وبعد أن بين القرآن الكريم ما حل باليهود من عقوبات بسبب جحودهم لنعم الله ، وكفرهم بآياته - أردف بذلك ما وعد الله به المؤمنين من جزيل الثواب فقال - تعالى :
{ إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين . . . } .
في هذه الآية الكريمة حدثنا القرآن عن أربع فرق من الناس :
أما الفرقة الأولى : فهي فرقة الذين آمنوا ، والمراد بهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وصدقوه .
وابتدأ القرآن بهم للإِشعار بأن دين الإِسلام دين قائم على أساس أن الفوز برضا الله لا ينال إلا بالإِيمان الصادق والعمل الصالح ، ولا فضل لأمة على أمة إلا بذلك ، كما قال - تعالى - : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } .
وأما الفرقة الثانية : فهي فرقة الذين هادوا ، أي : صاروا يهوداً ، يقال : هاد وتهود ، أي دخل في اليهودية ، وسمواً يهوداً نسبة إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب - بقلب الذال دالا في التعريب - أو سمواً يهودا حين تابوا من عبادة العجل ، من هاد يهود هودا بمعنى تاب . ومنه { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } أي : تينا .
والفرقة الثالثة : هي فرقة النصارى ، جمع نصران بمعنى نصراني ، كندامي وندمان والياء في نصراني للمبالغة ، وهم قوم عيسى - عليه السلام - قيل سمواً بذلك لأنهم كانوا أنصاراً له ، وقيل إن هذا الاسم مأخوذ من الناصرة وهي القرية التي كان عيسى - عليه السلام - قد نزلها .
وأما الفرقة الرابعة : فهي فرقة الصابئين جمع صابئ ، وهو الخارج من دين إلى دين ، يقال : صباً الظلف والناب والنجم - كمنع وكرم - إذا طلع . والمراد بهم الخارجون من الدين الحق إلى الدين الباطل ، وهم قوم يعبدون الكواكب أو الملائكة ، ويزعمون أنهم على دين صابئ بن شيث بن آدم .
وذكر القرآن الصائبة في هذا المقام وهم من أبعد الأمم ضلالا . لينبه على أن الإِيمان منهم على النحو الذي قرره الدين الحق ، فمن لم تبلغه منهم دعوة الإِسلام ، وكان ينتمى إلى دين صحيح في أصله بحيث يؤمن بالله واليوم الآخر ويقدم العمل الصالح على الوجه الذي يرشده إليه دينه ، فله أجره على ذلك عند ربه .
أما الذين بلغتهم الذين بلغتهم دعوة الإِسلام من تلك الفرق ولكنهم لم يقبلوها ؛ فإنهم لا يكونون ناجين من عذاب الله مهما ادعوا بأنهم يؤمنون بغيرها ، لأن الشريعة الإِسلامية قد نسخت ما قبلها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي " .
ويفسرونه - أي الإِيمان - بالنسبة للمؤمنين المشار إليهم بقوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ . . . } على أنه بمعنى الثبات والدوام والإِذعان ، وبذلك ينتظم عطف قوله - تعالى - : { وَعَمِلَ صَالِحاً } على قوله { آمَنَ } مع مشاركة هؤلاء المؤمنين لتلك الفرق الثلاث فيما يترتب على الإِيمان والعمل الصالح من ثواب جزيل ، وعاقبة حميدة .
وبعض العلماء يرى أن معنى { مَنْ آمَنَ } أي : من أجدث من هذه الفرق إيماناً بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء من عند ربه ، قالوا : لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإِسلام ، وأما بيان من مضى على دين آخر قبل نسخه فلا ملابسة له بالمقام ، فضلا عن أن الصابئين ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات .
ثم بين - سبحانه - عاقبتهم فقال : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
الأجر : الجزاء على العمل ، وسمى الله ما يعطيه للمؤمن العامل أجراً على سبيل التفضل منه .
وقال : { عِندَ رَبِّهِمْ } ليدل على عظم الثواب ، لأن ما يكون عند الله من الجزاء على العمل لا يكون عظيماًً ، ولأن المجازي لهم هو ربهم المنعوت بصفات الكرم والرحمة وسعة العطاء .
والمعنى : إن هؤلاء الذين لهم أجرهم العظيم عند ربهم ، ولا يفزعون من هول يوم القيامة كما يفزع الكافرون ، ولا يفوتهم نعيم ، فيحزنون عليه كما يحزن المقصرون .
لما بين [ الله ]{[1909]} تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره ، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم ، وما أحلّ بهم من النكال ، نبه تعالى على أن مَنْ أحسن من الأمم السالفة وأطاع ، فإن له جزاء الحسنى ، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة ؛ كُلّ من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ، ولا هُمْ يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه ، كما قال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ يونس : 62 ] وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت : 30 ] .
قال{[1910]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العَدني ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، قال : قال سلمان : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم ، فذكرتُ من صلاتهم وعبادتهم ، فنزلت : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى آخر الآية .
وقال السدي : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا } الآية : نزلت في أصحاب سلمان الفارسي ، بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذْ ذكر أصحابه ، فأخبره خبرهم ، فقال : كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ، ويشهدون{[1911]} أنك ستبعث نبيًا ، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم ، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم : " يا سلمان ، هم من أهل النار " . فاشتد ذلك على سلمان ، فأنزل الله هذه الآية ، فكان إيمان اليهود : أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى ، عليه السلام ؛ حتى جاء عيسى . فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى ، فلم يدعها ولم يتبع عيسى ، كان هالكًا . وإيمان النصارى أن{[1912]} من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنًا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لم يتبعْ محمدًا صلى الله عليه وسلم منهم ويَدَعْ{[1913]} ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل - كان هالكا .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا .
قلت : وهذا لا ينافي ما روى عَليّ بن{[1914]} أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية فأنزل الله بعد ذلك : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] .
فإن هذا الذي قاله [ ابن عباس ]{[1915]} إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقًا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه [ الله ]{[1916]} بما بعثه به ، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة ، فاليهود أتباع موسى ، عليه السلام ، الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم .
واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة ؛ كقول موسى ، عليه السلام : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي : تبنا ، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض .
[ وقيل : لنسبتهم إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب عليه السلام ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنهم يتهودون ، أي : يتحركون عند قراءة التوراة ]{[1917]} .
فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم{[1918]} وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له ، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى ، وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم ، وقد يقال لهم : أنصار أيضًا ، كما قال عيسى ، عليه السلام : { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } [ آل عمران : 52 ] وقيل : إنهم إنما سُمّوا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضًا يقال لها ناصرة ، قاله قتادة وابن جُرَيج ، وروي عن ابن عباس أيضًا ، والله أعلم .
والنصارى : جمع نصران{[1919]} كنشاوى جمع نشوان ، وسكارى جمع سكران ، ويقال للمرأة : نصرانة ، قال الشاعر :
. . . نصرانة لم تَحَنَّفِ{[1920]}
فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتمًا للنبيين ، ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق ، وجب عليهم تصديقُه فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، والانكفاف عما عنه زجر . وهؤلاء هم المؤمنون [ حقا ]{[1921]} . وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم ، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية . وأما الصابئون فقد اختلف فيهم ؛ فقال سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، قال : الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ، ليس لهم دين . وكذا رواه ابن أبي نجيح ، عنه وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك .
وقال أبو العالية والربيع بن أنس ، والسدي ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد ، والضحاك [ وإسحاق بن راهويه ]{[1922]} الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور .
[ ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق : لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم ]{[1923]} .
وقال هشيم عن مطرف : كنا عند الحكم بن عتيبة{[1924]} فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين : إنهم كالمجوس ، فقال الحكم : ألم أخبركم بذلك .
وقال عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن عبد الكريم : سمعت الحسن ذكر الصابئين ، فقال : هم قوم يعبدون الملائكة .
[ وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ، عن الحسن قال : أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس . قال : فأراد أن يضع عنهم الجزية . قال : فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة ]{[1925]} .
وقال أبو جعفر الرازي : بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ، ويقرؤون الزبور ، ويصلون إلى القبلة .
وكذا قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : الصابئون قوم مما يلي العراق ، وهم بكوثى ، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ، ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات .
وسئل وهب بن منبه عن الصابئين ، فقال : الذي يعرف الله وحده ، وليست له شريعة يعمل بها ولم يحدث كفرًا .
وقال عبد الله بن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد : الصابئون أهل دين من الأديان ، كانوا بجزيرة الموصل يقولون : لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول : لا إله إلا الله ، قال : ولم يؤمنوا برسول ، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : هؤلاء الصابئون ، يشبهونهم بهم ، يعني في قول : لا إله إلا الله .
وقال الخليل{[1926]} هم قوم يشبه دينهم دين النصارى ، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب ، يزعمون أنهم على دين نوح ، عليه السلام . وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي نجيح : أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس ، ولا تؤكل ذبائحهم ، قال ابن عباس : ولا تنكح نساؤهم . قال القرطبي : والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم ، وأنهم فاعلة ؛ ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم ، واختار فخر الدين الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب ؛ بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء ، أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها ، قال : وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانيين الذين جاءهم إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، رادًا عليهم ومبطلا لقولهم .
وأظهر الأقوال ، والله أعلم ، قول مجاهد ومتابعيه ، ووهب بن منبه : أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين ، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه ؛ ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئي ، أي : أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك .
وقال بعض العلماء : الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي ، والله أعلم .