التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ} (16)

ثم ذكر - سبحانه - بقية الوصايا التى أوصى بها لقمان ابنه فقال : { يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله } .

والضمير فى قوله : { إِنَّهَآ } يعود إلى الفعلة التى يفعلها من خير أو شر . و { تَكُ } مجزوم بسكون النون المحذوفة ، وهو فعل الشرط . والجواب : { يَأْتِ بِهَا الله } والمثقال : أقل ما يوزن به الشئ . والخردل : فى غاية الصغر الدقة .

والمعنى : يا بنى إن ما تفعله من حسنة أو سيئة ، سواء أكان فى نهاية القلة والصغر ، كمثال حبة من خردل ، أم كان هذا الشئ القليل مخبوءا فى صخرة من الصخور الملقاة فى فجاد الأرض ، أم كان فى السماوات أم فى الأرض ، فإن الله - تعالى - يعلمه ويحضره ويجازى عليه { إِنَّ الله } - تعالى - لطيف خبير أى : محيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها ، عظيمها وصغيرها .

فالمقصود من الآية الكريمة ، غرس الهيبة والخشية والمراقبة لله - تعالى - سبحانه - لا يخفى عليه شئ فى هذا الكون ، مهما دق وقل وتخفى فى أعماق الأرض والسماء .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ} (16)

هذه وصايا نافعة قد حكاها الله تعالى عن لقمان الحكيم ؛ ليمتثلها الناس ويقتدوا بها ، فقال : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ } أي : إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة [ من ] {[22959]} خردل . وجوز بعضهم أن يكون الضمير في قوله : { إِنَّهَا } ضمير الشأن والقصة . وجوز على هذا رفع { مِثْقَالَ } والأول أولى .

وقوله : { يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } أي : أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط ، وجازى عليها إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر . كما قال تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] ، وقال تعالى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] ، ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صَمَّاء ، أو غائبة ذاهبة في أرجاء السموات أو الأرض{[22960]} فإن الله يأتي بها ؛ لأنه لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي : لطيف العلم ، فلا تخفى عليه الأشياء وإن دَقت ولطفت وتضاءلت { خَبِيرٌ } بدبيب النمل في الليل البهيم .

وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله : { فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } أنها صخرة تحت الأرضين{[22961]} السبع ، ذكره السُّدِّي بإسناده ذلك المطروق عن ابن عباس وابن مسعود وجماعة من الصحابة إن صح ذلك ، ويروى هذا عن عطية العوفي ، وأبي مالك ، والثوري ، والمِنهال بن عمرو ، وغيرهم . وهذا والله أعلم ، كأنه متلقى من الإسرائيليات التي لا تصدق ، ولا تكذب ، والظاهر - والله أعلم - أن المراد : أن هذه الحبة في حقارتها لو كانت داخل صخرة ، فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف علمه ، كما قال{[22962]} الإمام أحمد :

حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا دَراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صَمَّاء ، ليس لها باب ولا كوَّة ، لخرج عمله للناس كائنًا ما كان " {[22963]} .

/خ19


[22959]:- زيادة من ت، أ.
[22960]:- في ف: "والأرض".
[22961]:- في ف، أ: "الأرض".
[22962]:- في ت: "كما روى".
[22963]:- المسند (3/28) وحسنه الهيثمي في المجمع (10/225) وفيه ابن لهيعة عن دراج وهما ضعيفان.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ} (16)

المعنى وقال لقمان { يا بني } ، وهذا القول من لقمان إنما قصد إعلام ابنه بقدر قدرة الله تعالى وهذه الغاية التي أمكنه أن يفهمه ، لأن «الخردلة » يقال إن الحس لا يقدر لها ثقلاً إذ لا ترجح ميزاناً ، وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بها علماً . وقوله { مثقال حبة } عبارة تصلح للجواهر ، أي قدر حبة ، وتصلح للأعمال أي ما تزنه على جهة المماثلة قدر حبة ، وظاهر الآية أنه أراد شيئاً من الأشياء خفياً قدر حبة ، ويؤيد ذلك ما روي من أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة تقع في مقل البحر يعلمها الله ، فراجعه لقمان بهذه الآية . وذكر كثير من المفسرين أنه أراد الأعمال المعاصي والطاعات ، ويؤيد ذلك قوله { يأت بها الله } أي لا تفوت ، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف منضاف ذلك إلى تبيين قدرة الله تعالى ، وفي القول الآخر ليس ترجية ولا تخويف . ومما يؤيد قول من قال هي من الجواهر قراءة عبد الكريم الجزري «فتكِنّ » بكسر الكاف وشد النون من الكن الذي هو الشيء المغطى ، وقرأ جمهور القراء «إن تك » بالتاء من فوق «مثقالَ » بالنصب على خبر «كان » واسمها مضمر تقديره مسألتك على ما روي ، أو المعصية أو الطاعة على القول الثاني . ولهذا المقدر هو الضمير في { إنها } . وقرأ نافع وحده بالتاء أيضاً «مثقالُ » بالرفع على اسم «كان » وهي التامة . وأسند إلى المثقال فعلاً فيه علامة التأنيث من حيث انضاف إلى مؤنث هو منه وهذا كقول الشاعر : [ الطويل ]

مشين كما اهتزت رماح تسفهت . . . أعاليَها مرُّ الرياح النواسم{[9368]}

وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر . وقوله { فتكن في صخرة } ، قيل أراد الصخرة التي عليها الأرض والحوت والماء وهي على ظهر ملك وقيل هي صخرة في الريح .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف لا يثبته سند ، وإنما معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم ، أي أن قدرته تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء وفي الأرض . وقرأ قتادة «فتكِن » بكسر الكاف والتخفيف من كن يكن ، وتقدمت قراءه عبد الكريم «فتكِنّ » . وقوله { يأت بها الله } إن أراد الجواهر فالمعنى { يأت بها } إن احتيج إلى ذلك أو كانت رزقاً ونحو هذا ، وإن أراد الأعمال فمعناه { يأت } بذكرها وحفظها فيجازي عليها بثواب أو عقاب . و { لطيف خبير } صفتان لائقتان بإظاهر غرائب القدرة .


[9368]:البيت لذي الرمة، وقد سبق الاستشهاد به في أكثر من موضع، وتسفهت: استخفت واهتزت، من السفه وهو خفة العقل وضعفه، والنواسم: الخفيفة الهبوب. يصف الشاعر نساء في أثناء مشيهن فيقول: إذا مشين اهتززن في مشيتهن وتثنين كأنهن رماح منصوبة مرت عليها الرياح فاهتزت وتثنت. وهو في الديوان، وفي كتاب سيبويه. ومثله في التأنيث بسبب الإضافة إلى مؤنث قول الشاعر: وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم