وبعد أن بين - سبحانه - حسن عاقبة من اتبع هداه ، أتبع ذلك ببيان سوء عاقبة من أعرض عن ذكره وطاعته فقال - تعالى - : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي . . . } .
قوله : { ضَنكاً } أى : شديدة الضيق . وكل شىء ضاق فهو ضنك .
وهو مصدر يستوى فيه المذكر والمؤنث ، والواحد والجمع يقال : ضنك - ككرم - عيش فلان ضنكا وضناكة إذا ضاق .
والمعنى أن من اتبع هداى الذى جاءت به رسلى فلن يضل ولن يشقى ، أما من أعرض عن { ذِكْرِي } أى : عن هداى الذى جاءت به رسلى ، واشتملت عليه كتبى { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } .
أى : فإن لهذا المعرض معيشة ضيقة مليئة بالهم والغم والأحزان وسوء العاقبة ، حتى ولو ملك المال الوفير ، والحطام الكثير . . . فإن المعيشة الطيبة لا تكون إلا مع طاعة الله ، وامتثال أمره ، واجتناب نهيه .
قال - تعالى - : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } قال الإمام ابن كثير : قوله - تعالى - : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } أى : فى الدنيا فلا طمأنينة له ، ولا انشراح لصدره ، بل صدره ضيق لضلاله ، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء ، وأكل ما شاء ، وسكن حيث شاء ، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى . فهو فى قلق وحيرة وشك ، فلا يزال فى ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة . . .
وقال سفيان بن عيينة ، عن أبى حازم ، عن أبى سلمة ، عن ابى سعيد فى قوله { مَعِيشَةً ضَنكاً } قال : يضيق عليه قبره . حتى تختلف أضلاعه .
والمراد بالعمى فى قوله - سبحانه - : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } : عمى البصر ، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك : { قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } .
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي } أي : خالف أمري ، وما أنزلته على رسولي ، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } أي : في الدنيا ، فلا طمأنينة له ، ولا انشراح لصدره ، بل صدره [ ضيق ]{[19538]} حَرَج لضلاله ، وإن تَنَعَّم ظاهره ، ولبس ما شاء وأكل ما شاء ، وسكن حيث شاء ، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى ، فهو في قلق وحيرة وشك ، فلا يزال في ريبة يتردد . فهذا من ضنك المعيشة .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : الشقاء .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : كل مال{[19539]} أعطيته عبدًا من عبادي ، قل أو كثر ، لا يتقيني فيه ، فلا خير فيه ، وهو الضنك في المعيشة . ويقال : إن قومًا ضُلالا أعرضوا عن الحق ، وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين ، فكانت معيشتهم ضنكا ؛ [ و ]{[19540]} ذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفًا لهم معايشهم ، من سوء ظنّهم بالله والتكذيب ، فإذا كان العبد يكذب بالله ، ويسيء الظن به والثقة به اشتدت عليه معيشته ، فذلك الضنك .
وقال الضحاك : هو العمل السيئ ، والرزق الخبيث ، وكذا قال عكرمة ، ومالك بن دينار .
وقال سفيان بن عيينة ، عن أبي حازم ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد في قوله : { مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : يضيق عليه قبره ، حتى تختلف أضلاعه فيه . قال أبو حاتم الرازي : النعمان بن أبي عياش{[19541]} يكنى أبا سلمة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الله بن لهيعة ، عن دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : " ضمة القبر " الموقوف أصح . {[19542]}
وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج أبو السمح ، عن ابن حُجَيْرة - اسمه عبد الرحمن - عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : المؤمن في قبره في روضة خضراء ، ويرحب له في قبره سبعون ذراعا ، وينور له قبره كالقمر ليلة البدر ، أتدرون فيم أنزلت هذه الآية : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } ؟ أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : عذاب الكافر في قبره ، والذي نفسي بيده ، إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تِنِّينًا ، أتدرون ما التنين ؟ تسعة وتسعون حية ، لكل حية سبعة رؤوس ، ينفخون في جسمه ، ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون " {[19543]} .
وقال البزار : حدثنا محمد بن يحيى الأزدي ، حدثنا محمد بن عمرو{[19544]} حدثنا هشام بن سعد ، عن سعيد بن أبي هلال ، [ عن أبي حُجَيْرة ]{[19545]} عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : " المعيشة الضنك الذي قال الله تعالى : أنه يسلط عليه تسعة وتسعون حية ، ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة " {[19546]} .
وقال أيضًا : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : " عذاب القبر " . إسناد جيد{[19547]} .
وقوله : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } قال مجاهد ، وأبو صالح ، والسدي : لا حجة له .
{ من أعرض } عن ذكر الله وكفر به { فإن له معيشة ضنكاً } والضنك النكد الشاق من العيش أو المنازل أو مواطن الحرب ونحو هذا ، ومنه قول عنترة وإن نزلوا بضنك أنزل{[8172]} ، وصف به الواحد والجمع والمؤنث ، وقرأت فرقة : [ ضنكى ]{[8173]} ، أتبعت بالصفة لفظة " المعيشة " . واختلف الناس في المعيشة الضنك ، متى هو الوقت الذي هي فيه فقالت فرقة : هي الدنيا ، ومعنى ذلك عندهم أن الكافر وإن كان متسع الحال والمال فمعه من الحرص والأمل والتعذيب بأمور الدنيا والرغبة واتساع صفاء العيش بذلك ما يصير معيشيته ضنكا ، وقالت فرقة : هي ضنك بأكل الحرام ، وقالت فرقة : بل المعيشة الضنك هي في البرزخ ، وهو أن يرى مقعده من النار غدوا ورواحا ، وبالجملة عذاب القبر على ما روي فيه . ذلك من وعيد لهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.