وبعد أن انتهى القرآن من بيان شأن الكتاب وأثره في الهداية والإرشاد ، وتصوير حال المتقين الذين اهتدوا به ، وما اكتسبوه بالهداية من أوصاف سامية ، وما كان لهم على ذلك من خير العاقبة وحسن الجزاء ، أقول بعد أن انتهى من بيان كل ذلك شرع في بيان حال الكافرين ، وما هم عليه من سوء الحال وقبيح الأوصاف فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ . . . }
في هاتين الآيتين بيان لأحوال طائفة ثانية من الناس ، على الضد في طبيعتها وأوصافها ومآلها من الطائفة الأولى التي فازت برضوان الله .
والكفر - بالضم - ضد الإيمان . وأصله المأخوذ منه الكفر - بالفتح - وهو ستر الشيء وتغطيته ، ومنه سمي الليل كافراً ، لأنه يغطي كل شيء بسواده ، وسمي السحاب كافراً لستره ضوء الشمس . ثم شاع الكفر في مجرد ستر النعمة ، كأن المنعم عليه قد غطى النعمة بجحوده لها ، ويستعمله الشارع في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . وسمي من لم يؤمن بما يجب الإيمان به بعد الدعوة إليه - كافراً ، لأنه صار بجحوده لذلك الحق وعدم الإذعان إليه كالمغطى له . والمراد بالذين كفروا في الآية التي معنا ، طائفة معينة صمت آذانها عن الحق ، عناداً وحسداً ، وليس عموم الكافرين ، لأن منهم من دخل في الإسلام بعد نزول هذه الآية . وسواء : اسم مصدر بمعنى الاستواء والمراد به اسم الفاعل أي : مستو ولذلك يوصف به كما يوصف بالمصدر ، كما في قوله - تعالى - : { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أي : مستوية .
والإنذار : إخبار معه تخويف في مدة تتسع للتحفظ من المخوف ، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار ، وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله - تعالى - . والمعنى : إن الذين كفروا برسالتك يا محمد مستو عندهم إنذارك وعدمه ، فهم لا يؤمنون بالحق ، ولا يستجيبون لداعي الهدى ، لسوء استعدادهم ، وفساد فطرهم .
وجاءت جملة " إن الذين كفروا " مستأنفة ولم تعطف على ما قبلها لاختلاف الغرض الذي سيق له الكلام ، إذ في الجمل السابقة حديث عن الكتاب وآثاره وعظمته ، وهنا حديث عن الكافرين وأحوالهم . وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال : " فإن قلت لم قطعت قصة الكفار عن قصة المؤمنين ولم تعطف كنحو قوله : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } وغيره من الآيات الكثيرة ؟ قلت : ليس وزان هاتين القصتين وزان ما ذكرت . لأن الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هدى المتقين ، وسيقت الثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت ؛ فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب ، وهما على حد لا مجال فيه للعاطف " .
وقوله { سَوَآءٌ } خبر إن { عَلَيْهِمْ } متعلق به ، و { أَأَنذَرْتَهُمْ } مؤول بمصدر فاعل سواء .
أي : إن الذين كفروا سواء عندهم إنذارهم وعدم إنذارهم وإنما استوى لديهم الإنذار وعدمه ؛ مع أن الإنذار إنما يواجههم به نبي قوي أمين مؤيد من الله - تعالى - ، لأنهم لما جحدوا نعم الله ، وعموا عن آياته ، وحسدوا رسوله على ما آتاه الله من فضله ، صاروا بسبب ذلك في حضيض جمد معه شعورهم ، وبرد فيه إحساسهم ، فلا تؤثر فيهم موجعات القول ، ولا تنفذ إلى قلوبهم بالغات الحجج . فهم كما قال الشاعر :
لقد أسمعت إذ ناديت حيا . . . ولكن لا حياة لمن تنادي
ولم يذكر - سبحانه - التبشير مع الإنذار ، لأنهم ليسوا أهلا للبشارة ، ولأن الإنذار أوقع في القلوب ، والذي لا يتأثر به يكون عدم تأثره بغيره أولى .
ولم يقل - سبحانه - سواء عليك أأنذرتهم أم لم تنذرهم . . الخ ، لأنه بالنسبة له صلى الله عليه وسلم لا يستوي الأمران ، إذ هو في حالة إنذاره لهم مثاب ومأجور ، أما في حالة عدم إنذاره فهو مؤاخذ من الله - تعالى - لأنه مكلف بتبليغ ما أنزل إليه من ربه .
وجملة { لاَ يُؤْمِنُونَ } مفسرة لمعنى الجملة التي قبلها ومؤكدة لها ، لأنه حيث كان الإنذار وعدمه سواء ، فلا يتوقع منهم الإيمان . ولذلك فصلت . وفي هذه الجملة إخبار بعدم إيمانهم ألبتة ، وذلك لأن حرف " لا " إذا دخل على الفعل المضارع - كما هنا - أفاد أن الفعل لا يقع في المستقبل حتى تقوم قرينة تقصر النفي في المستقبل على وقت محدد .
والحكمة في الإخبار بعدم إيمان هذه الطائفة المعينة من الكفار ، تسلية النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون في صدره حرج من تمردهم وعدم إيمانهم بعد أن قام بواجب دعوتهم ، وفي ذلك تذكرة لكل داع مصلح بأن لا يحترق قلبه أسفاً على قوم أعرضوا عن سلوك الصراط المستقيم ، بعد أن دعاهم إليه ، وبذل قصارى جهده في تبصيرهم وإرشادهم .
يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : غَطوا الحق وستروه ، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك ، سواء عليهم إنذارك وعدمه ، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] وقال في حق المعاندين من أهل الكتاب : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } الآية [ البقرة : 145 ] أي : إن من{[1225]} كتب الله عليه الشقاوة فلا مُسْعِد له ، ومن أضلَّه فلا هادي له ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وبلّغهم الرّسالة ، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر ، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يُهْمِدَنَّك ذلك ؛ { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] ، و{ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ هود : 12 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرصُ أن يؤمن جميع النَّاس ويُتَابعوه على الهدى ، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذكر الأوّل ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بما أنزل إليك ، وإن قالوا : إنَّا قد آمنا بما جاءنا قبلك { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق ، فقد{[1226]} كفروا بما جاءك ، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟ !
وقال أبو جعفر الرّازي ، عن الرّبيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب ، وهم الذين قال الله فيهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } [ إبراهيم : 28 ، 29 ] .
والمعنى الذي ذكرناه أوّلا وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة ، أظهر ، ويفسر{[1227]} ببقية الآيات التي في معناها ، والله أعلم .
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني عبد الله بن المغيرة ، عن أبي الهيثم{[1228]} عن عبد الله بن عمرو ، قال : قيل : يا رسول الله ، إنَّا نقرأ من القرآن فنرجو ، ونقرأ فنكاد أن نيأس ، فقال : «ألا أخبركم » ، ثم قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } هؤلاء أهل النار » . قالوا : لسنا منهم يا رسول الله ؟ قال : «أجل »{[1229]} .
وقوله : { لا يُؤْمِنُونَ } محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي هم كفار في كلا الحالين ؛ فلهذا أكد ذلك بقوله : { لا يُؤْمِنُونَ } ويحتمل أن يكون { لا يُؤْمِنُونَ } خبرًا لأن تقديره : إن الذين كفروا لا يؤمنون ، ويكون قوله : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } جملة معترضة ، والله أعلم ]{[1230]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.