وبعد أن ساق - سبحانه - في آية الكرسي الأدلة الواضحة على وحدانيته وعظمته وتنزيهه عن صفات الحوادث ، عقب ذلك ببيان أن الدين الحق قد ظهر وتجلى لكل ذي عقل سليم ، وأنه لا يقسر أحد على الدخول فيه فقال - تعالى - :
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين . . . }
لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 256 )
الإكراه معناه : حمل الغيرعلى قول أو فعل لا يريده عن طريق التخويف أو التعذيب أو ما يشبه ذلك . والمراد بالدين دين الإِسلام والألف واللام فيه للعهد .
والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلبه فيه ، مصدر رشيد يرشد ويرشد أي اهتدى . والمراد هنا : الحق والهدى .
والغي ضد الرشد . مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأى ، ويرى بعض العلماء أن نفي الإِكراه هنا خبر في معنى النهي ، أي : لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإِسلام فإنه بين واضح في دلائله وبراهينه ، فمن هداه الله له ونور بصيرته دخل فيه على بصيرة ، ومن أضله وأعمى قلبه لا يفيده الإِكراه على الدخول فيه .
وقال بعض العلماء إن الجملة هنا على حالها من الخبرية والمعنى : ليس في الدين - الذي هو تصديق بالقلب ، وإذعان في النفس - إكراه وإجبار من الله - تعالى - لأحد ، لأن مبني هذا الدين على التمكين والاختيار ، وهو مناط الثواب والعقاب ، لولا ذلك لما حصل الابتلاء والاختبار ، ولبطل الامتحان .
أو المعنى : كما يرى بعضهم - إن من الواجب على العاقل بعد ظهور الآيات البينات على أن الإِيمان بدين الإِسلام حق ورشد . وعلى أن الكفر به غي وضلال ، أن يدخل عن طواعية واختيار في دين الإِسلام الذي ارتضاه الله وألا يكره على ذلك بل يختاره بدون قسر أو تردد .
فالجملة الأولى وهي قوله - تعالى - : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } : تنفى الإِجبار على الدخول في الدين ، لأن هذا الإجبار لا فائدة من ورائه ، إذ التدين إذعان قلبي ، واتجاه بالنفس والجوارح إلى اله رب العالمين بإرادة حرة مختارة فإذا أكره عليه الإِنسان إزداد كرهاً له ونفوراً منه . فالإِكراه والتدين نقيضان لا يجتمعان ، ولا يمكن أن يكون أحدهما ثمرة للآخرة .
والجملة الثانية وهي قوله - تعالى - : { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } بمثابة العلة لنفي هذا الإكراه على الدخول في الدين ، أي قد ظهر الصبح لذي عينين ، وانكشف الحق من الباطل ، والهدى من الضلال وقامت الأدلة الساطعة على دين الإِسلام هو الدين الحق وغيره من الأديان ضلال وكفران وما دام الأمر كذلك فقد توافرت الأسباب التي تدعو إلى الدخول في دين الإِسلام ، ومن كفر به بعد ذلك فليحتمل نتيجة كفره ، وسوء عاقبة أمره .
ثم قال - تعالى - : { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا } .
الطاغوت : اسم لكل ما يطغى الإِنسان ، كالأصنام والأوثان والشيطان وكل رأس في الضلال وكل ما عبد من دون الله . وهو مأخوذ من طغا يطغى - كسعى يسعى - طغياً وطغياناً ، أو من يطغو طغوا طغواناً ، إذا جاوز الحد وغلا في الكفر وأسرف في المعاصي والفجور .
والعروة : في أصل معناها تطلق على ما يتعلق بالشيء من عراه أي من الجهة التي يجب تعليهقمنها ، وتجمع على غرى . والعروة من الدلو والكوز مقبضه . ومن الثوب مدخل زره .
والوثقى : مؤنث الأوثق ، وهو الشيء المحكم الموثق . يقال وثق - بالضم - وثاقه أي : قوى وثبت فهو وثيق أي ثابت محكم .
والانفصام : الانكسار ، والقصم كسر الشيء وقطعة .
والمعنى : فمن خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة غير الله ، وآمن بالله - تعالى - إيماناً حالصاً صادقاً فقد ثبت أمره واستقام على الطريقة المثلى التي لا انقطاع لها وأمسك من الدين بأقوى سبب وأحكم رباط .
والفاء في قوله : { فَمَنْ يَكْفُر } للتفريع . والسين والتاء في استمسك للتأكيد والطلب ، وقوله : { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } فيه - كما يقول الزمخشري - تمثيل للمعلوم بالمنظور والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى بتصوره السامع كأنما ينظر إلأيه بعينه فيحكم اعتقاده والتيقن به ، وجملة { لاَ انفصام لَهَا } استئناف مقرر لما قبله أو حال من " العروة " والعامل " استمسك " .
ثم ختم - سبحانه الآية بقوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع الأقوال ، وهمسات القلوب ، وخلجات النفوس ، عليم بما يسره الناس وما يعلنونه ، وسيجازيهم بما يستحقون من ثواب أو عقاب .
قال القرطبي ما ملخصه : قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله - تعالى - : { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين } لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإِسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا الإِسلام . وقيل إنهاه لسيت بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وأنهم لا يكرهون على الإِسلام إذا أدوا الجزية . . والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية : أسلمي أيتها العجوز تسلمي ، إن الله بعث محمداً بالحق .
قالت أنا عجوز كبيرة والموت إلى قريب . فقال عمر : اللهم اشهد وتلا : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } .
والذي تسكن إليه النفس أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، لأن التدين لا يكون مع الإِكراه - كما أشرنا من قبل - ولأن الجهاد ما شرع في الإِسلام لإِجبار الناس على الدخول في الإِسلام إذ لا إسلام مع إجبار ، وإنما شرع الجهاد لدفع الظلم ورد العدوان وإعلاء كلمة الله ، والرسول صلى الله عليه وسلم ما قاتل العرب ليكرههم على الدخول في الإِسلام وإنما قاتلهم لأنهم بدأوه بالعدواة .
ولأن الروايات في سبب نزول هذه الآية تؤيد أنه لا إكراه في الدين ، ومن هذه الروايات ما جاء عن ابن عباس أنه قال : نزلت في رجل من الأنجز من بني سالم بن عوف يققال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلما ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ألا استكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله هذه الآية وفي رواية أخرى أنه حاول إكراههما على الدخول في الإِسلام فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعض النار وأنا أنظر إليه فنزلة هذه الآية .
ولأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن التوفيق بين الآيتين وهنا يمكن التوفيق بأن نقول : إن الآية التي معنا تنفى إكراه الناس على اعتقاد ما لا يريدون وآية { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين } جاءت لحض النبي صلى الله عليه وسلم وحض أصحابه على قتال الكفار الذين وقفوا في طريق دعوته ، حتى يكفوا عن عدوانهم وتكون كلمة الله هي العليا .
يقول تعالى : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين } أي : لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا . وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار ، وإن كان حكمها عامًّا .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانت المرأة تكون مِقْلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ }
وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بُنْدَار به{[4360]} ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه . وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به{[4361]} ، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم : أنها نزلت في ذلك .
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد الجرشي عن{[4362]} زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد [ بن جبير ]{[4363]} عن ابن عباس قوله : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له : الحصيني كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلا مسلمًا فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله فيه ذلك .
رواه ابن جرير وروى السدي نحو ذلك وزاد : وكانا قد تنصرا على يدي تجار قدموا من الشام يحملون زيتًا فلما عزما على الذهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما ، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث في آثارهما ، فنزلت هذه الآية .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أُسَق قال : كنت في دينهم مملوكًا نصرانيًا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي الإسلام فآبى فيقول : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ويقول : يا أُسَق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين .
وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية . وقال آخرون : بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل الجزية ، قوتل حتى يقتل . وهذا معنى الإكراه قال الله تعالى : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون } [ الفتح : 16 ] وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [ التحريم : 9 ] وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 123 ] وفي الصحيح : " عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل " {[4364]} يعني : الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن حميد عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " أسلم " قال : إني أجدني كارها . قال : " وإن كنت كارها " {[4365]} فإنه ثلاثي صحيح ، ولكن ليس من هذا القبيل فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام بل دعاه إليه فأخبر أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له : " أسلم وإن كنت كارهًا فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص " .
وقوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : من خلع الأنداد والأوثان{[4366]} وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله ، ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي : فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم .
قال أبو القاسم البغوي : حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن أبي إسحاق عن حسان - هو ابن فائد العبسي - قال : قال عمر رضي الله عنه : إن الجِبت : السحر والطاغوت : الشيطان ، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان من{[4367]} أمه ، وإن كرم الرجل دينه ، وحسبه خلقه ، وإن كان فارسيًّا أو نبطيا . وهكذا رواه ابن جرير{[4368]} وابن أبي حاتم من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن حسان بن فائد العبسي عن عمر فذكره .
ومعنى قوله في الطاغوت : إنه الشيطان قوي جدًّا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية ، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها .
وقوله : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } أي : فقد استمسك من الدين بأقوى سبب ، وشبه ذلك بالعروة الوثقى التي لا تنفصم فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد ولهذا قال : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
قال مجاهد : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } يعني : الإيمان . وقال السدي : هو الإسلام وقال سعيد بن جبير والضحاك : يعني لا إله إلا الله . وعن أنس{[4369]} بن مالك : { بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } : القرآن . وعن سالم بن أبي الجعد قال : هو الحب في الله والبغض في الله .
وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها .
وقال معاذ بن جبل في قوله : { لا انْفِصَامَ لَهَا } أي : لا انقطاع لها دون دخول الجنة .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير : { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف حدثنا ابن عون عن محمد عن قيس بن عباد قال : كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع ، فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال القوم : هذا رجل من أهل الجنة . فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته فلما استأنس{[4370]} قلت له : إن القوم لما دخلت قبل المسجد قالوا كذا وكذا . قال : سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم وسأحدثك لم : إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه : رأيت كأني في روضة خضراء - قال ابن عون : فذكر من خضرتها وسعتها - وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة ، فقيل لي : اصعد عليه فقلت : لا أستطيع . فجاءني مِنْصَف - قال ابن عون : هو الوصيف{[4371]} - فرفع ثيابي من خلفي ، فقال : اصعد . فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال : استمسك بالعروة . فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه . فقال : " أما الروضة فروضة الإسلام وأما العمود فعمود الإسلام وأما العروة فهي العروة الوثقى ، أنت على الإسلام حتى تموت " {[4372]} .
قال : وهو عبد الله بن سلام أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون{[4373]} وأخرجه البخاري من وجه آخر ، عن محمد بن سيرين به{[4374]} .
طريق أخرى وسياق آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى وعفان قالا حدثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة عن المسيب بن رافع عن خرشة بن الحُرِّ قال : قدمت المدينة فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم . فجاء شيخ يتوكأ على عصًا له فقال القوم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا . فقام خلف سارية فصلى ركعتين فقمت إليه ، فقلت له : قال بعض القوم : كذا وكذا . فقال : الجنة لله يُدخلها{[4375]} من يشاء وإني رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا ، رأيت كأن رجلا أتاني فقال : انطلق . فذهبت معه فسلك بي منهجًا عظيمًا فعرضت لي طريق عن يساري ، فأردت أن أسلكها . فقال : إنك لست من أهلها . ثم عرضت لي طريق عن يميني فسلكتها حتى انتهت إلى جبل زلق فأخذ بيدي فزجل{[4376]} فإذا أنا على ذروته ، فلم أتقار ولم أتماسك فإذا عمود حديد في ذروته حلقة من ذهب فأخذ بيدي فزجل{[4377]} حتى أخذت بالعروة فقال : استمسك . فقلت : نعم . فضرب العمود برجله فاستمسكت بالعروة ، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " رأيت خيرًا أما المنهج العظيم فالمحشر{[4378]} ، وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار ، ولست من أهلها ، وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة ، وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء ، وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الإسلام فاستمسك بها حتى تموت " . قال : فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة . قال : وإذا هو عبد الله بن سلام{[4379]} .
وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان ، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن الحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه{[4380]} . وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن سليمان بن مُسْهِر عن خرشة بن الحُرّ الفزاري به{[4381]} .
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 256 )
{ الدين } في هذه الآية المعتقد والملة ، بقرينة قوله { قد تبين الرشد من الغي } ، والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغير ذلك ليس هذا موضعه وإنما يجيء في تفسير قوله تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان( {[2453]} ) ، فإذا تقرر أن الإكراه المنفي هنا هو في تفسير المعتقد من الملل والنحل فاختلف الناس في معنى الآية( {[2454]} ) ، فقال الزهري : سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى : { لا إكراه في الدين } فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين ، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم ، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له ، قال الطبري والآية منسوخة في هذا القول .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويلزم على هذا ، أن الآية مكية ، وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف ، وقال قتادة والضحاك بن مزاحم : هذه الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ويؤدونها عن يد صغرة ، قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب أهل الأوثان لا يقبل منهم إلا لا إله إلا الله أو السيف( {[2455]} ) ، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية ، ونزلت فيهم { لا إكراه في الدين } .
قال القاضي أبو محمد : وعلى مذهب مالك في أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش أي نوع كان( {[2456]} ) ، فتجيء الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب كما قال قتادة والضحاك . وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : إنما نزلت هذه الآية في قوم من الأوس والخزرج كانت المرأة تكون مقلاة لا يعيش لها ولد ، فكانت تجعل على نفسها إن جاءت بولد أن تهوده ، فكان في بني النضير جماعة على هذا النحو ، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قالت الأنصار كيف نصنع بأبنائنا ، إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه ، وأما إذ جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه ، فنزلت { لا إكراه في الدين } الآية ، وقال بهذا القول عامر الشعبي ومجاهد ، إلا أنه قال كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع( {[2457]} ) ، وقال السدي نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين ، كان له ابنان ، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت ، فلما أرادوا الرجوع أتاهم ابنا أبي حصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكياً أمرهما ، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردهما ، فنزلت { لا إكراه في الدين } ، ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب ، وقال : أبعدهما الله هما أول من كفر ، فوجد أبو الحصين في نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما ، فأنزل الله جل ثناؤه :{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم }( {[2458]} ) [ النساء : 65 ] ، ثم إنه نسخ { لا إكراه في الدين } ، فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة .
قال القاضي أبو محمد : والصحيح في سبب قوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون } ، حديث الزبير مع جاره الأنصاري في حديث السقي( {[2459]} ) ، وقوله تعالى : { قد تبين الرشد من الغي } معناه بنصب الأدلة ووجود الرسول الداعي إلى الله والآيات المنيرة ، و { الرشد } مصدر من قولك رَشِد بكسر الشين وضمها( {[2460]} ) يرشد رُشْداً وَرشَداً وَرَشَاداً ، و { الغي } مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي ، ولا يقال الذي في الضلال على الإطلاق ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «الرشاد » بالألف ، وقرأ الحسن والشعبي ومجاهد «الرَّشَد » بفتح الراء والشين . وروي عن الحسن «الرُّشُد » بضم الراء والشين ، و { الطاغوت } بناء مبالغة من طغى يطغى ، وحكى الطبري «يطغو » إذا جاوز الحد بزيادة عليه ، وزنه فعلوت ، ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه اسم جنس يقع للكثير والقليل ، ومذهب أبي على أنه مصدر كرهبوت وجبروت وهو يوصف به الواحد والجمع( {[2461]} ) ، وقلبت لامه إلى موضع العين ، وعينه موضع اللام فقيل : طاغوت( {[2462]} ) ، وقال المبرد : هو جمع ، وذلك مردود .
واختلف المفسرون في معنى { الطاغوت } ، فقال عمر بن الخطاب ومجاهد والشعبي والضحاك وقتادة والسدي : { الطاغوت } : الشيطان . وقال ابن سيرين وأبو العالية : { الطاغوت } : الساحر : وقال سعيد بن جبير ورفيع( {[2463]} ) وجابر بن عبد الله وابن جريج : { الطاغوت } : الكاهن . قال أبو محمد : وبين أن هذه أملثة في الطاغوت لأن كل واحد منها له طغيان ، والشيطان أصل ذلك كله ، وقال قوم : { الطاغوت } : الأصنام ، وقال بعض العلماء : كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت .
قال القاضي أبو محمد : وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك كفرعون ونمرود ونحوه ، وأما من لا يرضى ذلك كعزير وعيسى عليهما السلام ومن لا يعقل كالأوثان فسميت طاغوتاً في حق العبدة ، وذلك مجاز . إذ هي بسبب الطاغوت( {[2464]} ) الذي يأمر بذلك ويحسنه وهو الشيطان ، وقدم تعالى ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت( {[2465]} ) . و { العروة } في الأجرام وهي موضع الإمساك وشد الأيدي ، و { استمسك } معناه قبض وشد يديه ، و { الوثقى } فعلى من الوثاقة ، وهذه الآية تشبيه ، واختلفت عبارة المفسرين في الشيء المشبه { بالعروة } ، فقال مجاهد : العروة الإيمان . وقال السدي : الإسلام . وقال سعيد بن جبير والضحّاك : العروة لا إله إلا الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد( {[2466]} ) ، والانفصام : الانكسار من غير بينونة ، وإذا نفي ذلك فلا بينونة بوجه ، والفصم كسر ببينونة ، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى البينونة( {[2467]} ) ، ومن ذلك قول ذي الرمة : [ البسيط ]
كأنه دملج من فضة نبه . . . في ملعب من عذارى الحي مفصوم( {[2468]} )
ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات { سميع } من أجل النطق و { عليم } من أجل المعتقد .