التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ قَدۡ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمۡ لِبَاسٗا يُوَٰرِي سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِيشٗاۖ وَلِبَاسُ ٱلتَّقۡوَىٰ ذَٰلِكَ خَيۡرٞۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ} (26)

وبعد أن قص القرآن على بنى آدم قصة خلقهم وتصويرهم وما جرى بين أبيهم وبين إبليس ، وكيف أن إبليس قد خدع آدم وزوجه خداعا ترتب عليه إخراجهما من الجنة . بعد كل ذلك أورد القرآن أربع نداءات لبنى آدم حضهم فيها على تقوى الله وحذرهم من وسوسة الشيطان وذكرهم بنعمه عليهم ، فقال في النداء الأول : { يابني ءَادَمَ . . . } .

السوءة : العورة . والريش : لباس الزينة ، استعير من ريش الطائر ، لأنه لباسه وزينته . وقال الجوهرى : " الريش والرياش بمعنى كاللبس واللباس ، وهو اللباس الفاخر " .

والمعنى : يا بنى آدم تذكروا واعتبروا واشكروا الله على ما حباكم من نعم ، فإنه - سبحانه - قد هيأ لكم سبيل الحصول على الملبس الذي تسترون به عوراتكم ، وتتزينون به في مناسبات التجمل والتعبد .

والمراد بإنزال ما ذكر أنه خلق لبنى آدم مادة هذا اللباس التي تتكون من القطن والصوف والحرير وما إليها ، وألهمهم بما خلق فيهم من غرائز طرق استنباتها وصناعتها بالغزل والنسج والخياطة .

والتعبير بأنزلنا يفيد خصوصية البشر باللباس الذي يستر العورة ، وبالرباش التي يتزينون بها ، أى أنزلنا عليكم لباسين : لباسا يوارى سوآتكم ، ولباسا يزينكم ، لأن الزينة غرض صحيح وحبها من طبيعة البشر . قال - تعالى - : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } قال الجمل : " وقوله - تعالى - : { وَرِيشاً } يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات . والمعنى : أنه وصف اللباس بوصفين : مواراة السوأة ، والزينة . ويحتمل أن يكون من باب عطف الشىء على غيره . أى : أنزلنا عليكم لباسا موصوفا بالمواراة ، ولباسا موصوفا بالزينة " .

ثم بين - سبحانه - أن هناك لباسا آخر أفضل وأكمل من كل ذلك فقال : { وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ } أى : أن اللباس الذي يصون النفس من الدنايا والأرجاس ، ويسترها بالإيمان والعمل الصالح هو خير من كل لباس حسى يتزين به البشر . فاسم الإشارة هنا يعود على لباس التقوى . وقد عبر القرآن هنا عن التقوى بأنها لباس ، وعبر عنها في موضع آخر بأنها زاد مشاكلة للسياق الذي وردت فيه هنا أو هناك . وذلك من باب تجسيم المعنويات وتنسيقها مع الجو العام الذي ورت فيه ، وتلك طريقة انفرد بها القرآن الكريم .

قال صاحب الكشاف : وقوله : { وَلِبَاسُ التقوى } مبتدأ ، وخبره إما الجملة التي هى { ذلك خَيْرٌ } كأنه قيل : ولباس التقوى هو خير ، لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر . وإما المفرد الذي هو خير ، وذلك صفة للمبتدأ ، كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير " .

وقوله - تعالى - : { ذلك مِنْ آيَاتِ الله لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } معناه : ذلك الذي أنزله الله على بنى آدم من النعم من دلائل قدرته وإحسانه عليهم ، لعلهم بعد ذلك لا يعودون إلى النسيان الذي أوقع أبويهم في المعصية .

قال صاحب الكشاف : وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر ظهور العورات وخصف الورق عليها ، إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العرى وكشف العورة من المهانة والفضيحة ، وإشعاراً بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ قَدۡ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمۡ لِبَاسٗا يُوَٰرِي سَوۡءَٰتِكُمۡ وَرِيشٗاۖ وَلِبَاسُ ٱلتَّقۡوَىٰ ذَٰلِكَ خَيۡرٞۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمۡ يَذَّكَّرُونَ} (26)

يمتن تبارك وتعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش فاللباس{[11631]} المذكور هاهنا لستر العورات - وهي السوآت{[11632]} والرياش والريش : هو ما يتجمل به ظاهرًا ، فالأول من الضروريات ، والريش من التكملات والزيادات .

قال ابن جرير : " الرياش " في كلام العرب : الأثاث ، وما ظهر من الثياب .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس - وحكاه البخاري - عنه : الرياش : المال . وكذا قال مجاهد ، وعُرْوَة بن الزبير ، والسُّدِّي والضحاك{[11633]}

وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : " الرياش " اللباس ، والعيش ، والنعيم .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : " الرياش " : الجمال .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا أصْبَغُ ، عن أبي العلاء الشامي قال : لبس أبو أمامة ثوبًا جديدًا ، فلما بلغ تَرْقُوَتَه قال : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي . ثم قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استجد ثوبًا فلبسه{[11634]} فقال حين يبلغ ترقوته : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي{[11635]} ثم عمد إلى الثوب الذي خَلُقَ أو : ألقى فتصدق به ، كان في ذمة الله ، وفي جوار الله ، وفي كنف الله حيا وميتا ، [ حيا وميتا ، حيا وميتا ] " {[11636]} .

ورواه الترمذي ، وابن ماجه ، من رواية يزيد بن هارون ، عن أصبغ - هو ابن زيد الجهني{[11637]} - وقد وثقه يحيى بن مَعِين وغيره ، وشيخه " أبو العلاء الشامي " لا يعرف إلا بهذا الحديث ، ولكن لم يخرجه أحد ، والله أعلم .

وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا مختار بن نافع التمار ، عن أبي مطر ؛ أنه رأى عليا ، رضي الله عنه ، أتى غلامًا حدثًا ، فاشترى منه قميصًا بثلاثة دراهم ، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين ، يقول ولبسه : الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس ، وأواري به عورتي . فقيل : هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هذا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكسوة : " الحمد لله الذي رزقني{[11638]} من الرياش{[11639]} ما أتجمل به في الناس ، وأواري به عورتي " {[11640]}

وقوله تعالى : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } قرأ بعضهم : " ولباسَ التقوى " ، بالنصب . وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء ، { ذَلِكَ خَيْرٌ } خبره .

واختلف المفسرون في معناه ، فقال عكرمة : يقال : هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة . رواه ابن أبي حاتم .

وقال زيد بن علي ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وابن جُريْج : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } الإيمان .

وقال العَوْفي ، عن ابن عباس [ رضي الله عنه : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } ]{[11641]} العمل الصالح .

وقال زياد{[11642]} بن عمرو ، عن ابن عباس : هو السمت الحسن في الوجه .

وعن عُرْوَة بن الزبير : { لِبَاسُ التَّقْوَى } خشية الله .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { لِبَاسُ التَّقْوَى } يتقي الله ، فيواري عورته ، فذاك لباس التقوى .

وكل هذه متقاربة ، ويؤيد ذلك الحديث الذي رواه ابن جرير حيث قال :

حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق بن الحجاج ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن سليمان بن أرقم ، عن الحسن قال : رأيت عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص قُوهي محلول الزرّ ، وسمعته يأمر بقتل الكلاب ، وينهى عن اللعب بالحمام . ثم قال : يا أيها الناس ، اتقوا الله في هذه السرائر ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " والذي نفس محمد بيده ، ما عمل أحد قط سرا إلا ألبسه الله رداء علانية ، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر " . ثم تلا هذه الآية : " ورياشًا " ولم يقرأ : وريشًا - { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } قال : " السمت الحسن " .

هكذا رواه ابن جرير من رواية سليمان بن أرقم{[11643]} وفيه ضعف . وقد روى الأئمة : الشافعي ، وأحمد ، والبخاري في كتاب " الأدب " من طرق صحيحة ، عن الحسن البصري ؛ أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام ، يوم الجمعة على المنبر .

وأما المرفوع منه{[11644]} فقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير له شاهدًا{[11645]} من وجه آخر ، حيث قال : حدثنا . . . . {[11646]}


[11631]:في ك: "واللباس".
[11632]:في ك: "الشهوات".
[11633]:في ك، م، أ: "والضحاك: الرياش: المال".
[11634]:في م: "يلبسه".
[11635]:في أ: "في الناس".
[11636]:زيادة من أ.
[11637]:المسند (1/44) وسنن الترمذي برقم (3560) وسنن ابن ماجة برقم (3557).
[11638]:في أ: "كساني".
[11639]:في م: "من اللباس".
[11640]:المسند (1/157) قال الهيثمي في المجمع (5/119): "فيه مختار بن نافع وهو ضعيف".
[11641]:زيادة من ك، أ.
[11642]:في أ: "الديال".
[11643]:تفسير الطبري (12/367)
[11644]:في م: "عنه".
[11645]:في ك، م: شاهدا آخر".
[11646]:[محمود بن محمد المروزي، حدثنا حامد بن آدم المروزي، حدثنا الفضل بن موسى، عن محمد بن عبيد الله العرزمى، عن سلمة ابن كهيل، عن جندب بن سفيان البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر"].المعجم الكبير (2/171) وقال الهيثمي في المجمع (10/225): "فيه حامد بن آدم وهو كذاب" والعرزمي تركه الأئمة.تنبيه: في جميع النسخ لم يذكر هذا الحديث الذي سقته ها هنا، وموضعه بياض عدة أسطر، وقد تعرفت على أن هذا الحديث هو مقصود الحافظ ابن كثير، أني رأيته ساق أثر عثمان السابق ثم ساق بعده هذا الحديث بإسناد الطبراني، كما سيأتي في سورة الفتح آية: 29، فرأيت إثباته في الحاشية.