{ فَكُلِي } من ذلك الرطب { واشربي } من ذلك السرى ، { وَقَرِّي عَيْناً } أى : طيبى نفسا بوجودى تحتك ، واطردى عنك الأحزان .
يقال : قرت عين فلان ، إذا رأت ما كانت متشوقة إلى رؤيته . مأخوذ من القرار بمعنى الاستقرار والسكون ، لأن العين إذا رأت ما تحبه سكنت إليه ، ولم تنظر إلى غيره .
وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، أن مباشرة الأسباب فى طلب الرزق أمر واجب وأن ذلك لا ينافى التوكل على الله ، لأن المؤمن يتعاطى الأسباب امتثالاً لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع فى ملكه - سبحانه - إلا ما يشاؤه ويريده .
وهنا قد أمر الله - تعالى - مريم - على لسان مولودها - بأن تهز النخلة ليتساقط لها الرطب ، مع قدرته - سبحانه - على إنزال الرطب إليها من غير هز أو تحريك ، ورحم الله القائل :
ألم تر أن الله قال لمريم . . . وهزى إليك الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزه . . . جنته ، ولكن كل شىء له سبب
كما أخذوا منها أن خير ما تأكله المرأة بعد ولادتها الرطب ، قالوا : لأنه لو كان شىء أحسن للنفساء من الرطب لأطعمه الله - تعالى لمريم .
وقوله - سبحانه - : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } حكاية منه - تعالى - لبقية كلام عيسى لأمه .
ولفظ { إِمَّا } مركب من ( إن ) الشرطية ، و ( ما ) المزيدة لتوكيد الشرط و { تَرَيِنَّ } فعل الشرط ، وجوابه { فقولي } وبين هذا الجواب وشرطه كلام محذوف يرشد إليه السياق .
والمعنى : أن عيسى - عليه السلام - قال لأمه : لا تحزنى يا أماه بسبب وجودى بدون أب ، وقرى عينا ، وطيبى نفسا لذلك ، فإما ترين من البشر أحداً كائناً من كان فسألك عن أمرى وشأنى فقولى له { إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } أى : صمتا عن الكلام { فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } لا فى شأن هذا المولود ولا فى شأن غيره ، وإنما سأترك الكلام لابنى ليشرح لكم حقيقة أمره .
قالوا : إنما منعت من الكلام لأمرين : أحدهما : ان يكون عيسى هو المتكلم عنها ليكون أقوى لحجتها فى إزالة التهمة عنها ، وفى هذا دلالة على تفويض الكلام إلى الأفضل .
والثانى : " كراهة مجادلة السفهاء ، وفيه أن السكوت عن السفيه واجب ، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها " .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوبها البليغ الحكيم ما فعلته مريم عندما شعرت بالحمل وما قالته عندما أحست بقرب الولادة ، وما قاله لها مولودها عيسى من كلام جميل طيب ، لإدخال الطمأنينة على قلبها .
قرأ بعضهم { مَنْ تَحْتَهَا } بمعنى{[18763]} الذي تحتها . وقرأ آخرون : { مِنْ تَحْتِهَا } على أنه حرف جر .
واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو ؟ فقال العوفي وغيره ، عن ابن عباس : { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها ، وكذا قال سعيد بن جبير ، والضحاك ، وعمرو بن ميمون ، والسدي ، وقتادة : إنه الملك جبريل عليه الصلاة والسلام ، أي : ناداها من أسفل الوادي .
وقال مجاهد : { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } قال : عيسى ابن مريم ، وكذا قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة قال : قال الحسن : هو ابنها . وهو إحدى{[18764]} الروايتين عن سعيد بن جبير : أنه ابنها ، قال : أولم{[18765]} تسمع الله يقول : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } [ مريم : 29 ] ؟ واختاره ابن زيد ، وابن جرير في تفسيره{[18766]}
وقوله : { أَلا تَحْزَنِي } أي : ناداها قائلا لا تحزني ، { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } قال سفيان الثوري وشعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } قال : الجدول . وكذا قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : السريّ : النهر . وبه قال عمرو بن ميمون : نهر تشرب منه .
وقال مجاهد : هو النهر بالسريانية .
وقال سعيد بن جُبَيْر : السري : النهر الصغير بالنبطية .
وقال الضحاك : هو النهر الصغير بالسريانية .
وقال إبراهيم النَّخَعِي : هو النهر الصغير .
وقال قتادة : هو الجدول بلغة أهل الحجاز .
وقال وهب بن مُنَبِّه : السري : هو ربيع الماء .
وقال السدي : هو النهر ، واختار هذا القول ابن جرير . وقد ورد في ذلك حديث مرفوع ، فقال الطبراني :
حدثنا أبو شعيب الحَرَّاني : حدثنا يحيى بن عبد الله البَابلُتِّي{[18767]} حدثنا أيوب بن نَهِيك ، سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول : سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن السري الذي قال الله لمريم : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } نهر أخرجه الله لتشرب منه " {[18768]} وهذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه . وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي{[18769]} قال فيه أبو حاتم الرازي : ضعيف . وقال أبو زُرْعَة : منكر الحديث . وقال أبو الفتح الأزدي : متروك الحديث .
وقال آخرون : المراد بالسري : عيسى ، عليه السلام ، وبه قال الحسن ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن عَبَّاد بن جعفر . وهو إحدى الروايتين عن قتادة ، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، والقول الأول أظهر ؛ ولهذا قال بعده : { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ } أي : وخذي إليك بجذع النخلة . قيل : كانت يابسة ، قاله ابن عباس . وقيل : مثمرة . قال مجاهد : كانت عجوة . وقال الثوري ، عن أبي داود{[18770]} نُفَيْع الأعمى : كانت صَرَفَانة{[18771]}
والظاهر أنها كانت شجرة ، ولكن لم تكن في إبان ثمرها ، قاله وهب بن منبه ؛ ولهذا امتن عليها بذلك ، أن جعل عندها طعامًا وشرابًا ، فقال : { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا } أي : طيبي نفسًا ؛ ولهذا قال عمرو بن ميمون : ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب ، ثم تلا هذه الآية الكريمة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا شَيْبَان ، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي{[18772]} حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، عن عُروة بن رُوَيْم ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكرموا عمتكم النخلة ، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام ، وليس من الشجر شيء{[18773]} يُلَقَّح غيرها " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أطعموا نساءكم الولدَ الرطَبَ ، فإن لم يكن رطب فتمر ، وليس من الشجرة شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران " .
هذا حديث منكر جدًّا ، ورواه أبو يعلى ، عن شيبان ، به{[18774]}
وقرأ بعضهم قوله : " تساقط " بتشديد السين ، وآخرون بتخفيفها ، وقرأ أبو نَهِيك : { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } وروى أبو إسحاق عن البراء : أنه قرأها : " تساقط " {[18775]} أي : الجذع . والكل متقارب .
وقوله : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا } أي : مهما رأيت من أحد ، { فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } المراد بهذا القول : الإشارة إليه بذلك . لا أن{[18776]} المراد به القول اللفظي ؛ لئلا ينافي : { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا }
قال أنس بن مالك في قوله : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا } أي : صمتًا{[18777]} وكذا قال ابن عباس ، والضحاك . وفي رواية عن أنس : " صومًا وصمتًا " ، وكذا قال قتادة وغيرهما .
والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام ، نص على ذلك السدي ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد .
وقال أبو إسحاق ، عن حارثة قال : كنت عند ابن مسعود ، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ، فقال : ما شأنك ؟ قال أصحابه : حلف ألا يكلم الناس اليوم . فقال عبد الله بن مسعود : كلِّم الناس وسلم عليهم ، فإنما تلك امرأة علمت أن أحدًا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج . يعني بذلك مريم ، عليها السلام ؛ ليكون عذرًا لها إذا سئلت . ورواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، رحمهما الله .
وقال عبد الرحمن بن زيد : لما قال عيسى لمريم : { أَلا تَحْزَنِي } قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي ؟ ! لا ذاتُ زوج ولا مملوكة ، أي شيء عذري عند الناس ؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا ، قال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } قال : هذا كله من كلام عيسى لأمه . وكذا قال وهب .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِيَ إِنّي نَذَرْتُ لِلرّحْمََنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : فكلي من الرطب الذي يتساقط عليك ، واشربي من ماء السريّ الذي جعله ربك تحتك ، لا تخشي جوعا ولا عطشا وَقَرّي عَيْنا يقول : وطيبي نفسا وَافرحي بولادتك إياي ولا تحزني . ونصبت العين لأنها هي الموصوفة بالقرار . وإنما معنى الكلام : ولتقرِر عينك بولدك ، ثم حوّل الفعل عن العين إلى المرأة صاحبة العين ، فنصبت العين إذ كان الفعل لها في الأصل على التفسير ، نظير ما فعل بقوله : فإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسا وإنما هو : فإن طابت أنفسهن لكم . وقوله : وَضَاقَ بِهِم ذَرْعا ومنه قوله : «يُساقِطْ عَلَيْكِ رُطُبا جَنِيّا » إنما هو يساقط عليك رطب الجذع ، فحوّل الفعل إلى الجِذع ، في قراءة من قرأه بالياء . وفي قراءة من قرأه : تُساقِطْ بالتاء ، معناه : يساقط عليك رطب النخلة ، ثم حوّل الفعل إلى النخلة .
وقد اختلفت القراء في قراءة قوله : وقَرّي فأما أهل المدينة فقرأوه : وَقَرّي بفتح القاف على لغة من قال : قَرِرت بالمكان أَقَرّ به ، وقَرِرت عينا ، أَقَرّ به قُرورا ، وهي لغة قريش فيما ذكر لي وعليها القراءة . وأما أهل نجد فإنها تقول قررت به عينا أقربه قرارا وقررت بالمكان أقر به ، فالقراءة على لغتهم : «وَقرِي عَيْنا » بكسر القاف ، والقراءة عندنا على لغة قريش بفتح القاف .
وقوله : فإمّا تَرِيَنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا يقول : فإن رأيت من بني آدم أحدا يكلمك أو يسائلك عن شيء من أمرك وأمر ولدك وسبب ولادتكه فَقُولي إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما يقول : فقولي : إني أوجبت على نفسي لله صمتا ألاّ أكلم أحدا من بني آدم اليوم فَلَنْ أُكَلّمَ اليَوْمَ إنْسِيّا .
وبنحو الذي قلنا في معنى الصوم ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول في هذه الاَية إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما صمتا .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني المغيرة بن عثمان ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال : صمتا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال : يعني بالصوم : الصمت .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيميّ ، قال : سمعت أنسا قرأ : «إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما وَصَمْتا » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما أما قوله : صَوْما فإنها صامت من الطعام والشراب والكلام .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال : كان من بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم من الطعام ، إلا مِن ذكر الله ، فقال لها ذلك ، فقالت : إني أصوم من الكلام كما أصوم من الطعام ، إلا من ذكر الله فلما كلموها أشارت إليه ، فقالوا : كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كانَ فِي المَهْدِ صَبِيّا فأجابهم فقال : إنّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الكِتابَ حتى بلغ ذلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمْ قَوْلَ الحَقّ الّذِي فِيهِ يَمترُونَ .
واختلفوا في السبب الذي من أجله أمرها بالصوم عن كلام البشر ، فقال بعضهم : أمرها بذلك لأنه لم يكن لها حجة عند الناس ظاهرة ، وذلك أنها جاءت وهي أيّم بولد بالكفّ عن الكلام ليكفيها فأمرت الكلام ولدها . . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، قال : كنت عند ابن مسعود ، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الاَخر ، فقال : ما شأنك ؟ فقال أصحابه : حلف أن لا يكلم الناس اليوم ، فقال عبد الله : كلم الناس وسلم عليهم ، فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدّقها أنها حملت من غير زوج ، يعني بذلك مريم عليها السلام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد لما قال عيسى لمريم لا تَحْزَنِي قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي ، لا ذات زوج ولا مملوكة ، أيّ شيء عذري عند الناس يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا فقال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام فإمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا فقُولي إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلّمَ اليَوْمَ إنْسِيّا قال : هذا كله كلام عيسى لأمه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه فإمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا فَقُولي إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلّمَ اليَوْمَ إنْسِيّا فإني سأكفيك الكلام .
وقال آخرون : إنما كان ذلك آية لمريم وابنها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما قال في بعض الحروف : صمتا ، وذلك أنك لا تلقي امرأة جاهلة تقول : نذرت كما نذرت مريم ، ألا تكلم يوما إلى الليل ، وإنما جعل الله تلك آية لمريم ولابنها ، ولا يحلّ لأحد أن ينذر صمت يوم إلى الليل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، فقرأ : إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما وكانت تقرأ في الحرف الأوّل : صمتا ، وإنما كانت آية بعثها الله لمريم وابنها .
وقال آخرون : بل كانت صائمة في ذلك اليوم ، والصائم في ذلك الزمان كان يصوم عن الطعام والشراب وكلام الناس ، فأذن لمريم في قدر هذا الكلام ذلك اليوم وهي صائمة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فإمّا تَرَيِنّ مِنَ البَشَرِ أحَدا يكلمك فَقُولي إنّي نَذَرْتُ للرّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلمَ اليَوْمَ إنْسِيّا فكان من صام في ذلك الزمان لم يتكلم حتى يمسي ، فقيل لها : لا تزيدي على هذا .
{ فكلي واشربي } أي من الرطب وماء السري أو من الرطب وعصيره . { وقري عينا } وطيبي نفسك وارفضي عنها ما أحزنك وقرئ " وقري " بالكسر وهو لغة نجد واشتقاقه من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره ، أو من القرفان دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة ولذلك يقال قرة العين للمحبوب وسخنتها للمكروه . { فإما ترين من البشر أحدا } فإن تري آدميا ، وقرئ " ترئن " على لغة من يقول لبأت بالحج لتآخ بين الهمزة وحرف اللين . { فقولي إني نذرت للرحمان صوما } صمتا وقد قرئ به ، أو صياما وكانوا لا يتكلمون في صيامهم { فلن أكلم اليوم إنسيا } بعد أن أخبرتهم بنذري وإنما أكلم الملائكة وأناجي ربي . وقيل أخبرتهم بنذرها بالإشارة وأمرها بذلك لكراهة المجادلة و الاكتفاء بكلام عيسى عليه الصلاة والسلام فإنه قاطع في قطع الطاعن .