وبعد هذا التطواف فى أعماق الأنفس والآفاق . أخذت السورة الكريمة فى أواخرها ، تذكر الناس بمراحل حياتهم ، وبأحوالهم يوم القيامة ، وبفضائل القرآن الكريم ، وبأمر النبى صلى الله عليه وسلم بالصبر والثبات . . قال - تعالى - : { الله الذي خَلَقَكُمْ . . . الذين لاَ يُوقِنُونَ } .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ . . } .
استدلال آخر على قدرته - تعالى - ومعنى { مِّن ضَعْفٍ } من نطفة ضعيفة ، أو فى حال ضعف ، وهو ما كانوا عليه فى الابتداء من الطفولة والصغر . . وقرأ الجمهور بضم الضاد ، وقرأ عاصم وحمزة بفتحها ، والضعف - بالضم والفتح - خلاف القوة ، وقيل بالفتح فى الرأى ، وبالضم فى الجسد .
وقال - سبحانه - : { خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ } ولم يقل خلقكم ضعافاً . . . . للإشعار بأن الضعف هو مادتهم الأولى التى تركب منها كيانهم ، فهو شامل لتكوينهم الجسدى ، والعقلى ، والعطافى ، والنفسى . . إلخ . أى : الله - تعالى - بقدرته ، هو الذى خلقكم من ضعف ترون جانباً من مظاهره فى حالة طفولتكم وحداثة سنكم .
{ ثُمَّ جَعَلَ } - سبحانه - { مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً } أى : ثم جعل لكم من بعد مرحلة الضعف مرحلة أخرى تتمثل فيها القوة بكل صورها الجسدية والعقلية والنفسية . .
{ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } أى : ثم جعل من بعد مرحلة القوة ، مرحلة ضعف آخر ، تعقبه مرحلة أخرى أشد منه فى الضعف ، وهى مرحلة الشيب والهرم والشيخوخة التى هى أرذل العمر ، وفيها يصير الإِنسان أشبه ما يكون بالطفل الصغير فى كثير من أحواله . .
{ يَخْلُقُ } - سبحانه - { مَا يَشَآءُ } خلقه { وَهُوَ العليم } بكل شئ { القدير } على كل شئ .
فأنت ترى أن هذه الآية قد جمعت مراحل حياة الإِنسان بصورها المختلفة .
ينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالا بعد حال ، فأصله من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ثم يصير عظاما ثم يُكسَى لحما ، ويُنفَخ فيه الروح ، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفا نحيفًا واهن القوى . ثم يشب قليلا قليلا حتى يكون صغيرًا ، ثم حَدَثا ، ثم مراهقًا ، ثم شابا . وهو القوة بعد الضعف ، ثم يشرع في النقص فيكتهل{[22905]} ، ثم يشيخ ثم يهرم ، وهو الضعف بعد القوة . فتضعف الهمة والحركة والبطش ، وتشيب اللّمَّة ، وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي : يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد ، { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } .
قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن فضيل ويزيد ، حدثنا فضيل بن مرزوق{[22906]} ، عن عطية العوفي ، قال : قرأت على ابن عمر : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا }{[22907]} ، فقال : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا } ، ثم قال : قرأتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأت علي ، فأخذ علي كما أخذتُ عليك .
ورواه أبو داود والترمذي - وحَسَّنه - من حديث فضيل ، به{[22908]} . ورواه أبو داود من حديث عبد الله بن جابر ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، بنحوه{[22909]} .
{ الله الذي خلقكم من ضعف } أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله { خلق الإنسان ضعيفا } أو خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة . { ثم جعل من بعد ضعف قوة } وذلك إذا بلغتم الحلم أو تعلق بأبدانكم الروح . { ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة } إذا أخذ منكم السن ، وفتح عاصم وحمزة الضاد في جميعها والضم أقوى لقول ابن عمر رضي الله عنهما : قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ضعف فأقرأني من ضعف " . وهما لغتان كالفقر والفقر والتنكير مع التكرير لأن المتأخر ليس عين المتقدم . { يخلق ما يشاء } من ضعف وقوة وشبيبة وشيبة . { وهو العليم القدير } فإن الترديد في الأحوال المختلفة مع إمكان غيره دليل العلم والقدرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.