ثم ختمت السورة حديثها الطويل المتنوع عن الأحكام الشرعية ببيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع الإِسلامي فتحدثت عن التشريع الخاص بالإِشهاد على الوصية في حالة السفر ، وعن الضمانات التي شرعتها لكي يصل إلى أهله كاملا غير منقوص فقال - تعالى - :
{ يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ . . . }
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة في تفاصيلها إلا أنها متقاربة في مغزاها .
ومن ذلك ما ذكره ابن كثير بقوله : روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } قال : برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإِسلام ، فأتيا الشام لتجارتهما ، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له " بديل بن أبي مريم " بتجارة ، معه جام من فضة أي إناء من فضة - يريد به الملك ، وهو أعظم تجارته ؛ فمرض فأوصى إليهما ، وأمرهما أن يبلغا ما ترك إلى أهله - أي : يوصلا ما تركه من متاع لورثته .
قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ، واقتسمنا الثمن أنا وعدى ، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا ، وفقدوا الجام فسألونا عنه ، فقلنا : ما ترك غير هذا ، وما دفع إلينا غيره .
قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك ، فأتبت أهله فأخبرتهم الخبر ، ودفعت إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فوثبوا عليه ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه ، فحلف فنزلت : { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ } الآيات فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفاه فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء .
وقال القرطبي : ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء ، روى البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال : " كان تميم الداري ودي بن بداء يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم ، فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصاً بالذهب - أي عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل - فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما كتمتما ولا اطلعتما " ثم وجد الجام بمكة فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم ، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن الجام للسهمي ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ، قال : فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآيات " .
هذا ، والمعنى الإِجمالي لهذه الآيات : أن الله - تعالى - شرع لكم - أيها المؤمنون - الوصية في السفر فعلى من يحس منكم بدنو أجله وهو في السفر أن يحضر رجلا مسلما يوصيه بإيصال ماله لورثته فإذا لم يجد رجلا مسلما فليحضر كافرا ، والاثنان أحوط ، فإذا أوصلا ما عندهما إلى ورثة الميت . وارتاب الورثة في أمانة هذين الرجلين ، فعليهم في هذه الحالة أن يرفعوا الأمر للحاكم ، وعلى الحاكم أن يستحلف الرجلين بالله بعد الصلاة بأنهما ما كتما شيئاً من وصية وما خانا .
فإذا ظهر بعد ذلك للحاكم أو لورثه الميت أن هذين الرجلين لم يكونا أمينين في أداء ما كلفهما الميت بأدائه ، فعندئذ يقوم رجلان من أقرب ورثة الميت ، ليحلفا بالله أن شهادتهما أحق وأولى من شهادة الرجلين الأولين ، وأن هذين الرجلين لم يؤديا الوصية على وجهها .
ثم بين - سبحانه - في الآية الثالثة أن ما شرعه الله لهم هو أضمن طريق لأداء الشهادة على وجهها الصحيح وعليهم أن يراقبوه ويتقوه لكي يكونوا من المؤمنين الصادقين :
هذا هو المعنى الإِجمالي للآيات الكريمة سقناه قبل تفصيل الفول في تفسيرها حتى يتهيأ الذهن لفهمها بوضوح .
قال الآلوسي : وقوله : { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } . . إلخ استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم ، إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم وفيه من إظهار العناية بمضمونه ما لا يخفى .
وللشهادة معان منها ، الإِحضار والقضاء ، والحكم ، والحلف ، والعلم والإِيصاء ، والمراد بها هنا الأخير ، كما نص عليه جماعة من المفسرين .
وقوله : { شهادة } يصح أن يكون مبتدأ وخبره قوله : { اثنان } على حذف مضاف . أي : شهادة اثنين .
ويصح أن يكون مبتدأ والخبر محذوف . أي : فيما أمرتم به أن يشهد اثنان : ويكون قوله { اثنان } فاعلا لقوله { شهادة } وعليه تكون إضافة قوله { شهادة } إلى الظرف وهو { بينكم } على التوسع .
قال القرطبي : قوله { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } قيل : معناه شهادة ما بينكم فحذفت " ما " وأضيفت الشهادة إلى الظرف ، واستعمل اسما على الحقيقية ، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة . ومنه قوله - تعالى - { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } أي : ما بيني وبينك .
والمراد بقوله : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } ظهور أماراته وعلاماته وهو ظرف متعلق بقوله : " شهادة " .
وقوله : { حِينَ الوصية } بدل من الظرف . وفي هذا الابدال تنبيه على أن الوصية لا ينبغي أن يتهاون فيها .
وقوله : { ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } صفة لقوله { اثنان } .
وقوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } صفة لقوله { اثنان } .
والمراد من غير المسلمين ، ويرى بعضهم أن المراد بقوله { منكم } أي : من قبيلتكم ، وبقوله : { مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من غير قبيلتكم .
وقوله : { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت } بيان لمكان الوصية وزمانها .
والمراد بالضرب في الأرض السفر فيها وقيل للمسافر ضارب في الأرض لأنه يضربها برجليه أو بعصاه .
والمراد بقوله : { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت } أي : فقاربتم نهاية أجلكم بأن أحسستم بدنو الموت منكم . فليس المراد الموت بالفعل وإنما المراد مشارفته ومقاربته .
وسمي - سبحانه - الموت مصيبة ، لأنه بطبيعته يؤلم ، أو يصحبه أو يقاربه أو يسبقه آلام نفسية .
قال القرطبي : " وفي الكلام حذف تقديره إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ، فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم ودفعتم إليها ما معكم من المال ، ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في أمرهما ، وادعو عليهما خيانة ، فالحكم أن تحبسوهما من بعد صلاة ، أي تستوثقوا منهما " .
فقوله : { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ بالله } كلام مستأنف لبيان ما يجب على الحاكم أن يفعله عند الشك في أمانة الرجلين اللذين دفع إليهما الميت ما له ليوصلاه إلى أهله .
ومعنى { تَحْبِسُونَهُمَا } توقفونهما وتمكسونهما لأداء اليمين اللازمة عليهما والمراد بالصلاة : صلاة العصر . وقد روى ذلك عن ابن عباس وجماعة من التابعين .
قال الفخر الرازي : إنما عرف هذا التعيين بوجوه :
أحدها : أن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعده ، فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ .
وثانيهما : ما روى أنه لما نزلت هذه الآية صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر ، ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر فصار فعل الرسول دليلا على التقييد .
وثالثها : أن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه ، ويحترزون عن الكلف الكاذب .
وقال الزهري : المراد بالصلاة ، الصلات مطلقاً : وإنما كان الحلف بعد الصلاة ، لأنها داعية إلى النطق بالصدق ، وناهية عن الكذب والزور .
أي : توقفون - أيها المسلمون - هذين الرجلين بعد الصلاة لأداء اليمين { فَيُقْسِمَانِ بالله } أي : فيحلفان بالله { إِنِ ارتبتم } في صدقهما ، بأن يقولا : { لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } أي : لا نحصل بيمين الله عرضاً من أعراض الدنيا ، ولو كان من نقسم له ونشهد عليه قريبا لنا .
{ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله } أي : ولا نكتم الشهادة التي أمرنا الله بإظهارها وأدائها { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين } أي : إنا إذا لتكونن معدودين من المستقرين في الذنوب والآثام إن كتمناها وبدلناها عن وجهها الصحيح .
وقوله { إِنِ ارتبتم } شرط لا يتوجه الشاهدين إلا به ، ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين .
وجواب الشرط محذوف للعلم به مما قبله . أي : إن ارتبتم فحلفوهما .
والضمير في قوله : { به } يعود إلى القسم المفهوم من قوله : { فيقسمان } أي : فيقسمان بالله لا نشتري بصحة القسم ثمنا مهما كان هذا الثمن .
وقوله : { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } تأكيد لتنزههما عن الحلف الكاذب .
قال صاحب الكشاف : والضمير في { به } للقسم وفي { كان } للقسم له . يعني : لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا . أي : لا نحلف كاذبين لأجل المال ، ولو كان من يقسم له قريباً منا ، على معنى : أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً ، وأنهم داخلون تحت قوله - تعالى - { كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين } فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أكد هذا القسم بجملة من المؤكدات منها : أن الحالفين يحلفان بأنهما لا يحصلان بيمين الله ثمنا مهما كنت قيمته ، وبأنهما لن يحابيا إنسانا مهما بلغت درجة قرابته وبأنهما لن يبكتما الشهادة التي أمرهما الله بأدائها على وجهها الصحيح ، وبأنهما يقران على أنفسهما باستحقاق عقوبة الآثم المذنب إن كتما أو خانا أو حادا عن الحق ، وهذا كله لأجل أن تصل وصية الميت إلى أهله كاملة غير منقوصة .
والآن يجيء الحكم الأخير من الأحكام الشرعية التي تتضمنها السورة ، في بيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع المسلم ، وهو الخاص بتشريع الإشهاد على الوصية في حالة الضرب في الأرض ، والبعد عن المجتمع والضمانات التي تقيمها الشريعة ليصل الحق إلى أهله .
( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت - حين الوصية - اثنان ذوا عدل منكم ، أو آخران من غيركم ، إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ، تحبسونهما من بعد الصلاة ، فيقسمان بالله - إن ارتبتم - لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنا إذا لمن الآثمين . فإن عثر على أنهما استحقا إثما فالآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم . . الأوليان . . فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا ، إنا إذن لمن الظالمين . ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، أو يخافوا أن ترد إيمان بعد أيمانهم ؛ واتقوا الله واسمعوا ، والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . .
وبيان هذا الحكم الذي تضمنته الآيات الثلاث : أن على من يحس بدنو أجله ، ويريد أن يوصي لأهله بما يحضره من المال ، أن يستحضر شاهدين عدلين من المسلمين إن كان في الحضر ، ويسلمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين . فأما إذا كان ضاربا في الأرض ، ولم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه ، فيجوز أن يكون الشاهدان من غير المسلمين .
فإن ارتاب المسلمون - أو ارتاب أهل الميت - في صدق ما يبلغه الشاهدان وفي أمانتهما في أداء ما استحفظا عليه ، فإنهم يوقفونهما بعد أدائهما للصلاة - حسب عقيدتهما - ليحلفا بالله ، أنهما لا يتوخيان بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر ، ولو كان ذا قربى ، ولا يكتمان شيئا مما استحفظا عليه . . وإلا كانا من الآثمين . . وبذلك تنفذ شهادتهما .
قال مكي بن أبي طالب رضي الله عنه : هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كلام من لم يقع له الثلج{[4766]} في تفسيرها ، وذلك بين من كتابه رحمه الله وبه نستعين ، لا نعلم خلافاً أن سبب هذه الآية أن تميماً الداري وعدي بن بداء ، كانا نصرانيين سافرا إلى المدينة يريدان الشام لتجارتهما ، قال الواقدي : وهما أخوان وقدم المدينة أيضاً ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص يريد الشام تاجراً فخرجوا رفاقة فمرض ابن أبي مارية في الطريق ، قال الواقدي فكتب وصية بيده ودسها في متاعه وأوصى إلى تميم وعدي أن يؤديا رحله ، فأتيا بعد مدة المدينة برحله فدفعاه ، ووجد أولياؤه من بني سهم وصيته مكتوبة ، ففقدوا أشياء قد كتبها فسألوهما عنها فقالا ما ندري ، هذا الذي قبضناه له ، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية الأولى فاستحلفهما رسول الله بعد العصر ، فبقي الأمر مدة ثم عثر بمكة من متاعه على إناء عظيم من فضة مخوص بالذهب{[4767]} ، فقيل لمن وجد عنده من أين صار لكم هذا الإناء ؟ قالوا : ابتعناه من تميم الداري وعدي بن بداء ، فارتفع في الأمر إلى النبي عليه السلام فنزلت الآية الأخرى ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا ، قال الواقدي : فحلف عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة ، واستحقا ، وروى ابن عباس عن تميم الداري أنه قال : برىء الناس من هذه الآيات غيري وغير عدي بن بداء ، وذكر القصة ، إلا أنه قال وكان معه جام{[4768]} فضة يريد به الملك ، فأخذته أنا وعدي فبعناه بألف وقسمنا ثمنه ، فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة ، فوثبوا إلى عدي فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف عمرو بن العاص ورجل آخر معه ، ونزعت من عدي خمسمائة .
قال القاضي أبو محمد : تختلف ألفاظ هذه القصة في الدواوين وما ذكرته هو عمود الأمر ، ولم يصح لعدي صحبة فيما علمت ولا ثبت إسلامه ، وقد صنفه في الصحابة بعض المتأخرين ، وضعف أمره ، ولا وجه عندي لذكره في الصحابة .
وأما معنى الآية من أولها إلى آخرها ، فهو أن الله تعالى أخبر المؤمنين أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضره الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن معه من المؤمنين أحد ليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر ، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا وأن ما شهدا به حق ما كتما فيه شهادة الله ، وحكم بشهادتهما ، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم ، حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما ، هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وابن عباس وغيرهم ، يقولون معنى قوله ، { منكم } من المؤمنين ، ومعنى ، { من غيركم } من الكفار ، قال بعضهم ذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة وكانوا يسافرون في التجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة ، واختلفت هذه الجماعة المذكورة ، فمذهب أبي موسى الأشعري وشريح وغيرهما أن الآية محكمة ، وأسند الطبري إلى الشعبي أن رجلاً حضرته المنية بدقوقا{[4769]} ولم يجد أحداً من المؤمنين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ، فقال أبو موسى الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في مدة النبي عليه السلام ثم أحلفهما بعد صلاة العصر وأمضى شهادتهما ، وأسند الطبري عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة النصراني واليهودي على مسلم إلا في الوصية ، ولا تجوز أيضاً في الوصية إلا إذا كانوا في سفر ، ومذهب جماعة ممن ذكر ، أنها منسوخة بقوله تعالى :{ وأشهدوا ذوي عدل منكم }{[4770]} وبما استند إليه إجماع جمهور الناس على أن شهادة الكافر لا تجوز .
وتأول الآية جماعة من أهل العلم على غير هذا كله ، قال الحسن بن أبي الحسن وقوله تعالى : { منكم } يريد من عشيرتكم وقرابتكم ، وقوله { أو آخران من غيركم } يريد من غير القرابة والعشيرة ، وقال بهذا عكرمة مولى ابن عباس وابن شهاب ، قالوا أمر الله بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم ألحن{[4771]} بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها ، فإن كان الأمر في سفر ولم تحضر قرابة أشهد أجنبيان ، فإذا شهدا فإن لم يقع ارتياب مضت الشهادة ، وإن ارتيب أنهما مالا بالوصية إلى أحد أو زادا أو نقصا حلفا بعد صلاة العصر ومضت شهادتهما ، فإن عثر بعد ذلك على تبديل منهما واستحقاق إثم حلف وليان من القرابة وبطلت شهادة الأولين{[4772]} .
وقال بعض الناس الآية منسوخة ، ولا يحلف شاهد ، ويذكر هذا عن مالك بن أنس والشافعي وكافة الفقهاء ، وذكر الطبري رحمه الله أن هذا التحالف الذي في الآية إنما هو بحسب التداعي ، وذلك أن الشاهدين الأولين إنما يحلفان إن ارتيب فقد ترتبت عليهما دعوى فلتزمهما اليمين ، لكن هذا الارتياب إنما يكون في خيانة منهما ، فإن عثر بعد ذلك على أنهما استحقا إثماً نظر ، فإن كان الأمر بيناً غرما دون يمين َوِلَّيين ، وإن كان بشاهد واحد أو بدلا بل تقتضي خيانتهما أو ما أشبه ذلك مما هو كالشاهد حمل على الظالم وحلف المدعيان مع ما قام لهما من شاهد أو دليل .
قال القاضي أبو محمد : فهذا هو الاختلاف في معنى الآية وصورة حكمهما ، ولنرجع الآن إلى الإعراب والكلام على لفظة لفظة من الآية ، ولنقصد القول المفيد لأن الناس خلطوا في تفسير هذه الآية تخليطاً شديداً ، وذكر ذلك والرد عليه يطول ، وفي تبيين الحق الذي تتلقاه الأذهان بالقبول مقنع ، والله المستعان ، قوله { شهادة بينكم } قال قوم الشهادة هنا بمعنى الحضور ، وقال الطبري : الشهادة بمعنى اليمين وليست بالتي ُتَؤَّدى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، والصواب أنها الشهادة التي تحفظ لتؤدى{[4773]} ، ورفعهما بالابتداء والخبر في قوله { اثنان } قال أبو علي : التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقدره غيره أولاً كأنه قال«مقيم شهادة بينكم اثنان » وأضيفت الشهادة إلى «بين » اتساعاً في الظرف بأن يعامل معاملة الأسماء ، كما قال تعالى : { لقد تقطع بينكم }{[4774]} .
وقرأ الأعرج والشعبي والحسن «شهادةٌ » بالتنوين «بينكَم » بالنصب ، وإعراب هذه القراءة على نحو إعراب قراءة السبعة وروي عن الأعرج وأبي حيوة «شهادة » بالنصب والتنوين «بينكم » نصب ، قال أبو الفتح : التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان ، وقوله تعالى : { إذا حضر أحدكم الموت } معناه إذا قرب الحضور وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت وهذا كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله }{[4775]} وكقوله { إذا طلقتم النساء فطلقوهن }{[4776]} وهذا كثير ، والعامل في { إذا } المصدر الذي هو { شهادة } ، وهذا على أن تجعل { إذا } بمنزلة حين لا تحتاج إلى جواب ولك أن تجعل { إذا } في هذه الآية المحتاجة إلى الجواب ، لكن استغني عن جوابها بما تقدم في قوله { شهادة بينكم } إذ المعنى إذا حضر أحدكم الموت فينبغي أن يشهد ، وقوله { حين الوصية } ظرف زمان ، والعامل فيه { حضر } ، وإن شئت جعلته بدلاً من { إذا } ، قال أبو علي :
ولك أن تعلقه { بالموت } لا يجوز أن تعمل فيه { شهادة } لأنها إذا عملت في ظرف من الزمان لم تعمل في ظرف آخر منه ، وقوله { ذوا عدل } صفة لقوله اثنان ، و { منكم } صفة أيضاً بعد صفة ، وقوله تعالى : { من غيركم } صفة لآخران ، و { ضربتم في الأرض } معناه سافرتم للتجارة ، تقول ضربت في الأرض أي سافرت للتجارة ، وضربت الأرض ذهبت فيها لقضاء حاجة الإنسان ، وهذا السفر كان الذي يمكن أن يعدم المؤمن مؤمنين ، فلذلك خص بالذكر لأن سفر الجهاد لا يكاد يعدم فيه مؤمنين ، قال أبو علي : قوله { تحبسونهما } صفة ل { آخران } واعترض بين الموصوف والصفة بقوله : إن أنتم إلى الموت ، وأفاد الاعتراض أن العدول إلى { آخران } من غير الملة والقرابة حسب اختلاف العلماء في ذلك إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه ، واستغني عن جواب { إن } لما تقدم من قوله { أو آخران من غيركم } وقال جمهور العلماء { الصلاة } هنا صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس ، وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيمن حلف على سلعته وأمر باللعان فيه ، وقال ابن عباس : إنما هي بعد صلاة الذميين{[4777]} ، وأما العصر فلا حرمة لها عندهما ، والفاء في قوله { فيقسمان } عاطفة جملة على جملة لأن المعنى تم في قوله { من بعد الصلاة } قال أبو علي : وإن شئت لم تقدر الفاء عاطفة جملة على جملة ، ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرمة :
وإنسان عيني يحسر الماء تارة *** فيبدو وتارات يجم فيغرق{[4778]}
تقديره عندهم إذا حسر بدا ، فكذلك إذا حبستموهما أقسما وقوله { إن ارتبتم } شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به ، ومتى لم يقع ارتياب ولا اختلاف فلا يمين ، أما أنه يظهر من حكم أبي موسى تحليف الذميين أنه باليمين تكمل شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها وإن لم يرتب ، وهذه الريبة عند من لا يرى الآية منسوخة ترتب في الخيانة وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهما دون بعض وتقع مع ذلك اليمين عنده ، وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا بأن يكون الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى على منكر لا على أنه تكميل للشهادة ، والضمير في قول الحالفين { لا نشتري به ثمناً } عائد على القسم ، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى ، قال أبو علي : يعود على تحريف الشهادة ، وقوله { لا نشتري } جواب ما يقتضيه قوله : فيقسمان بالله ، لأن القسم ونحوه يتلقى بما تتلقى به الأيمان ، وتقديره به ثمناً ، أي ذا ثمن لأن الثمن لا يشترى .
وكذلك قوله تعالى : { اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً }{[4779]} معناه ذا ثمن ، ولا يجوز أن يكون { نشتري } في هذه الآية بمعنى نبيع لأن المعنى يبطله وإن كان ذلك موجوداً في اللغة في غير هذا الموضع ، وخص «ذو القربى » بالذكر لأن العرف ميل النفس إلى قرابتهم واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل ، وقوله تعالى : { ولا نكتم شهادة الله } أضاف { شهادة } إليه تعالى من حيث هو الآمر بإقامتها الناهي عن كتمانها ، وقرأ الحسن والشعبي «ولا نكتمْ » بجزم الميم{[4780]} ، وقرأ علي بن أبي طالب ونعيم بن ميسرة والشعبي بخلاف عنه «شهادةً » بالتنوين «الله » نصب ب { نكتم } ، كأن الكلام ولا نكتم الله شهادة قال الزهري ويحتمل أن يكون المعنى «ولا نكتم شهادة والله » ثم حذفت الواو ونصب الفعل إيجازاً ، وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش «شهادةً » بالتنوين( ألله ) بقطع الألف دون مد وخفض الهاء ، ورويت أيضاً عن الشعبي وغيره أنه كان يقف على الهاء من الشهادة بالسكون ، ثم يقطع الألف المكتوبة من غير مد كما تقدم ، وروي عنه أنه كان يقرأ «الله » بمد ألف الاستفهام في الوجهين أعني بسكون الهاء من الشهادة وتحريكها منّونة منصوبة ، ورويت هذه التي هي تنوين ( الشهادة ) ومد ألف الاستفهام بعد عن علي بن أبي طالب ، قال أبو الفتح : أما تسكين هاء شهادة والوقف عليها واستئناف القسم فوجه حسن لأن استئناف القسم في أول الكلام أوقر له وأشد هيبة أن يدرج في عرض القول ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن حبيب والحسن البصري فيما ذكر أبو عمرو الداني «شهادةً » بالنصب والتنوين «آلله » بالمد في همزة الاستفهام التي هي عوض من حرف القسم «آنا » بمد ألف الاستفهام أيضاً دخلت لتوقيف وتقرير لنفوس المقسمين أو لمن خاطبوه وقرأ ابن محيصن «لملآثمين » بالإدغام .
استؤنفت هذه الآي استئنافاً ابتدائياً لشرع أحكام التوثّق للوصية لأنّها من جملة التشريعات التي تضمّنتها هذه السورة ، تحقيقاً لإكمال الدين ، واستقصاء لما قد يحتاج إلى علمه المسلمون وموقعها هنا سنذكره .
وقد كانت الوصية مشروعة بآية البقرة ( 180 ) { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية } وتقدّم القول في ابتداء مشروعيتها وفي مقدار ما نسخ من حكم تلك الآية وما أحكم في موضعه هنالك . وحرص رسول الله على الوصية وأمر بها ، فكانت معروفة متداولة منذ عهد بعيد من الإسلام . وكانت معروفة في الجاهلية كما تقدّم في سورة البقرة . وكان المرء يوصي لمن يوصي له بحضرة ورثته وقرابته فلا يقع نزاع بينهم بعد موته مع ما في النفوس من حرمة الوصية والحرص على إنفاذها حفظاً لحقّ الميّت إذ لا سبيل له إلى تحقيق حقّه ، فلذلك استغنى القرآن عن شرع التوثّق لها بالإشهاد ، خلافاً لما تقدّم به من بيان التوثّق في التبايع بآية { وأشهدوا إذا تبايعتم } [ البقرة : 282 ] والتوثّق في الدين بآية { يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } [ البقرة : 282 ] الخ فأكملت هذه الآية بيان التوثّق للوصية اهتماماً بها ولجدارة الوصية بالتوثيق لها لضعف الذياد عنها لأنّ البيوع والديون فيها جانبان عالمان بصورة ما انعقد فيها ويذُبّان عن مصالحهما فيتّضح الحقّ من خلال سعيهما في إحقاق الحقّ فيها بخلاف الوصية فإنّ فيها جانباً واحداً وهو جانب الموصى له لأنّ الموصي يكون قد ماتَ وجانب الموصى له ضعيف إذ لا علم له بما عقد الموصي ولا بما ترك ، فكانت معرّضة للضياع كلّها أو بعضها .
وقد كان العرب في الجاهلية يستحفظون وصاياهم عند الموت إلى أحد يثقون به من أصحابهم أو كبراء قبيلتهم أو من حضر احتضار الموصي أو من كان أودع عند الموصي خَبَرَ عزمه . فقد أوصى نزارُ بن مَعَدّ وصية موجزة وأحال أبناءه على الأفعى الجرهمي أن يبيّن لهم تفصيل مراده منها .
وقد حدثت في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام حادثة كانت سبباً في نزول هذه الآية . ولعلّ حدوثها كان مقارناً لنزول الآي التي قبلها فجاءت هذه الآية عقبها في هذا الموضع من السورة . ذلك أنّه كان في سنة تسع من الهجرة نزلت قضية : هي أن رجلين أحدهما تميم الداريُّ اللخمي والآخر عدي بن بدّاء ، كانا من نصارى العرب تاجرين ، وهما من أهل ( دارِين ) وكانا يتّجران بين الشام ومكةَ والمدينة . فخرج معهما من المدينة بُديل بن أبي مريم مولى بني سَهم وكان مسلماً بتجارة إلى الشام ، فمرض بديل ( قيل في الشام وقيل في الطريق برّاً أو بحراً ) وكان معه في أمتعته جام من فضة مخوّص بالذهب قاصداً به ملكَ الشام ، فلمّا اشتدّ مرضه أخذ صحيفة فكتب فيها ما عنده من المتاع والمال ودسّها في مطاوي أمتعته ودفع ما معه إلى تميم وعدي وأوصاهما بأن يبلّغاه مواليه من بني سهم .
وكان بديل مولى للعاصي بن وائل السهمي ، فولاؤه بعد موته لابن عمرو بن العاصي . وبعض المفسّرين يقول : إنّ ولاء بُديل لعَمرو بن العاصي والمطلب بن وداعة . ويؤيّد قولهم أنّ المطلب حلف مع عمرو بن العاصي على أنّ الجام لبديل بن أبي مريم . فلمّا رجعا باعا الجام بمكة بألف درهم ورجعا إلى المدينة فدفعا مَا لِبديل إلى مواليه . فلمّا نشروه وجدوا الصحيفة ، فقالوا لتميم وعدي : أين الجَامُ فأنكرا أن يكون دفع إليهما جاماً . ثم وُجد الجام بعد مدة يباع بمكة فقام عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة على الذي عنده الجام فقال : إنّه ابتاعه من تميم وعديّ . وفي رواية أنّ تميماً لما أسلم في سنة تسع تأثّم ممّا صنع فأخبر عمرو بن العاصي بخبر الجام ودفع له الخمسمائة الدرهم الصائرة إليه من ثمنه ، وطالب عمرو عدياً ببقية الثمن فأنكر أن يكون باعه . وهذا أمثل ما روي في سبب نزول هذه الآية . وقد ساقه البخاري تعليقاً في كتاب الوصايا . ورواه الترمذي في كتاب التفسير ، وقال : ليس إسناده بصحيح . وهو وإن لم يستوف شروط الصحة فقد اشتهر وتلقّى بالقبول ، وقد أسنده البخاري في « تاريخه » .
واتّفقت الروايات على أنّ الفريقين تفاضَوا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية في ذلك ، فحلف عَمرُو بن العاصي والمطّلب بن أبي وَدَاعة على أنّ تميماً وعدياً أخفيا الجام وأنّ بُديلاً صاحبه وما باعه ولا خرج من يده . ودفع لهما عدي خمسمائة درهم وهو يومئذٍ نصراني . وعدي هذا قيل : أسلم ، وعدّه ابن حبّان وابن منده في عداد الصحابة ، وقيل : مات نصرانياً ، ورجّح ذلك ابن عطية ، وهو قول أبي نعيم ، ويروى عن مقاتل ، ولم يذكره ابن عبد البر في الصحابة . واحتمل أن يكون نزولها قبل الترافع بين الخصم في قضية الجام ، وأن يكون نزولها بعد قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في تلك القضية لتكون تشريعاً لما يحدث من أمثال تلك القضية .
و { بينكم } أصل ( بين ) اسم مكان مبهم متوسّط بين شيئين يبيّنه ما يضاف هو إليه ، وهو هنا مجاز في الأمر المتعلّق بعدّة أشياء ، وهو مجرور بإضافة { شهادةُ } إليه على الاتّساع . وأصله ( شهادةٌ ) بالتنوين والرفع « بينكم » بالنصب على الظرفية . فخرج ( بين ) عن الظرفية إلى مطلق الاسمية كما خرج عنها في قوله تعالى : { لقد تقطّع بينكم } [ الأنعام : 94 ] في قراءة جماعة من العشرة برفع { بينكم } .
وارتفع { شهادةُ } على الابتداء ، وخبره { اثنان } . و { إذا حضر أحدكم الموت } ظرف زمان مستقبل . وليس في ( إذا ) معنى الشرط ، والظرف متعلّق ب { شهادة } لما فيه من معنى الفعل ، أي ليشهدْ إذا حضر أحدكم الموتُ اثنان ، يعني يجب عليه أن يشهد بذلك ويجب عليهما أن يَشهدا لقوله تعالى : { ولا يأبَ الشهداءُ إذا ما دُعوا } [ البقرة : 282 ] . و { حين الوصية } بدَل من { إذا حضر أحدكم الموتُ } بَدَلاً مطابقاً ، فإنّ حين حضور الموت هو الحين الذي يوصي فيه الناس غالباً . جيء بهذا الظرف الثاني ليتخلّص بهذا البدل إلى المقصود وهو الوصية .
وقد كان العرب إذا راوا علامة الموت على المريض يقولون : أوص ، وقد قالوا ذلك لعمر بن الخطاب حين أخبر الطبيب أنّ جرحه في أمعائه . ومعنى حضور الموت حضور علاماته لأن تلك حالة يتخيّل فيها المرءُ أنّ الموت قد حضر عنده ليصيّره ميتاً ، وليس المراد حصول الغرغرة لأنّ ما طُلب من الموصي أن يعمله يستدعي وقتاً طويلاً ، وقد تقدّم عند قوله : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً } في سورة البقرة ( 180 ) .
وقوله : { اثنان } خبر عن { شهادةُ } ، أي الشهادة على الوصية شهادة اثنين ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فأخذ إعرابه ، والقرينة واضحة والمقصود الإيجاز . فماصْدقُ { اثنان } شاهدان ، بقرينة قوله { شهادة بينكم } ، وقولِه : { ذوا عدل } . وهذان الشاهدان هما وصيّان من الميّت على صفة وصيّته وإبلاغها ، إلاّ أن يجعل الموصي وصياً غيرهما فيكونا شاهدين على ذلك . والعدل والعدالة متّحدان ، أي صاحبا اتّصَاف بالعدالة .
ومعنى { منكم } من المؤمنين ، كما هو مقتضى الخطاب بقوله : { يأيّها الذين آمنوا } ، لأنّ المتكلّم إذا خاطب مخاطبه بوصف ثم أتبعه بما يدلّ على بعضه كان معناه أنّه بعض أصحاب الوصف ، كما قال الأنصار يوم السقيفة : مِنَّا أمير ومِنْكم أمير . فالكلام على وصية المؤمنين . وعلى هذا درج جمهور المفسّرين ، وهو قول أبي موسى الأشعري ، وابن عبّاس ، وسعيد بن المسيّب ، وقتادة ، والأئمة الأربعة . وهو الذي يجب التعويل عليه ، وهو ظاهر الوصف بكلمة { منكم } في مواقعها في القرآن .
وقال الزهري ، والحسن ، وعكرمة : معنى قوله { منكم } من عشيرتكم وقرابتكم . ويترتّب على التفسير الأول أن يكون معنى مقابله وهو { من غيركم } أنّه من غير أهل ملّتكم . فذهب فريق ممّن قالوا بالتفسير الأول إلى إعمال هذا وأجازوا شهادة غير المسلم في السفر في الوصية خاصّة ، وخصّوا ذلك بالذميّ ، وهو قول أحمد ، والثوري ، وسعيد بن المسيّب ، ونُسب إلى ابن عبّاس ، وأبي موسى . وذهب فريق إلى أنّ هذا منسوخ بقوله تعالى : { وأشهدوا ذَوَيْ عدل منكم } [ الطلاق : 2 ] ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، ونسب إلى زيد بن أسلم . وقد تمّ الكلام على الصورة الكاملة في شهادة الوصية بقوله : { ذوَا عدل منكم } .
وقوله : { أو آخران من غيركم } الآيات . . تفصيل للحالة التي تعرض في السفر . و ( أو ) للتقسيم لا للتخيير ، والتقسيمُ باعتبار اختلاف الحالين : حالِ الحاضر وحال المسافر ، ولذلك اقترن به قوله : { إنْ أنتم ضربتم في الأرض } ، فهو قيد لقوله : { أو آخران من غيركم } .
وجواب الشرط في قوله : { إن أنتم ضربتم في الأرض } محذوف دلّ عليه قوله : { أو آخران من غيركم } ، والتقدير : إنْ أنتم ضربتم في الأرض فشهادة آخَرَيْنِ من غيركم ، فالمصيرُ إلى شهادة شاهدَين من غير المسلمين عند من يراه مقيّد بشرط { إنْ أنتم ضربتم في الأرض } . والضرب في الأرض : السير فيها . والمراد به السفر ، وتقدّم عند قوله تعالى : { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض } في سورة آل عمران ( 156 ) .
ومعنى : { فأصابتكم مصيبة الموت } حلّت بكم ، والفِعْل مستعمل في معنى المشارفة والمقاربة ، كما في قوله تعالى : { وليَخْشَ الذين لو تركوا من خَلْفهم ذرّيَّة } [ السناء : 9 ] ، أي لو شارفوا أن يتركوا ذرّيّة . وهذا استعمال من استعمال الأفعال . ومنه قولهم في الإقامة : قد قامت الصلاة .
وعُطف قولُه { فأصابتكم } على { ضربتم في الأرض } ، فكانَ من مضمون قوله قبله { إذا حضر أحدَكم الموت } . أعيد هنا لربط الكلام بعد ما فَصَل بينه من الظروف والشروط . وضمير الجمع في { أصابتكم } كضمير الجمع في { ضربتم في الأرض } .
والمصيبة : الحادثة التي تحلّ بالمرء من شرّ وضرّ ، وتقدّم عند قوله تعالى : { فإن أصابتكم مصيبة } في سورة النساء ( 72 ) .
وجملة { تحبسونهما } حال من { آخران } عند من جعل قوله { من غيركم } بمعنى من غير أهل دينكم . وأمّا عند من جعله بمعنى من غير قبيلتكم فإنّه حال من { اثنان } ومن { آخران } لأنّهما متعاطفان ب ( أو ) . فهما أحد قسمين ، ويكون التحليف عند الاسْترابة . والتحليف على هذا التأويل بعيد إذ لا موجب للاسترابة في عدلين مسلمين .
وضمير الجمع في { تحبسونهما } كضميري { ضربتم وأصابتكم } . وكلّها مستعملة في الجمع البدَلي دون الشمولي ، لأنّ جميع المخاطبين صالحون لأن يعتريهم هذا الحكم وإنّما يحلّ ببعضهم . فضمائر جمع المخاطبين واقعة موقع مُقتضَى الظاهر كلُّها . وإنّما جاءت بصيغة الجمع لإفادة العموم ، دفعاً لأن يتوهّم أنّ هذا التشريع خاصّ بشخصين معيّنين لأنّ قضية سبب النزول كانت في شخصين ؛ أو الخطاب والجمع للمسلمين وحكّامهم .
والحَبس : الإمساك ، أي المنع من الانصراف . فمنه ما هو بإكراه كحبس الجاني في بيت أو إثقافه في قيد . ومنه ما يكون بمعنى الانتظار ، كما في حديث عتبان بن مالك فغدا عليّ رسول الله وأبو بكر إلى أن قال وحبسناه على خزير صنعناه ، أي أمسكناه . وهذا هو المراد في الآية ، أي تمسكونهما ولا تتركونهما يغادِرَانِكم حتّى يتحمّلا الوصية . وليس المرادّ به السجن أو ما يقرب منه ، لأنّ الله تعالى قال : { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد } [ البقرة : 282 ] .
وقوله : { من بعد الصلاة } توقيت لإحضارهما وإمساكهما لأداء هذه الشهادة . والإتيانُ ب ( مِن ) الابتدائية لتقريب البَعديّة ، أي قرب انتهاء الصلاة . وتحتمل الآية أنّ المراد بالصلاة صلاة من صلوات المسلمين ، وبذلك فسّرها جماعة من أهل العلم ، فمنهم من قال : هي صلاة العصر . وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أحْلف تميماً الداري وعَدي بنَ بدّاء في قضية الجام بعد العصر ، وهو قول قتادة ، وسعيد ، وشريح ، والشعبي .
ومنهم من قال : الظهر ، وهو عن الحسن . وتحتمل من بعد صلاة دينهما على تأويل من غيركم بمعنى من غير أهل دينكم . ونقل عن السديّ ، وابن عبّاس ، أي تُحضرونهما عقب أدائهما صلاتهما لأنّ ذلك قريب من إقبالهما على خشية الله والوقوف لعبادته .
وقوله : { فيقسمان بالله } عطف على { تحبسونهما } فعلم أنّ حبسهما بعد الصلاة لأجل أن يقسما بالله . وضمير { يقسمان } عائد إلى قوله { آخران } . فالحلف يحلفه شاهدا الوصية اللذان هما غير مسلمين لزيادة الثقة بشهادتهما لعدم الاعتداد بعدالة غير المسلم .
وقوله { إن ارتبتم } تظافرت أقوال المفسّرين على أنّ هذا شرط متّصل بقوله { تحبسونهما } وما عطف عليه . واستغني عن جواب الشرط لدلالة ما تقدّم عليه ليتأتّى الإيجاز ، لأنّه لو لم يقدّم لقيل : أو آخران من غيركم فإن ارتبتم فيهما تحبسونهما إلى آخره . فيقتضي هذا التفسير أنّه لو لم تَحصل الريبة في صدقهما لما لزم إحْضارهما من بعد الصلاة وقسمهما ، فصار ذلك موكولاً لِخيَرة الولي . وجملة الشرط معترضة بين فعل القسم وجوابه .
والوجه عندي أن يكون قوله { إن ارتبتم } من جملة الكلام الذي يقوله الشاهدان ، ومعناه أنّ الشاهدين يقولان : إن ارتبتم في شهادتنا فنحن نقسم بالله لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم الشهادة ، أي يقولان ذلك لاطمئنان نفس المُوصي ، لأنّ العدالة مظنّة الصدق مع احتمال وجود ما ينافيها ممّا لا يُطّلع عليه فأكّدت مظنّة الصدق بالحلف ؛ فيكون شُرع هذا الكلام على كلّ شاهد ليسْتوي فيه جميع الأحوال بحيث لا يكون توجيه اليمين في بعض الأحوال حَرجاً على الشاهدين الذين توجّهت عليهما اليمينُ من أنّ اليمين تعريض بالشكّ في صدقهما ، فكان فرض اليمين من قِبَل الشرع دافعاً للتحرّج بينهما وبين الوليّ ، لأنّ في كون اليمين شرطاً من عند الله معذرة في المطالبة بها ، كما قال جمهور فقهائنا في يمين القضاء التي تتوجّه على من يثبت حقّاً على ميّت أو غائب من أنّها لازمة قبل الحكم مطلقاً ولو أسقطها الوارث الرشيد . ولم أقف على مَن عرّج على هذا المعنى من المفسّرين إلاّ قول الكواشي في « تلخيص التفسير » : « وبعضُهم يقف على { يقسمان } ويبتدىء { بالله } قسماً ولا أحبّه » ، وإلاّ ما حكاه الصفاقسي في « مُعربَه » عن الجرجاني « أنّ هنا قولاً محذوفاً تقديره : فيقسمان بالله ويَقُولان » . ولم يظهر للصفاقسي ما الذي دعَا الجرجاني لِتقدير هذا القول . ولا أراه حمله عليه إلاّ جَعْلُ قوله { إن ارتبتم } من كلام الشاهديْن . وجوابُ الشرط محذوف يدلّ عليه جواب القسم ، فإنّ القسم أولى بالجواب لأنّه مقدّم على الشرط .
وقوله { لا نشتري به ثمناً } الخ ، ذلك هو المقسم عليه . ومعنى { لا نشتري به ثمناً } لا نعتاض بالأمر الذي أقسمنا عليه ثمناً ، أي عوضاً ، فضمير به ، عائد إلى القسم المفهوم من { يقسمان } .
وقد أفاد تنكير { ثمناً } في سياق النفي عمومَ كلّ ثمن . والمراد بالثمن العوَض ، أي لا نبدّل ما أقسمنا عليه بعوض كائناً ما كان العوضُ ، ويجوز أن يكون ضمير { به } عائداً إلى المقسم عليه وهو ما استشهدا عليه من صيغة الوصي بجميع ما فيها .
وقوله : { ولو كان ذا قُربى } حال من قوله { ثمناً } الذي هو بمعنى العوض ، أي ولو كان العوض ذا قربى ، أي ذا قربى منّا ، و« لو » شرط يفيد المبالغة فإذا كان ذا القربى لا يَرْضيانه عوّضاً عن تبديل شهادتهما فأوْلى ما هو دون ذلك . وذلك أنّ أعظم ما يدفع المرء إلى الحيف في عرف القبائل هو الحميّة والنصرة للقريب ، فذلك تصغر دونه الرّشى ومنافع الذات . والضمير المسْتتر في { كان } عائد إلى قوله { ثَمناً } . ومعنى كون الثمن ، أي العوض ، ذَا قربى أنّه إرضاء ذي القربى ونفعه فالكلام على تقدير مضاف ، وهو من دلالة الاقتضاء لأنّه لا معنى لجعل العوض ذات ذي القربى ، فتعيّن أنّ المراد شيء من علائقه يعيّنه المقام . ونظيره { حُرِّمت عليكم أمّهاتكم } [ النساء : 23 ] . وقد تقدّم وجه دلالة مثل هذا الشرط ب ( لو ) وتسميتها وصلية عند قوله تعالى : { ولو افتدى به } من سورة آل عمران ( 91 ) .
وقوله { ولا نكتم } عطف على { لا نشتري } ، لأنّ المقصود من إحلافهما أن يؤدّيا الشهادة كما تلقّياها فلا يغيّرا شيئاً منها ولا يكتماها أصلاً .
وإضافة الشهادة إلى اسم الجلالة تعظيم لخطرها عند الشهادة وغيره لأنّ الله لمّا أمر بأدائها كما هي وحَضّ عليها أضافها إلى اسمه حفظاً لها من التغيير ، فالتصريح باسمه تعالى تذكير للشاهد به حينَ القسم .
وفي قوله { ولا نكتم } دليل على أنّ المراد بالشهادة هنا معناها المتعارف ، وهو الإخبار عن أمر خاصّ يعرِض في مثله الترافعُ . وليس المراد بها اليمين كما توهّمه بعض المفسّرين فلا نطيل بردّه فقد ردّه اللفظ .
وجملة { إنَّا إذاً لمن الآثمين } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّها جواب سؤال مقدّر بدليل وجود { إذنْ } ، فإنّه حرفُ جواب : استشعر الشاهدان سؤالاً من الذي حَلفا له بقولهما : لا نشتري به ثمناً ولا نكتم شهادة الله ، يقول في نفسه : لعلّكما لا تَبِرّان بما أقسمتما عليه ، فأجابا : إنّا إذَنْ لَمِن الآثمين ، أي إنّا نَعلم تبعة عدم البرّ بما أقسمنا عليه أن نكون من الآثمين ، أي ولا نرضى بذلك .
والآثمُ : مرتكب الإثم . وقد علم أنّ الإثم هو الحنث بوقوع الجملة استئنافاً مع « إذن » الدالّة على جواب كلام يختلج في نفس أولياء الميّت .