلى الله عليه وسلم]: " اعزبوا عني هذه الشيطانة " وأمر بصفية فحيزت خلفه، وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد اصطفاها لنفسه. فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لبلال -فيما بلغني- حين رأى بتلك اليهودية ما رأى: " أنزعت منك الرحمة يا بلال؟ حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟".
ثم تزوج ميمونة بنت الحارث بن حزن، وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عباس، وكانت قبل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عند أبي رهم بن عبد العزى، وقيل حويطب بن عبد العزى، وهي آخر من تزوج [صلى الله عليه وسلم].
وهكذا ترى أن لكل زوجة من أزواجه [صلى الله عليه وسلم] قصة وسببا في زواجه منها. وهن فيمن عدا زينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث، لم يكن شواب ولا ممن يرغب فيهن الرجال لجمال. وكانت عائشة -رضي الله عنها- هي أحب نسائه إليه. وحتى هاتان اللتان عرف عنهما الجمال والشباب كان هناك عامل نفسي وإنساني آخر -إلى جانب جاذبيتهن- ولست أحاول أن أنفي عنصر الجاذبية الذي لحظته عائشة في جويرية مثلا، ولا عنصر الجمال الذي عرفت به زينب. فلا حاجة أبدا إلى نفي مثل هذه العناصر الإنسانية من حياة النبي [صلى الله عليه وسلم] وليست هذه العناصر موضع اتهام يدفعه الأنصار عن نبيهم. إذا حلا لأعدائه أن يتهموه! فقد اختير ليكون إنسانا. ولكن إنسانا رفيعا. وهكذا كان. وهكذا كانت دوافعه في حياته وفي أزواجه [صلى الله عليه وسلم] على اختلاف الدوافع والأسباب.
ولقد عاش في بيته مع أزواجه بشرا رسولا كما خلقه الله، وكما أمره أن يقول: (قل: سبحان ربي! هل كنت إلا بشرا رسولا؟)..
استمتع بأزواجه وأمتعهن، كما قالت عائشة -رضي الله عنها- عنه: " كان إذا خلا بنسائه ألين الناس. وأكرم الناس ضحاكا بساما".. ولكنه إنما كان يستمتع بهن ويمتعهن من ذات نفسه، ومن فيض قلبه، ومن حسن أدبه، ومن كريم معاملته. فأما حياتهن المادية فكانت في غالبها كفافا حتى بعد أن فتحت له الفتوح وتبحبح المسلمون بالغنائم والفيء. وقد سبق في سورة الأحزاب قصة طلبهن الوسعة في النفقة، وما أعقب هذا الطلب من أزمة، انتهت بتخييرهن بين الله ورسوله والدار الآخرة، أو المتاع والتسريح من عصمته [صلى الله عليه وسلم] فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
ولكن الحياة في جو النبوة في بيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لم تكن لتقضي على المشاعر البشرية، والهواتف البشرية في نفوس أزواجه -رضي الله عنهن- فقد كان يبدر أو يشجر بينهن، ما لابد أن يشجر في قلوب النساء في مثل هذه الحال. وقد سلف في رواية ابن إسحاق عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كرهت جويرية بمجرد رؤيتها لما توقعته من استملاح رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لها إذا رآها. وصح ما توقعته فعلا! وكذلك روت هي نفسها حادثا لها مع صفية. قالت. " قلت للنبي [صلى الله عليه وسلم]: حسبك من صفية كذا وكذا". قال الراوي: تعني قصيرة! فقال [صلى الله عليه وسلم]: " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته".. كذلك روت عن نفسها أن النبي [صلى الله عليه وسلم] حين نزلت آية التخيير التي في الأحزاب، فاختارت هي الله ورسوله والدار الآخرة، طلبت إليه ألا يخبر زوجاته عن اختيارها! -وظاهر لماذا طلبت هذا!- فقال [صلى الله عليه وسلم]: " إن الله تعالى لم يبعثني معنفا، ولكن بعثني معلما ميسرا. لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها..".
وهذه الوقائع التي روتها عائشة -رضي الله عنها- عن نفسها -بدافع من صدقها ولتربيتها الإسلامية الناصعة- ليست إلا أمثلة لغيرها تصور هذا الجو الإنساني الذي لابد منه في مثل هذه الحياة. كما تصور كيف كان الرسول [صلى الله عليه وسلم] يؤدي رسالته بالتربية والتعلية في بيته كما يؤديها في أمته سواء.
وهذا الحادث الذي نزل بشأنه صدر هذه السورة هو واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول [صلى الله عليه وسلم] وفي حياة أزواجه. وقد وردت بشأنه روايات متعددة ومختلفة سنعرض لها عند استعراض النصوص القرآنية في السورة.
وبمناسبة هذا الحادث وما ورد فيه من توجيهات. وبخاصة دعوة الزوجتين المتآمرتين فيه إلى التوبة. أعقبه في السورة دعوة إلى التوبة وإلى قيام أصحاب البيوت على بيوتهم بالتربية، ووقاية أنفسهم وأهليهم من النار. كما ورد مشهد للكافرين في هذه النار. واختتمت السورة بالحديث عن امرأة نوح وامرأة لوط كمثل للكفر في بيت مؤمن. وعن امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر، وكذلك عن مريم ابنة عمران التي تطهرت فتلقت النفخة من روح الله وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين..
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك، تبتغي مرضاة أزواجك، والله غفور رحيم. قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم.
وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض، فلما نبأها به قالت: من أنبأك هذا؟ قال: نبأني العليم الخبير.
(إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما، وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير. عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا)..
وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة منها ما رواه البخاري عند هذه الآية قال: حدثنا إبراهيم ابن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها. فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير. إني أجد منك ريح مغافير. قال: " لا. ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له. وقد حلفت. لا تخبري بذلك أحدا".. فهذا هو ما حرمه على نفسه وهو حلال له: (لم تحرم ما أحل الله لك؟).
ويبدو أن التي حدثها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] هذا الحديث وأمرها بستره قالت لزميلتها المتآمرة معها. فأطلع الله رسوله [صلى الله عليه وسلم] على الأمر. فعاد عليها في هذا وذكر لها بعض ما دار بينها وبين زميلتها دون استقصاء لجميعه. تمشيا مع أدبه الكريم. فقد لمس الموضوع لمسا مختصرا لتعرف أنه يعرف وكفى. فدهشت هي وسألته: (من أنبأك هذا؟).. ولعله دار في خلدها أن الأخرى هي التي نبأته! ولكنه أجابها: (نبأني العليم الخبير).. فالخبر من المصدر الذي يعلمه كله. ومضمون هذا أن الرسول [صلى الله عليه وسلم] يعلم كل ما دار، لا الطرف الذي حدثها به وحده!
وقد كان من جراء هذا الحادث وما كشف عنه من تآمر ومكايدات في بيت الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن غضب. فآلى من نسائه لا يقربهن شهرا، وهم بتطليقهن -على ما تسامع المسلمون- ثم نزلت هذه الآيات. وقد هدأ غضبه [صلى الله عليه وسلم] فعاد إلى نسائه بعد تفصيل سنذكره بعد عرض رواية أخرى للحادث.
وهذه الرواية الأخرى أخرجها النسائي من حديث أنس، أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها. فأنزل الله عز وجل: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك؛ تبتغي مرضات أزواجك...
وفي رواية لابن جرير ولابن أسحاق أن النبي [صلى الله عليه وسلم] وطئ مارية أم ولده إبراهيم في بيت حفصة. فغضبت وعدتها إهانة لها. فوعدها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بتحريم مارية وحلف بهذا. وكلفها كتمان الأمر. فأخبرت به عائشة.. فهذا هو الحديث الذي جاء ذكره في السورة.
وكلا الروايتين يمكن أن يكون هو الذي وقع. وربما كانت هذه الثانية أقرب إلى جو النصوص وإلى ما أعقب الحادث من غضب كاد يؤدي إلى طلاق زوجات الرسول [صلى الله عليه وسلم] نظرا لدقة الموضوع وشدة حساسيته. ولكن الرواية الأولى أقوى إسنادا. وهي في الوقت ذاته ممكنة الوقوع، ويمكن أن تحدث الآثار التي ترتبت عليها. إذا نظرنا إلى المستوى الذي يسود بيوت النبي، مما يمكن أن تعد فيه الحادثة بهذا الوصف شيئا كبيرا.. والله أعلم أي ذلك كان.
أما وقع هذا الحادث -حادث إيلاء النبي [صلى الله عليه وسلم] من أزواجه، فيصوره الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس- رضي الله عنهما -وهو يرسم كذلك جانبا من صورة المجتمع الإسلامي يومذاك.. قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن ابن عباس قال: " لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] اللتين قال الله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة، فتبرز، ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي [صلى الله عليه وسلم] اللتان قال الله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما)؟ فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس! [قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه] قال: هي عائشة وحفصة. قال: ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم. قال: وكان منزلي في دار أمية بن زيد بالعوالي. قال: فغضبت يوما على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني. فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل! قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله [صلى الله عليه وسلم]؟ قالت: نعم! قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم! قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ولا تسأليه شيئا وسليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم- أي أجمل -وأحب إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] منك- يريد عائشة -قال: وكان لي جار من الأنصار وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ينزل يوما وأنزل يوما، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك. قال: وكنا نتحدث أن غسان تنحل الخيل لتغزونا. فنزل صاحبي يوما ثم أتى عشاء فضرب بابي ثم نادى، فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم. فقلت: وما ذاك؟ أجاءت غسان؟ قال: لا. بل أعظم من ذلك وأطول! طلق رسول الله [صلى الله عليه وسلم] نساءه! فقلت: قد خابت حفصة وخسرت! قد كنت أظن هذا كائنا. حتى إذا صليت الصبح شددت على ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي. فقلت: أطلقكن رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ -فقالت: لا أدري. هو هذا معتزل في هذه المشربة. فأتيت غلاما أسودا فقلت: استأذن لعمر. فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال: ذكرتك له فصمت! فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم. فجلست عنده قليلا، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلي فقال: ذكرتك له فصمت! فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلي فقال: ذكرتك له فصمت! فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني. فقال: ادخل قد أذن لك. فدخلت فسلمت على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه. فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال: " لا". فقلت: الله أكبر! ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوما، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي [صلى الله عليه وسلم] ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله؛ فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقلت: يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] منك! فتبسم أخرى. فقلت: أستأنس يا رسول الله! قال: " نعم " فجلست، فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا هيبة مقامه فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالسا وقال: " أفي شك أنت يا بن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا". فقلت: استغفر لي يا رسول الله.. وكان أقسم ألا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل".. [وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري بهذا النص]..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سبب نزولها حادثتان حدثتا بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
إحداهما: ما ثبت في الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شرب عسلا عند إحدى نسائه اختلف في أنها زينب بنت جحش، أو حفصة، أو أم سلمة، أو سودة بنت زمعة. والأصح أنها زينب. فعلمت بذلك عائشة فتواطأت هي وحفصة على أن أيتهما دخل عليها تقول له إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، والمغافير صمغ شجر العرفط وله رائحة مختمرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه رائحة، وإنما تواطأتا على ذلك غيرة منهما أن يحتبس عند زينب زمانا يشرب فيه عسلا. فدخل على حفصة فقالت له ذلك، فقال: بل شربت عسلا عند فلانة ولن أعود له، أراد بذلك استرضاء حفصة في هذا الشأن وأوصاها أن لا تخبر بذلك عائشة لأنه يكره غضبها فأخبرت حفصة عائشة فنزلت الآيات.
هذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآيات. والتحريم هو قوله: ولن أعود له. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا صدقا، وكانت سودة تقول لقد حرمناه.
والثانية ما رواه ابن القاسم في المدونة عن مالك عن زيد بن أسلم قال: حرم رسول الله أم إبراهيم جاريته فقال والله أطؤك ثم قال: هي علي حرام فأنزل الله تعالى {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك}.
وتفصيل هذا الخبر ما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة فوجدته حفصة معها، وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها. فقالت حفصة: تدخلها بيتي ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها. قيل: فقالت له حفصة: كيف تحرم عليك وهي جاريتك فحلف لها أن لا يقربها فذكرته حفصة لعائشة فآلى أن لا يدخل على نسائه شهرا فأنزل الله تعالى {يا أيها النبي لما تحرم ما أحل الله لك}. وهو حديث ضعيف.
ما تضمنه سبب نزولها أن أحدا لا يحرم على نفسه ما أحل الله له لإرضاء أحد إذ ليس ذلك بمصلحة له ولا للذي يسترضيه فلا ينبغي أن يجعل كالنذر إذ لا قربة فيه وما هو بطلاق لأن التي حرمها جارية ليست بزوجة، فإنما صلاح كل جانب فيما يعود بنفع على نفسه أو ينفع به غيره نفعا مرضيا عند الله وتنبيه نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن غيرة الله على نبيه أعظم من غيرتهن عليه وأسمى مقصدا.
وأن الله يطلعه على ما يخصه من الحادثات.
وأن من حلف على يمين فرأى حنثها خيرا من برها أن يكفر عنها ويفعل الذي هو خير. وقد ورد التصريح بذلك في حديث وفد عبد القيس عن رواية أبي موسى الأشعري، وتقدم في سورة براءة.
وتعليم الأزواج أن لا يكثرن من مضايقة أزواجهن فإنها ربما أدت إلى الملال فالكراهية فالفراق.
وموعظة الناس بتربية بعض الأهل بعضا ووعظ بعضهم بعضا.
وأتبع ذلك بوصف عذاب الآخرة ونعيمها وما يفضي إلى كليهما من أعمال الناس صالحاتها وسيئاتها.
وذيل ذلك بضرب مثلين من صالحات النساء وضدهن لما في ذلك من العظمة لنساء المؤمنين ولأمهاتهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ملاحظة: تتكوّن هذه السورة من أربعة أقسام رئيسيّة: القسم الأوّل: يرتبط بقصّة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع بعض أزواجه حينما حرم بعض أنواع الطعام على نفسه، فنزلت الآيات من 1 -5 وفيها لوم لزوجات الرّسول لأسباب سنذكرها في سبب النزول.
القسم الثّاني: خطاب لكلّ المؤمنين في شؤون التربية ورعاية العائلة ولزوم التوبة من الذنوب، وهو من الآية 6- 8.
القسم الثّالث: وهو الآية التاسعة التي تتضمّن خطاباً إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بضرورة مجاهدة الكفّار والمنافقين.
القسم الرّابع: وهو القسم الأخير للسورة، من الآية 10 – 12، ويتضمّن توضيحاً للأقسام السابقة بذكر نموذجين صالحين للنساء، وهما (مريم العذراء، وزوجة فرعون) ونموذجين غير صالحين (زوجة نوح، وزوجة لوط) ويحذّر نساء النبي من هذين النموذجين الأخيرين ويدعوهنّ إلى الاقتداء بالنموذجين الأوّلين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبيّ المحرّم على نفسه ما أحلّ الله له، يبتغي بذلك مرضاة أزواجه، لم تحرّم على نفسك الحلال الذي أحله الله لك، تلتمس بتحريمك ذلك مرضاة أزواجك.
واختلف أهل العلم في الحلال الذي كان الله جلّ ثناؤه أحله لرسوله، فحرّمه على نفسه ابتغاء مرضاة أزواجه؛ فقال بعضهم: كان ذلك مارية مملوكته القبطية، حرّمها على نفسه بيمين أنه لا يقربها طالبا بذلك رضا حفصة بنت عمر زوجته، لأنها كانت غارت بأن خلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في يومها وفي حجرتها...
وقال آخرون: بل حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته، فجعل الله عزّ وجلّ تحريمه إياها بمنزلة اليمين، فأوجب فيها من الكفارة مثل ما أوجب في اليمين إذا حنث فيها صاحبها...
وقال آخرون: كان ذلك شرابا يشربه، كان يعجبه ذلك... والصواب من القول في ذلك أن يقال: كان الذي حرّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز أن يكون كان شرابا من الأشربة، وجائز أن يكون كان غير ذلك، غير أنه أيّ ذلك كان، فإنه كان تحريم شيء كان له حلالاً، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان له قد أحله، وبين له تحلّة يمينه كان حلف بها مع تحريمه ما حرّم على نفسه.
فإن قائل قائل: وما برهانك على أنه صلى الله عليه وسلم كان حلف مع تحريمه ما حرم، فقد علمت قول من قال: لم يكن من النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك غير التحريم، وأن التحريم هو اليمين؟ قيل: البرهان على ذلك واضح، وهو أنه لا يعقل في لغة عربية ولا عجمية أن قول القائل لجاريته، أو لطعام أو شراب، هذا عليّ حرام يمين، فإذا كان ذلك غير معقول، فمعلوم أن اليمين غير قول القائل للشيء الحلال له: هو عليّ حرام. وإذا كان ذلك كذلك صحّ ما قلنا، وفسد ما خالفه، وبعد، فجائز أن يكون تحريم النبيّ صلى الله عليه وسلم ما حرّم على نفسه من الحلال الذي كان الله تعالى ذكره، أحله له بيمين، فيكون قوله" لِمَ تُحَرّمُ ما أحَلّ اللّهُ "معناه: لم تحلف على الشيء الذي قد أحله الله أن لا تقربه، فتحرّمه على نفسك باليمين...
وقوله: "وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" يقول تعالى ذكره: والله غفور يا محمد لذنوب التائبين من عباده من ذنوبهم، وقد غفر لك تحريمك على نفسك ما أحله الله لك، "رحيم" بعباده أن يعاقبهم على ما قد تابوا منه من الذنوب بعد التوبة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
تأويله عندنا، والله أعلم، على وجهين:
أحدهما: أن تحريم ما أحل الله تعالى، هو أن يعتقد تحريم المحلل وتحليل المحرم في ما حرم الله تعالى مطلقا. فمن اعتقد تحريمه حكم عليه بالكفر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتقد تحريم ما أحل الله، إذ لم ير جماعها عليه محرما، بل امتنع عن الانتفاع بها باليمين. والحرمة التي تثبت بسبب اليمين، لم تكن من فعل الآدميّ...
والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ندب إلى حسن العشرة مع أزواجه إلى الشفقة عليهن، فبلغ في حسن العشرة والصحبة مبلغا، امتنع عن الانتفاع بما أحل الله له وأباح له التلذذ به، يبتغي به حسن عشرتهن، ويطلب به مرضاتهن. فقال: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل لله لك} أي لا تبلغن بك الشفقة عليهن وحسن العشرة معهن مبلغا تمتنع عن الانتفاع بما أحل الله لك... وقوله تعالى: {والله غفور رحيم} أي غفور لما تقدم من ذنبك وما تأخر، لو كان، أو يكون، {رحيم} حين لم يعاقبك بما اجترأت من الإقدام على اليمين لا بإذن سبق من الله لك فيه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الإشارةُ فيه: وجوبُ تقديم حقِّ الله -سبحانه- على كل شيء في كل وقت...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{يا أيها النبي}: نداء إقبال وتشريف وتنبيه بالصفة على عصمته مما يقع فيه من ليس بمعصوم؛ {لم تحرم}: سؤال تلطف، ولذلك قدم قبله {يا أيها النبي}، كما جاء في قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} ومعنى {تحرم}: تمنع، وليس التحريم المشروع بوحي من الله، وإنما هو امتناع لتطييب خاطر بعض من يحسن معه العشرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختم سبحانه الطلاق بإحاطة علمه وتنزل أمره بين الخافقين في تدبيره، دل عليه أول هذه بإعلاء أمور الخلق بأمر وقع بين خير خلقه وبين نسائه اللاتي من خير النساء واجتهد كل في إخفاء ما تعلق به منه فأظهره سبحانه عتاباً لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم في صورة عقابه لأنه أبلغ رفقاً به لأنه يكاد من شفقته أن يبخع نفسه الشريفة رحمة لأمته تارة لطلب رضاهم وأخرى رغبة في هداهم، لأنه صلى الله عليه وسلم بالغ في تهذيب أخلاقه مع ما طهره الله به من نزاهتها عن كل دنس حتى ضيق عليها بالامتناع عن بعض ما أبيح له حفظاً لخاطر الغير، فقال تعالى منادياً له بأداة البعد وهو أقرب أهل الحضرة مع أنها معدة لما يكون ذا خطب جليل ومعنى جسيم جليل، وفيها إيماء إلى تنبيه الغير وإسماعه إرادة لتأديبه وتزكيته وتهذيبه: {يا أيها النبي} مخاطبه بالوصف الذي يعلم بالعصمة ويلائمه أشد الملاءمة خلو البال وسرور القلب وانشراح الصدر لأنه للتلقي عن الله تعالى فيحث كل سامع على البعد عن كل ما يشوش عليه صلى الله عليه وسلم أدنى تشويش {لم تحرم} أي تفعل فعل المحرم بمنع نفسك الشريفة {ما أحل الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه {لك} بالوعد لبعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بالامتناع من شرب العسل الذي كان عند حفصة أو زينب رضي الله عنهما والامتناع من ملامسة سريتك مارية رضي الله تعالى عنها فتضيق على نفسك لإحسان العشرة مع نسائك رضي الله عنهن أجمعين... ثم علل ذلك سبحانه بقوله: {تبتغي} أي تريد إرادة عظيمة من مكارم أخلاقك وحسن صحبتك {مرضات أزواجك} أي الأحوال والمواضع والأمور التي يرضين بها ومن أولى بأن تبتغين رضاك وكذا جميع الخلق لتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد.
ولما كان أعلى ما يقع به المنع من الأشياء من جهة العباد الإيمان، وكان تعالى قد جعل من رحمته لعباده لإيمانهم كفارة قال: {والله} أي تفعل ذلك لرضاهن والحال أن الله الملك الأعلى {غفور رحيم} أي محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيه تعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم بأن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي الكريم يعد كالذنب وإن لم يكن في نفسه كذلك، وأن عتابه صلى الله عليه وسلم ليس إلا لمزيد الاعتناء به...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هو عتاب مؤثر موح. فما يجوز أن يحرم المؤمن على نفسه ما أحله الله له من متاع. والرسول [صلى الله عليه وسلم] لم يكن حرم العسل أو مارية بمعنى التحريم الشرعي؛ إنما كان قد قرر حرمان نفسه. فجاء هذا العتاب يوحي بأن ما جعله الله حلالا فلا يجوز حرمان النفس منه عمدا وقصدا إرضاء لأحد.. والتعقيب: (والله غفور رحيم).. يوحي بأن هذا الحرمان من شأنه أن يستوجب المؤاخذة، وأن تتداركه مغفرة الله ورحمته. وهو إيحاء لطيف...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{لم تحرم} مستعمل في معنى النفي، أي لا يوجد ما يدعو إلى أن تحرّم على نفسك ما أحلّ اللَّه لك ذلك أنه لما التزم عدم العود إلى ما صدر منه التزاماً بيمين أو بدون يمين أراد الامتناع منه في المستقبل قاصداً بذلك تطمين أزواجه اللائي تمالأْنَ عليه لِفرط غيرتهن، أي ليست غيرتهن مما تجب مراعاته في المعاشرة إن كانت فيما لا هضم فيه لحقوقهن، ولا هي من إكرام إحداهن لزوجها إن كانت الأخرى لم تتمكن من إكرامه بمثل ذلك الإِكرام في بعض الأيام. وهذا يومئ إلى ضبط ما يراعى من الغيرة وما لا يراعَى. وفعل {تحرم}...
.وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حراماً... وفي الإِتيان بالموصول في قوله: {ما أحل الله لك} لما في الصلة من الإِيماء إلى تعليل الحكم هو أن ما أحله الله لعبده ينبغي له أن يتمتع به ما لم يعرض له ما يوجب قطعه من ضر أو مرض لأن تناوله شكرٌ لله واعترافٌ بنعمته والحاجة إليه. وفي قوله: {تبتغي مرضات أزواجك} عذر للنبي صلى الله عليه وسلم فيما فعله من أنه أراد به خيراً وهو جلب رضا الأزواج لأنه أعون على معاشرته مع الإشعار بأن مثل هذه المرضاة لا يعبأ بها لأن الغيرة نشأت عن مجرد معاكسة بعضهن بعضاً وذلك مما يختل به حسن المعاشرة بينهن، فأنبأه الله أن هذا الاجتهاد معارَض بأن تحريم ما أحلّ الله له يفضي إلى قطع كثير من أسباب شكر الله عند تناول نعمه وأن ذلك ينبغي إبطاله في سيرة الأمة. وذيل بجملة {والله غفور رحيم} استئناساً للنبيء صلى الله عليه وسلم من وحشة هذا الملام، أي والله غفور رحيم لك...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
ومحل الاستدلال هو أن من ليس له حق في تحريم ما أحل الله له ابتغاء مرضاة أزواجه لا يحل له إحلال، وتجويز ما لا يجوز ابتغاء مرضاتهن، وهذا ظاهر بين ولله الحمد...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
قد يفيد أسلوب الآيتين الأولى والثانية أن الله عز وجل لا يحب أن يحرم الإنسان على نفسه ما أباحه وأحله له. وأن الواجب إذا صدر من امرئ يمين بذلك أن يكفر عنه ويتمتع بما أباحه الله وأحله له...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وهذا المعنى لا يخرج عن كونه عتابا رقيقا من الحق سبحانه وتعالى لنبيه عليه السلام في بعض شؤونه العائلية، وتنبيها خفيفا إلى الحل الأمثل في أمره، فقد كان الوحي الإلهي يتتبع خطوات الرسول بالتوجيه والرعاية باستمرار لا فرق في ذلك بين حياته العامة، وحياته الخاصة... وكما أدّب رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجاته على ما فاه به بعضهن من الهفوات في حقه أوفي حق شريكاتهن، فاعتزلهن "من شدة موجدته عليهن " ها هو كتاب الله يدعوه إلى وضع حد لذلك الحادث الطارئ، واستئناف حياته العائلية في وئام وانسجام، بينه وبين زوجاته، وبين زوجاته بعضهن مع بعض، طبقا لما هو معهود في بيته الشريف. وليس غريبا من أمر الرسول عليه السلام أن يتأثر شعوره الرقيق من هفوات بعض الزوجات، لما تثيره بينهن من الحساسيات، ما دام عليه السلام هو في وقت واحد " بشرا رسولا"، وإن كان عند ربه وعند الناس بشرا لا كالبشر، وخاتم الأنبياء والمرسلين، {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم: 4). كما أنه ليس غريبا أن يقف كتاب الله إلى جانب رسوله في هذه الحادثة بالتوجيه والتسديد، ثم بالتأييد المطلق والتعضيد...
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرم أمورا على نفسه ولم يحرمها على الناس.
وهنا يوضح له الحق سبحانه: لا تحرم على نفسك ما أحللت لك. إذن: هذا أمرٌ لمصلحة الرسول. فأمر التحريم موکولٌ إلى الخالق سبحانه وكذا أمر التحليل، وليس للإنسان أن يتدخل في ذلك أبدا، فتدخل الإنسان يكون أحيانا بتحريم ما أحل الله وأحيانا يكون تدخله بتحليل ما حرم الله. والله عز وجل يقول: {يأيها الذين آمنوا لا ترموا طيبات ما أحل الله لكم.. (87)} [المائدة].
وآية {يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله..} تشير إلى أمر أغضب النبي صلى الله عليه وسلم، فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النفس البشرية من أمور حلّلها الله.
والنبي لم يحل ما حرم الله بل حرم على نفسه ما أحل الله له، وهذا ضد مصلحته وكأن الحق سبحانه يسائله: لماذا ترهق نفسك؟ فهدا عتب لمصلحة النبي صلى الله عليه وسلم.
والتحريم تضييق على النفس، فالحق سبحانه يعتب على رسوله لأنه ضيق على نفسه، وحرم عليها ما أحله الله له، كما تعتب على ولدك الذي سهر طويلا في المذاكرة حتى أرهق نفسه، فالعتاب لصالح الرسول لا ضده.
والله تعالى أحل أشياء وحرم أشياء، فلا تنقل شيئا مما خرم إلى شيء أحل، ولا شيئا مما أحل إلى شيء محرم، كما قال الحق سبحانه: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق.. (32)} [الأعراف].
وربك يا محمد لا يضيق عليك، وينهاك أن تضيق على نفسك وتحرم عليها ما أحل لها، كما يلومك على أن تحلل ما حرم عليك، لأن ذلك في صالحك.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} من بعض مشتهياتك الذاتية، مما ترتاح له نفسك، فتزداد قوةً على ممارسة مسؤوليتك...
وقد كان النبي (ص) رفيقاً بمن حوله، بحيث كان يضغط على نفسه لحساب راحة الناس المحيطين به، لأنه كان الرؤوف الرحيم في أخلاقه الكريمة. ولهذا أراد الله أن يخفف عنه ذلك، فخاطبه خطاباً يشبه عتاب الحبيب للحبيب، متسائلاً: لماذا تحرّم على نفسك ما أباحه الله لك، {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} في ما كنت تريده من إدخال السرور عليهن، ولو على حساب أعصابك؟ وربما كان التحريم الذي صار سبباً للحرمة، كان ناشئاً من الحلف على ترك ما لا تريده بعض أزواجه، مما يوجب الإلزام بالترك على أساس وجوب التقيد باليمين. ومن هنا، جاءت هذه الآية لتحلّه منه بمقتضى تحليل الله له، فلا إثم في الحنث به. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فهو الذي يفتح مغفرته ورحمته لعباده ليمنحهم رضوانه، سواء كان ما فعلوه مما حرّمه عليهم، أو مما حرموه على أنفسهم باليمين ونحوه، أو بالالتزام الذاتي بالترك لما أباحه لهم...