التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

وقوله : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة . . } زيادة فى تبجيلهما والتلطف معهما فى القول والفعل والمعاملة على اختلاف ألوانها .

أى : وبجانب القول الكريم الذى يجب أن تقوله لهما ، عليك أن تكون متواضعا معهما ، متلطفا فى معاشرتهما ، لا ترفع فيهما عينا ، ولا ترفض لهما قولا ، مع الرحمة التامة بهما ، والشفقة التى لا نهاية لها عليهما .

قال الإِمام الرازى ما ملخصه : وقوله : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } المقصود منه المبالغة فى التواضع .

وذكر القفال فى تقريره وجهين : الأول : أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية . فكأنه قال للولد : اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك فى حال صغرك .

والثانى : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه . فصار خفض الجناح كناية عن التواضع .

وإضافة الجناح إلى الذل إضافة بيانية ، أى : اخفض لهما جناحك الذليل و { من } فى قوله { من الرحمة } ابتدائية . أى تواضع لهما تواضعا ناشئا من فرط رحمتك عليهما .

قال الآلوسى : وإنما احتاجا إلى ذلك ، لافتقارهما إلى من كان أفقر الخلق إليهما ، واحتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه أدعى إلى الرحمة ، كما قال الشاعر :

يامن أتى يسألنى عن فاقتى . . . ما حال من يسأل من سائله ؟

ماذلة السلطان إلا إذا . . . أصبح محتاجا إلى عامله

وقوله : { وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } تذكير للإنسان بحال ضعفه وطفولته ، وحاجته إلى الرعاية والحنان .

أى : وقل فى الدعاء لهما : يارب ارحمهما برحمتك الواسعة ، واشملهما بمغفرتك الغامرة ، جزاء ما بذلا من رعاية لى فى صغرى ، فأنت القادر على مثوبتهما ومكافأتهما .

قال الجمل : والكاف فى قوله { كما ربيانى . . } فيها قولان : أحدهما أنها نعت لمصدر محذوف .

أى : ارحمهما رحمة مثل رحمتهما لى ، والثانى أنها للتعليل . أى : ارحمهما لأجل تربيتهما لى ، كما فى قوله { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

22

ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال ؛ وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان :

( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ) . . والكبر له جلاله ، وضعف الكبر له إيحاؤه ؛ وكلمة( عندك ) تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف . . ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ) وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق ، وما يشي بالإهانة وسوء الأدب . . ( وقل لهما قولا كريما ) وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما يشي بالإكرام والاحترام . . ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) وهنا يشف التعبير ويلطف ، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان . فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا ، ولا يرفض أمرا . وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام والاسستسلام . ( وقل : رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) فهي الذكرى الحانية . ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان ، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان . وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع ، ورعاية الله أشمل ، وجناب الله أرحب . وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء .

قال الحافظ أبو بكر البزار - بإسناده - عن بريدة عن أبيه : أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها فسأل النبي [ ص ] هل أديت حقها ? قال : لا . ولا بزفرة واحدة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا} (24)

قد انتُقل إليه انتقالاً بديعاً من قوله : { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } فكان ذكر رحمة العبد مناسبة للانتقال إلى رحمة الله ، وتنبيهاً على أن التخلق بمحبة الولد الخير لأبويه يدفعه إلى معاملته إياهما به فيما يعلمانه وفيما يخفى عنهما حتى فيما يصل إليهما بعد مماتهما . وفي الحديث " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير "

وفي الآية إيماء إلى أن الدعاء لهما مستجاب لأن الله أذن فيه . والحديث المذكور مؤيد ذلك إذ جعل دعاء الولد عملاً لأبويه .

وحكم هذا الدعاء خاص بالأبوين المؤمنين بأدلة أخرى دلت على التخصيص كقوله : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [ التوبة : 113 ] الآية .

والكاف في قوله : { كما ربياني صغيراً } للتشبيه المجازي يعبر عنه النحاة بمعنى التعليل في الكاف ، ومثاله قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] ، أي ارحمهما رحمة تكافىء ما ربياني صغيرا .

و{ صغيراً } حال من ياء المتكلم .

والمقصود منه تمثيل حالة خاصة فيها الإشارة إلى تربية مكيفة برحمة كاملة فإن الأبوة تقتضي رحمة الولد ، وصغرالولد يقتضي الرحمة به ولو لم يكن ولداً فصار قوله : { كما ربياني صغيراً } قائماً مقام قوله كما ربياني ورحماني بتربيتهما . فالتربية تكملة للوجود ، وهي وحدها تقتضي الشكر عليها . والرحمة حفظ للوجود من اجتناب انتهاكه وهو مقتضى الشكر ، فجمع الشكر على ذلك كله بالدعاء لهما بالرحمة .

والأمر يقتضي الوجوب . وأما مواقع الدعاء لهما فلا تنضبط وهو بحسب حال كل امرىء في أوقات ابتهاله . وعن سفيان بن عيينة إذا دعا لهما في كل تشهد فقد امتثل .

ومقصد الإسلام من الأمر ببر الوالدين وبصلة الرحم ينحل إلى مقصدين :

أحدهما : نفساني وهو تربية نفوس الأمة على الاعتراف بالجميل لصانعه ، وهو الشكر ، تخلقاً بأخلاق الباري تعالى في اسمه الشكور ، فكما أمر بشكر الله على نعمة الخلق والرزق أمر بشكر الوالدين على نعمة الإيجاد الصوري ونعمة التربية والرحمة .

وفي الأمر بشكر الفضائل تنويه بها وتنبيه على المنافسة في إسدائها .

والمقصد الثاني عمراني ، وهو أن تكون أواصر العائلة قوية العُرى مشدودة الوثوق فأمر بما يحقق ذلك الوثوق بين أفراد العائلة ، وهو حسن المعاشرة ليربي في نفوسهم من التحاب والتواد ما يقوم مقام عاطفة الأمومة الغريزية في الأم ، ثم عاطفة الأبوة المنبعثة عن إحساسسٍ بعضه غريزي ضعيف وبعضه عقلي قوي حتى أن أثر ذلك الإحساس ليساوي بمجموعه أثر عاطفة الأم الغريزية أو يفوقها في حالة كبر الابن . ثم وزع الإسلام ما دعا إليه من ذلك بين بقية مراتب القرابة على حسب الدنو في القرب النسبي بما شرعه من صلة الرحم ، وقد عزز الله قابلية الانسياق إلى تلك الشرعة في النفوس .

جاء في الحديث : « أن الله لما خلق الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت : هذا مقام العائذ بكَ من القطيعة . فقال الله : أما تَرْضَيْنَ أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك » وفي الحديث : « إن الله جعل الرحم من اسمه الرحيم » .

وفي هذا التكوين لأواصر القرابة صلاح عظيم للأمة تظهر آثاره في مواساة بعضهم بعضاً ، وفي اتحاد بعضهم مع بعض ، قال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } [ الحجرات : 13 ] .

وزاده الإسلام توثيقاً بما في تضاعيف الشريعة من تأكيد شد أواصر القرابة أكثر مما حاوله كل دين سلف . وقد بينا ذلك في بابه من « كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية » .