ثم ضرب الله مثلا لحال المؤمن والكافر فقال :
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } .
الهمزة للاستفهام الإنكارى ، وهى داخلة على جملة محذوفة للعلم بها من الكلام السابق .
والتقدير : أأنتم أيها المؤمنون مثل أولئك المشركين الذين يجادلونكم بغير علم وهل يعقل أن من كان ميتاً فأعطيناه الحياة وجعلنا له نوراً عظيما يمشى به فيما بين الناس آمنا كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها .
فالآية الكريمة تمثيل بليغ للؤمن والكافر لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين بعد أن نهاهم صراحة عن طاعتهم قبل ذلك فى قوله { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } .
فمثل المؤمن المهتدى إلى الحق كمن كان ميتا هالكا فأحياه الله وأعطاه نوراً يستضىء به فى مصالحه ، ويهتدى به إلى طرقه . ومثل الكافر الضال كمن هو منغمس فى الظلمات لا خلاص له منها فهو على الدوام متحير لا يهتدى فكيف يستويان ؟
والمراد بالنور : القرآن أو الإسلام ، والمراد بالظلمات : الكفر والجهالة وعمى البصيرة . فهو كقوله - تعالى - : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور وَلاَ الظل وَلاَ الحرور وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات } وقوله : { كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى : مثل ذلك التزيين الذى تضمنته الآية - وهو تزيين نور الهدى للمؤمنين وظلمات الشرك للضالين قد زين للكافرين ما كانوا يعملونه من الآثام كعداوة النبى صلى الله عليه وسلم وذبح القرابين لغير الله - تعالى - وتحليل الحرام ، وتحريم الحلال وغير ذلك من المنكرات .
وجمهور المفسرين يرون أن المثل فى الآية عام لكل مؤمن وكل كافر وقيل إن المراد بمن أحياه الله وهداه عمر بن الخطاب ، والمراد بمن بقى فى الظلمات ليس بخارج منها عمرو بن هشام ، فقد أخرج ابن أبى الشيخ أن الآية نزلت فيهما ، وقيل نزلت فى عمار بن ياسر وأبى جهل ، وقيل فى حمزة وأبى جهل .
والذى نراه أن الآية عامة فى كل من هداه الله إلى الإيمان بعد أن كان كافراً ، وفى كل من بقى على ضلاله مؤثراً الكفر على الإيمان ويدخل فى ذلك هؤلاء المذكورون دخولا أوليا .
هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا ، أي : في الضلالة ، هالكًا حائرًا ، فأحياه الله ، أي : أحيا قلبه بالإيمان ، وهداه له ووفقه لاتباع رسله . { وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } أي : يهتدي [ به ]{[11160]} كيف يسلك ، وكيف يتصرف به . والنور هو : القرآن ، كما رواه العَوْفي وابن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وقال السُّدِّي : الإسلام . والكل صحيح .
{ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ }{[11161]} أي : الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة ، { لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } أي : لا يهتدي إلى منفذ ، ولا مخلص{[11162]} مما هو فيه ، [ وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " ]{[11163]} كما قال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 257 ] . و [ كما ]{[11164]} قال تعالى : { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الملك : 22 ] ، وقال تعالى : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [ هود : 24 ] ، وقال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ } [ فاطر : 19 - 23 ] . والآيات في هذا كثيرة ، ووجه المناسبة في ضرب المثلين هاهنا بالنور والظلمات ، ما{[11165]} تقدم في أول السورة : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] .
وزعم{[11166]} بعضهم أن المراد بهذا المثل رجلان معينان ، فقيل : عمر بن الخطاب هو الذي كان ميتًا فأحياه الله ، وجعل له نورًا يمشي به في الناس . وقيل : عمار بن ياسر . وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها : أبو جهل عمرو بن هشام ، لعنه الله . والصحيح أن الآية عامة ، يدخل فيها كل مؤمن وكافر .
وقوله تعالى : { كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : حسنا لهم ما هم فيه من الجهالة والضلالة ، قدرا من الله وحكمة بالغة ، لا إله إلا هو [ ولا رب سواه ]{[11167]} .
{ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس } مثل به من هداه الله سبحانه وتعالى وأنقذه من الضلال وجعل له نور الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء ، فيميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل . وقرأ نافع ويعقوب { ميتا } على الأصل . { كمن مثله } صفته وهو مبتدأ خبره . { في الظلمات } وقوله : { ليس بخارج منها } حال من المستكن في الظرف لا من الهاء في مثله للفصل ، وهو مثل لمن بقي على الضلالة لا يفارقها بحال . { كذلك } كما زين للمؤمنين إيمانهم . { زين للكافرين ما كانوا يعملون } والآية نزلت في حمزة وأبي جهل وقيل في عمر أو عمار وأبي جهل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.