التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞۗ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِهِمۡ لِيُجَٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ} (121)

وبعد أن أمر الله المؤمنين بالأكل مما ذكر اسم الله عليه ، نهاهم صراحة عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه لشدة العناية بهذا الأمر فقال - تعالى - :

{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } أى : لا تأكلوا أيها المسلمون من أى حيوان لم يذكر عليه اسم الله عند ذبحه ، بأن ذكر عليه اسم غيره ، أو ذكر اسم من اسمه - تعالى - ، أو غير ذلك مما سبق بيانه من المحرمات .

وقوله { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } جملة حالية والضمير يعود على الأكل من الذى لم يذكر اسم الله عليه ، أى : وإن الأكل من ذلك الحيوان المذبوح الذى لم يذكر اسم الله عليه لخروج عن طاعة الله - تعالى - وابتعاد عن الفعل الحسن إلى الفعل القبيح ، وفى ذلك ما فيه من تنفيرهم من أكل ما لم يذكر اسم الله عليه .

ثم كشف للمسلمين عن المصدر الذى يمد المشركين بمادة الجدل حول هذه المسألة فقال : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } .

أى : وإن إبليس وجنوده ليوسوسون إلى أوليائهم الذين اتبعوهم من المشركين ليجادلوكم فى تحليل الميتة وفى غير ذلك من الشبهات الباطلة { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } فى استحلال ما حرمه الله عليكم { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } .

قال ابن كثير : أى : حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك ، كقوله - تعالى - { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } الاية ، وقد ورى الترمذى فى تفسيرها عن عدى بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ما عبدوهم فقال : " بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم " .

هذا ، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل غذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلما ، وقد اختلف الفقهاء فى هذه المسألة على ثلاثة أقوال .

فمنهم من قال لا تحل الذبيحة التى يترك اسم الله عليها سواء كان الترك عمدا أو سهوا ، وإلى هذا الرأى ذهب ابن عمر ونافع وعامر والشعبى ومحمد بن سيرين ، وداود الظاهرى وفى رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل .

واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية التى وصفت ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه بأنه فسق ، كما احتجوا بقوله - تعالى - { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } وبالأحاديث التى وردت فى الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد كحديث عدى بن حاتم وفيه " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل " .

وحديث رافع بن خديج وفيه " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " .

أما القول الثانى فيرى أصحابه أن التسمية ليست شرطا بل هى مستحبة ، وتركها عن عمد أو نسيان لا يضر ، وقد حكى هذا المذهب عن ابن عباس وأبى هريرة وعطاء وهو مذهب الشافعى وأصحابه وفى رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل .

وحجتهم أن هذه الآية { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ .

. . } واردة فيما ذبح لغير الله بأن يذكر على الذبيحة اسم الصنم كما كان يفعل المشركون عند ذبائحهم .

واحتجوا أيضاً بما رواه الدارقطنى عن ابن عباس أنه قال : " إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله " .

أما القول الثالث فيرى أصحابه أن ترك التسمية نسيانا لا يضر ، أما عمدا فلا تحل الذبيحة ، وإلى هذا المذهب ذهب على وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن البصرى وهو المشهور من مذهب أحمد بن حنبل وعليه أبو حنيفة وأصحابه .

واحتجوا لمذهبهم بأحاديث منها ما رواه عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .

ولعل هذا المذهب أقرب المذاهب إلى الصواب ، لأن المتعمد هو الذى يؤاخذ على عمله أما الناسى فليس مؤاخذا .

وقد تولت بعض كتب التفسير بسط الأقوال فى هذه المسألة فليرجع إليها من شاء .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞۗ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِهِمۡ لِيُجَٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ} (121)

استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أنه لا تحل الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها ، ولو كان الذابح مسلما ، وقد اختلف الأئمة ، رحمهم الله ، في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :

فمنهم من قال : لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة ، وسواء متروك التسمية عمدًا أو سهوًا . وهو مروي عن ابن عمر ، ونافع مولاه ، وعامر الشعبي ، ومحمد بن سيرين . وهو رواية عن الإمام مالك ، ورواية عن أحمد بن حنبل نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين ، وهو اختيار أبي ثور ، وداود الظاهري ، واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي{[11111]} من متأخري الشافعية في كتابه " الأربعين " ، واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية ، وبقوله في آية الصيد : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ المائدة : 4 ] . ثم قد أكد في هذه الآية بقوله : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } والضمير قيل : عائد على الأكل ، وقيل : عائد على الذبح لغير الله - وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد ، كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة : " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك " . وهما في الصحيحين ، وحديث رافع بن خُدَيْج . " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " . وهو في الصحيحين أيضًا ، وحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن : " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه " {[11112]} رواه مسلم . وحديث جُنْدَب بن سفيان البَجَلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله " . أخرجاه{[11113]} وعن عائشة ، رضي الله عنها ، أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري : أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ قال : " سموا عليه أنتم وكلوا " . قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر . رواه البخاري . ووجه الدلالة أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها ، [ وأنهم ]{[11114]} خشوا ألا تكون وجدت من أولئك ، لحداثة إسلامهم ، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل ، لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح إن لم تكن وجدت ، وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على السداد ، والله [ تعالى ]{[11115]} أعلم .

والمذهب الثاني في المسألة : أنه لا يشترط التسمية ، بل هي مستحبة ، فإن تركت عمدًا أو نسيانًا لم تضر{[11116]} وهذا مذهب الإمام الشافعي ، رحمه الله ، وجميع أصحابه ، ورواية عن الإمام أحمد . نقلها عنه حنبل . وهو رواية عن الإمام مالك ، ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه ، وحكي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وعطاء بن أبي رباح ، والله أعلم .

وحمل الشافعي الآية الكريمة : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } على ما ذبح لغير الله ، كقوله تعالى { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [ الأنعام : 145 ] .

وقال ابن جُرَيْج ، عن عطاء : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } قال : ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش عن الأوثان ، وينهى عن ذبائح المجوس ، وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي [ رحمه الله ]{[11117]} قوي ، وقد حاول بعض المتأخرين أن يقويه بأن جعل " الواو " في قوله : { وإِنَّهُ لَفِسْقٌ } حالية ، أي : لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه في حال كونه فسقًا ، ولا يكون فسقا حتى يكون قد أهل به لغير الله . ثم ادعى أن هذا متعين ، ولا يجوز أن تكون " الواو " عاطفة . لأنه يلزم منه عطف جملة اسمية خبرية على جمله فعلية طلبية . وهذا ينتقض عليه بقوله : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } فإنها عاطفة لا محاولة ، فإن كانت " الواو " التي{[11118]} ادعى أنها حالية صحيحة على ما قال ؛ امتنع عطف هذه عليها ، فإن عطفت{[11119]} على الطلبية ورد عليه ما أورد على غيره ، وإن لم تكن " الواو " حالية ، بطل ما قال من أصله ، والله أعلم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قوله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } قال : هي الميتة .

ثم رواه ، عن أبي زُرْعَة ، عن يحيى بن أبي كثير{[11120]} عن ابن لَهِيعَة ، عن عطاء - وهو ابن السائب - به .

وقد استدل لهذا المذهب بما رواه أبو داود في المراسيل ، من حديث ثور بن يزيد ، عن الصلت السدوسي - مولى سُوَيْد بن مَنْجوف{[11121]} أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذَبِيحَة المسلم حلال ذُكِر اسمُ اللهِ أو لم يُذْكَرْ ، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله " {[11122]}

وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال : إذا ذبح المسلم - ولم يذكر اسم الله فليأكل ، فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله " {[11123]}

واحتج البيهقي أيضًا بحديث عائشة ، رضي الله عنها ، المتقدم أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، إن قوما حديثي عهد بجاهلية يأتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : " سَمّوا أنتم وكُلُوا " . قال : فلو كان وجود التسمية شرطا لم يرخص لهم إلا مع تحققها ، والله أعلم .

المذهب الثالث في المسألة : [ أنه ]{[11124]} إن ترك البسملة على الذبيحة نسيانا لم يضر وإن تركها عمدًا لم تحل .

هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك ، وأحمد بن حنبل ، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه ، وإسحاق بن راهويه : وهو محكي عن علي ، وابن عباس ، وسعيد بن المُسَيَّب ، وعَطَاء ، وطاوس ، والحسن البصري ، وأبي مالك ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن .

ونقل الإمام أبو الحسن المرغيناني في كتابه " الهداية " الإجماع - قبل الشافعي على تحريم متروك التسمية عمدا ، فلهذا قال أبو يوسف والمشايخ : لو حكم حاكم بجواز بيعه لم ينفذ لمخالفة الإجماع .

وهذا الذي قاله غريب جدًا ، وقد تقدم نقل الخلاف عمن قبل الشافعي ، والله أعلم .

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : من حرم ذبيحة الناسي ، فقد خرج من قول جميع الحجة ، وخالف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك{[11125]}

يعني ما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أبو أمية الطرسوسي ، حدثنا محمد بن يزيد ، حدثنا معقل بن عبيد الله ، عن عمرو بن دينار ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم يكفيه اسمه ، إن نسي أن يسمي حين يذبح ، فليذكر اسم الله وليأكله " {[11126]}

وهذا الحديث رفعه خطأ ، أخطأ فيه معقل بن عبيد الله الجزيري{[11127]} فإنه{[11128]} وإن كان من رجال مسلم إلا أن سعيد بن منصور ، وعبد الله بن الزبير الحميدي روياه عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن أبي الشعثاء ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، من قوله . فزادا في إسناده " أبا الشعثاء " ، ووقفا{[11129]} والله [ تعالى ]{[11130]} أعلم . وهذا أصح ، نص عليه البيهقي [ وغيره من الحفاظ ]{[11131]}

وقد نقل ابن جرير وغيره . عن الشعبي ، ومحمد بن سيرين ، أنهما كرها متروك التسمية نسيانا ، والسلف يطلقون الكراهية على التحريم كثيرا ، والله أعلم . إلا أن من قاعدة ابن جرير أنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين مخالفا لقول الجمهور ، فيعده إجماعا ، فليعلم هذا ، والله الموفق .

قال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبو أسامة ، عن جَهِير بن يزيد قال : سئل الحسن ، سأله رجل أتيت بطير كَرًى{[11132]} فمنه ما قد ذبح فذكر اسم الله عليه ، ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه ، واختلط الطير ، فقال الحسن : كله ، كله . قال : وسألت محمد بن سيرين فقال : قال الله [ تعالى ]{[11133]} { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ }

واحتج لهذا المذهب بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجه ، عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي ذر{[11134]} وعقبة بن عامر ، وعبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " {[11135]} وفيه نظر ، والله أعلم .

وقد روى الحافظ أبو أحمد بن عدي ، من حديث مروان بن سالم القرقساني ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اسم الله على كل مسلم " {[11136]}

ولكن هذا إسناده{[11137]} ضعيف ، فإن مروان بن سالم القرقساني أبا عبد الله الشامي ، ضعيف ، تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، والله أعلم .

وقد أفردت هذه المسألة على حدة ، وذكرت مذاهب{[11138]} الأئمة ومآخذهم وأدلتهم ، ووجه الدلالات والمناقضات والمعارضات{[11139]} ، والله أعلم .

قال ابن جرير : وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل نسخ من حكمها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم : لم ينسخ منها شيء وهي محكمة فيما عُنيت به . وعلى هذا قول عامة أهل العلم .

وروي عن الحسن البصري وعكرمة . ما حدثنا به ابن حُميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال الله : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } وقال { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } فنسخ واستثنى من ذلك فقال : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } [ المائدة : 5 ] .

وقال ابن أبي حاتم : قرئ علي العباس بن الوليد بن مزيد{[11140]} ، حدثنا محمد بن شعيب ، أخبرني النعمان - يعني ابن المنذر - عن مكحول قال : أنزل الله في القرآن : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فنسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب .

ثم قال ابن جرير : والصواب أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب ، وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه .

وهذا الذي قاله صحيح ، ومن أطلق من السلف النسخ هاهنا فإنما أراد التخصيص ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

وقوله تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق قال : قال رجل لابن عمر : إن المختار يزعم أنه يوحى إليه ؟ قال : صدق ، وتلا هذه الآية : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ }

وحدثنا أبي ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن أبي زُمَيْل قال : كنت قاعدًا عند ابن عباس ، وحج المختار ابن أبي عبيد ، فجاءه{[11141]} رجل فقال : يا ابن عباس ، وزعم أبو إسحاق أنه أوحي{[11142]} إليه الليلة ؟ فقال ابن عباس : صدق ، فنفرت وقلت : يقول ابن عباس صدق . فقال ابن عباس : هما وحيان ، وحي الله ، ووحي الشيطان ، فوحي الله [ عَزَّ وجل ]{[11143]} إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، ووحي الشيطان إلى أوليائه ، ثم قرأ : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ{[11144]} لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ }

وقد تقدم عن عكرمة في قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } نحو هذا .

وقوله [ تعالى ]{[11145]} : { لِيُجَادِلُوكُمْ } قال ابن أبي حاتم : : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : خاصمت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : نأكل مما قتلنا ، ولا نأكل مما قتل الله ؟ فأنزل الله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ }

هكذا رواه مرسلا ورواه أبو داود متصلا فقال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله ؟ فأنزل الله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ] }{[11146]} .

وكذا رواه ابن جَرير ، عن محمد بن عبد الأعلى وسفيان{[11147]} بن وَكِيع ، كلاهما عن عمران بن عيينة ، به .

ورواه البزار ، عن محمد بن موسى الحَرَشي ، عن عمران بن عيينة ، به . {[11148]} وهذا فيه نظر من وجوه ثلاثة : أحدها :

أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا .

الثاني : أن الآية من الأنعام ، وهي مكية .

الثالث : أن هذا الحديث رواه الترمذي ، عن محمد بن موسى الحَرَشِي ، عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس . ورواه الترمذي بلفظ{[11149]} : أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال : حسن غريب ، رُوي عن سعيد بن جبير مرسلا{[11150]} .

وقال الطبراني : حدثنا علي بن المبارك ، حدثنا زيد بن المبارك ، حدثنا موسى بن عبد العزيز ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } أرسلت فارس إلى قريش : أن خاصموا محمدًا وقولوا له : كَمَا تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال ، وما ذبح الله ، عَزَّ وجل ، بشمشير من ذهب - يعني الميتة - فهو حرام . فنزلت هذه الآية : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } قال : الشياطين من فارس ، وأوليائهم [ من ]{[11151]} قريش{[11152]} .

وقال أبو داود : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا إسرائيل ، حدثنا سِماك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } يقولون : ما ذبح الله فلا تأكلوه . وما ذبحتم أنتم فكلوه ، فأنزل الله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ }

ورواه ابن ماجه وابن أبي حاتم ، عن عمرو بن عبد الله ، عن وكيع ، عن إسرائيل ، به{[11153]} . وهذا إسناد صحيح .

ورواه ابن جرير من طرق متعددة ، عن ابن عباس ، وليس فيه ذكر اليهود ، فهذا هو المحفوظ{[11154]} ، والله أعلم .

وقال ابن جُرَيْج : قال عمرو بن دينار ، عن عكرمة : إن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم ، وكاتبتهم فارس ، وكتب فارس إلى مشركي قريش : أن محمدًا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ، فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه - للميتة وما{[11155]} ذبحوه هم يأكلون . فكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ، فأنزل الله{[11156]} : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ [ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ] }{[11157]} ونزلت : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا }

وقال السُّدِّي في تفسير هذه الآية : إن المشركين قالوا للمؤمنين : كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله ، وما ذبح الله فلا تأكلونه ، وما ذبحتم أنتم أكلتموه ؟ فقال الله : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } فأكلتم الميتة { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }

وهكذا قاله مجاهد ، والضحاك ، وغير واحد من علماء السلف ، رحمهم الله .

وقوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } أي : حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره ، فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك ، كما قال تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ] }{[11158]} [ التوبة : 31 ] .

وقد روى الترمذي في تفسيرها ، عن عدي بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ، ما عبدوهم ، فقال : " بل إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم " {[11159]} .


[11111]:في أ: "الظاهري".
[11112]:صحيح مسلم برقم (450).
[11113]:صحيح البخاري برقم (985) وصحيح مسلم برقم (1960).
[11114]:زيادة من م.
[11115]:زيادة من م.
[11116]:في م: "لم تضره".
[11117]:زيادة من م، أ.
[11118]:في م: "الذي".
[11119]:في م: "عطف".
[11120]:في م: "يحيى بن بكر".
[11121]:في م، أ: "ميمون".
[11122]:المراسيل برقم (378) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (9/240) من طريق أبي داود به. وقال ابن القطان كما في نصب الراية (4/183): "فيه مع الإرسال أن الصلت السدوسي لا يعرف له حال ولا يعرف بغير هذا، ولا روى عنه غير ثور بن يزيد".
[11123]:سنن الدارقطني (4/295) وقد روى مرفوعا، ورجح البيهقي وقفه وصححه ابن السكن.
[11124]:زيادة من أ.
[11125]:تفسير الطبري (12/53).
[11126]:السنن الكبرى (9/240).
[11127]:في م: "الخوزني"، وفي أ: "الجزري".
[11128]:في م: "وإنه".
[11129]:في م، أ: "ووقفاه".
[11130]:زيادة من م.
[11131]:زيادة من م، أ.
[11132]:في م، أ: "بطير كذا".
[11133]:زيادة من م، أ.
[11134]:في م: "وعن أبي ذر".
[11135]:رواه ابن ماجة في السنن برقم (2045) من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس، رضي الله عنه، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (2044) من طريق قتادة، عن زرارة بن أبي أوفى، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (2043) من طريق أبي بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب، عن أبي ذر الغفاري، رضي الله عنه. قال البوصيري في الزوائد (2/130): "إسناده ضعيف". ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/356) من طريق ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، عن عقبة بن عامر، رضي الله عنه، أما من حديث عبد الله بن عمرو فلم أجده، وقد جاء من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رواه أبو نعيم في الحلية (6/352).
[11136]:الكامل لابن عدي (6/385).
[11137]:في أ: "إسناد".
[11138]:في أ: "مذهب".
[11139]:والراجح في هذه المسألة والله أعلم، ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، في وجوب التسمية مطلقا، فلا تؤكل الذبيحة بدونها سواء تركها عمدا أو سهوا، قال: "وهذا أظهر الأقوال، فإن الكتاب والسنة قد علق الحل بذكر اسم الله في غير موضع" انظر كلامه في: مجموع الفتاوى (35/239).
[11140]:في أ: "يزيد".
[11141]:في أ: "فدعاه".
[11142]:في أ: "يوحى".
[11143]:زيادة من أ.
[11144]:في هـ: "الشيطان".
[11145]:زيادة من م.
[11146]:زيادة من أ.
[11147]:في م: "سعيد" هو خطأ.
[11148]:سنن أبي داود برقم (2819) وتفسير الطبري (12/82).
[11149]:في م، أ: "بلفظ قال".
[11150]:سنن الترمذي برقم (3069).
[11151]:زيادة من أ.
[11152]:المعجم الكبير للطبراني (11/241).
[11153]:سنن أبي داود برقم (2818) وسنن ابن ماجة برقم (3173).
[11154]:رواه الطبري في تفسيره (12/78).
[11155]:في م: "وأما".
[11156]:في م، أ: "فنزلت".
[11157]:زيادة من م، أ. وفي هـ: "الآية".
[11158]:زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
[11159]:سنن الترمذي برقم (3095) من طريق عبد السلام بن حرب، عن غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞۗ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِهِمۡ لِيُجَٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ} (121)

{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ظاهر في تحريم متروك التسمية عمدا أو نسيانا ، وإليه ذهب داود وعن أحمد مثله ، وقال مالك والشافعي بخلافه لقوله عليه الصلاة والسلام " ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه " وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين العمد والنسيان وأوله بالميتة أو بما ذكر غير اسم الله عليه لقوله : { وإنه لفسق } فإن الفسق ما أهل لغير الله به ، والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه ولا تأكلوا . { وإن الشياطين ليوحون } ليوسوسون . { إلى أوليائهم } من الكفار . { ليجادلوكم } بقولهم تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله ، وهو يؤيد التأويل بالميتة . { وإن أطعتموهم } في استحلال ما حرم . { إنكم لمشركون } فإن من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشرك ، وإنما حسن حذف الفاء فيه لأن الشرط بلفظ الماضي .