التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

ثم بين - سبحانه - ما يجب عليهم عمله بعد فراغهم من أعمال الحج فقال - تعالى - : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } .

المناسك : جمع منسك مشتق من نسك نسكاً من باب نصر إذا تعبد ، والمراد هنا العبادات التي تتعلق بالحج .

قال ابن كثير : عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان أهل الجاهلية يقفون الموسم - بين مسجد منى وبين الجبل بعد فراغهم من الحج يذكرون فضائل آبائهم - فيقول الرجل منهم . كان أبي يطعم الطعام ويحمل الديات . . . ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الآية " .

والمعنى : فإذا فرغتم من عباداتكم ، وأديتم أعمال حجكم ، فتوفروا على ذكر الله وطاعته كما كنتم تتوفرون على ذكر مفاخر آبائكم ، بل عليكم أن تجعلوا ذكركم لله - تعالى - أشد وأكثر من ذكركم لمآثر آبائكم ، لأن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذبا أدى إلى الخزي في الدنيا والعقوبة في الآخرة . وإن كان صدقاً فإنه في الغالب يؤدي إلى العجب وكثرة الغرور ، أما ذكر الله بإخلاصث وخشوع فثوابه عظيم ، وأجيره كبير . وفضلا عن ذلك فإن المرء إذا كان لا ينسى أباه وهو الله رب العالمين .

فالمقصود من الآية الكريمة الحث على ذكر الله - تعالى - والنهي عن التفاخر بالأحساب والأنساب .

و " أو " هنا في معنى الإِضراب والترقي إلى أعلى ، لأنه . . . سبحانه أمرهم أولا بأن يذكروه ذكراً يماثل ذكرهم لآبائهم ثم ترقى بهم إلى ما هو أعلى من ذلك وأسمى فطالبهم بأن يكون ذكرهم له - سبحانه - أكثر وأعظم من ذكرهم لآبائهم .

قال صاحب الكشاف : وقوله : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله : " كذكركم " كما تقول كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكراً . أو في موضع نصب عطف على { آبَآءَكُمْ } بمعنى ، أو أشد ذكراً من آبائكم .

وبعد أن أمر - سبحانه - الناس بذكره ، بين أنهم بالنسبة لدعائه وسؤاله فريقان ، أما الفريق الأول فقد عبر عنه بقوله : { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } . أي : من الناس نوع يقول في دعائه يا ربنا آتنا ما نرغبه في الدنيا فنحن لا نطلب غيرها ، وهذا النوع ليس له في الآخرة من { خَلاَقٍ } أي : نصيب وحظ من الخير .

وهذا النوع من الناس هو الذي استولى عليه حب الدنيا وشهواتها ومتعها فأصبح لا يفكر إلا فيها ، ولا يهتم إلا بها ، صارفا نظره عن الآخرة وما فهيا من ثواب وعقاب .

والفاء في قوله : { فَمِنَ الناس } للتفصيل ، لأن ما بعدها تقسيم للناس إلى فريقين .

وحذف مفعول { آتِنَا } للدلالة على تعميم المطلوب فهم يطلبون كل ما يمكن أن تصل إليه أيديهم من متاع الدنيا بدون تمييز بين حلال أو حرام ،

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

يأمرُ تعالى بذكره والإكثار منه بعد قَضَاء المناسك وفراغها .

وقوله : { كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } اختلفوا في معناه ، فقال ابن جُرَيج ، عن عطاء : هو{[3665]} كقول الصبي : " أبَهْ أمَّهْ " ، يعني : كما يَلْهَج الصبي بذكر أبيه وأمه ، فكذلك أنتم ، فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك . وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس . وروى ابنُ جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس - نحوه .

وقال سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس [ قال ]{[3666]} : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم{[3667]} فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحَمَالات [ ويحمل الديات ]{[3668]} . ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم . فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }

قال ابن أبي حاتم : ورُوي عن أنس بن مالك ، وأبي وائل ، وعطاء بن أبي رباح في أحد قوليه ، وسعيد بن جُبَير ، وعكرمة في إحدى رواياته ، ومجاهد ، والسدي ، وعطاء الخراساني ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك . وهكذا حكاه ابن جرير أيضًا عن جماعة ، والله أعلم .

والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله عز وجل ؛ ولهذا كان انتصاب قوله : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } على التمييز ، تقديره كذكركم آباءكم أو أشد منه ذكرًا . و " أو " هاهنا لتحقيق المماثلة في الخبر ، كقوله : { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] ، وقوله : { يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] ،

{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] ، { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [ النجم : 9 ] . فليست هاهنا للشك قطعًا ، وإنما هي لتحقيق الخبر عنه بأنه كذلك أو أزْيَد منه . ثم إنه تعالى أرشد إلى دُعَائه بعد كثرة ذكره ، فإنه مظنة الإجابة ، وذَمَّ من لا يسأله إلا في أمر دنياه ، وهو معرض عن أخراه ، فقال : { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } أي : مِنْ نَصِيب ولا حظ . وتضمَّن هذا الذمّ التنفير عن التشبه{[3669]} بمن هو كذلك .

200


[3665]:في جـ: "وهو".
[3666]:زيادة من جـ، ط.
[3667]:في أ: "في المواسم".
[3668]:زيادة من أ، و.
[3669]:في أ: "عن التشبيه".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } ( 200 )

وقوله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } الآية ، قال مجاهد : «المناسك الذبائح وهراقة الدماء » ، والمناسك عندي العبادات في معالم الحج ومواضع النسك فيه ، والمعنى إذا فرغتم من حجكم الذي هو الوقوف بعرفة فاذكروا الله بمحامده وأثنوا عليه بآلائه عندكم ، وخص هذا الوقت بالقضاء لما يقضي الناس فيه مناسكهم في حين واحد ، وما قبل وما بعد فهو على الافتراق : هذا في طواف وهذا في رمي وهذا في حلاق وغير ذلك ، وكانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة فتتفاخر بالآباء وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم وغير ذلك ، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله تعالى( {[1898]} ) أكثر من التزامهم ذكر آبائهم بأيام الجاهلية ، هذا قول جمهور المفسرين .

وقال ابن عباس وعطاء : معنى الآية اذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم ، أي فاستغيثوا( {[1899]} ) به والجؤوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم .

وقالت طائفة : معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه ، وادفعوا من أراد الشرك والنقص في دنيه ومشاعره ، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم ، وقرأ محمد ابن كعب القرظي «كذكركم آباؤكم » أي اهتبلوا بذكره كما يهتبل المرء بذكر ابنه ، فالمصدر على هذه القراءة مضاف إلى المفعول( {[1900]} ) ، و { أشد } في موضع خفض عطفاً على { ذكركم } ويجوز أن يكون في موضع نصب ، التقدير أو اذكروه أشد ذكراً .

وقوله تعالى : { فمن الناس من يقول } الآية( {[1901]} ) ، قال أبو وائل والسدي وابن زيد : كانت عادتهم في الجاهلية أن يدعوا في مصالح الدنيا فقط إذ كانوا لا يعرفون الآخرة ، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص ، بأمر الدنيا( {[1902]} ) ، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم ، والخلاق : النصيب والحظ ، و { من } زائدة لأنها بعد النفي ، فهي مستغرقة لجنس الحظوظ .


[1898]:- قال الإمام النووي رحمه الله: «المراد من الذكر حضور القلب، فينبغي أن يكون هو مقصود الذاكر، ويحرص على تحصيله، ويتدبر ما يذكر ويتعقل معناه، فالتدبر في الذكر مطلوب كما هو مطلوب في القراءة لاشتراكهما في المعنى المقصود». وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري: «ولا مطمع للذاكر في درك حقائق الذكر إلا بإعمال الفكر فيما تحت ألفاظ الذكر من المعاني، وليرفع خطرات نفسه عن باطنه راجعا إلى مقتضى ذكره حتى يغلب معنى الذكر على قبله» انتهى من مختصر ابن عطية رحمه الله.
[1899]:- وفي بعض النسخ: «فاستعينوا به».
[1900]:- والفاعل أباؤكم، والتقدير: اذكروا الله كما يذكركم آباؤكم.
[1901]:- لما كان الدعاء نوعا من أنواع الذكر ذكره بعد إرشاد عباده إلى ذكره سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: بعد قضاء مناسككم وعبادتكم، اذكروا الله ذكرا كثيرا وادعوه دعاء شاملا، لا دعاء خاصا بالدنيا.
[1902]:- أي بالدنيا: وليس المراد أنه يريد من الناس أن يتركوا أمر الدنيا لأنهم يعيشون فيها، ولكنه سبحانه يريد من الناس أن يعملوا لهذه الدنيا، ولما هو أكبر منها حتى لا يحصروا نشاطهم فيها، بل عليهم أن يزاولوا الخلافة في الحياة الدنيا، وأن يعرفوا مستواهم إلى الأفق الأعلى، وإلى الحياة الأخرى.