ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء مصير الذين يبخلون بنعم الله ، فلا يؤدون حقها . ولا يقومون بشكرها فقال - تعالى - : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } .
وقوله { يَبْخَلُونَ } من البخل وهو ضد الجود والسخاء ، ومعناه : أن يقبض الإنسان يده عن إعطاء الشىء لغيره ، وأن يحرص حرصاً شديداً على ما يملكه من مال أو علم أو غير ذلك .
ويرى جمهور المفسرين أن المراد بالبخل هنا البخل بالمال ، لأنه هو الذى يتفق مع السياق .
ويرى بعضهم أن المراد بالبخل هنا البخل بالعلم وكتمانه ، وذلك لأن اليهود كتموا صفات النبى صلى الله عليه وسلم التى جاءت بها التوراة .
والذى تراه أن ما عليه الجمهور هو الأرجح ، لأنه هو المتبادر من معنى الآية ، وهو المتفق من سياق الكلام .
ولذا قال الآلوسى : قوله - تعالى - { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } بيان لحال البخل وسوء عاقبته ، وتخطئة لأهله فى دعواهم خيريته عقب بيان حال الإملاء . . .
وقيل : وجه الارتباط أنه - تعالى - لما بالغ فى التحريض على بذل الأرواح فى الجهاد وغيره ، شرع هنا فى التحريض على بذل المال ، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل به " .
والمعنى : ولا يظنن أولئك الذين يبخلون بما أعطاهم الله من نعم وأموال أن بخلهم فيه خير لهم ، كلا ، بل إن بخلهم هذا فيه شر عظيم لهم .
والنهى عن الحسبان بأن البخل فيه خير فى قوله { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } يدل على النفى المؤكد .
اى لا يصح لهم أن يظنوا بأية حال من الأحوال أن ذلك البخل فيه خير لهم . بل الحقيقة أن فيه شراً كبيراً لهم .
وفى قوله { بِمَآ آتَاهُمُ الله } إشعار بسوء صنيعهم ، وخبث نفوسهم ، حيث بخلوا بشىء ليس وليد عملهم واجتهادهم ، وإنما هذا الشىء منحه الله - تعالى - لهم بفضله وجوده ، فكان الأولى لهم أن بشكروه على ما أعطى ، وأن يبذلوا مما أعطاهم فى سبيله .
والضمير " هو " يعود على البخل المستفاد من قوله { يَبْخَلُونَ } .
ويرى الزمخشرى أنه ضمير فصل لتأكيد نفى الظن فى الخيرية .
وفى إعادة الضمير ، وذكر الجملة الإسمية فى قوله { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } تأكيد لمعنى الشر فى البخل ، وأنه لا خير من ورائه قط ، ففى الحديث الشريف الذى رواه الإمام مسلم فى صحيحه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " .
ثم بين - سبحانه - المصير المؤلم لأولئك البخلاء فقلا - تعالى - { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } .
وقوله { سَيُطَوَّقُونَ } مشتق من الطوق ، وهو ما يلبس من أسفل الرقبة . أى تجعل أموالهم أطواقا حول رقابهم ، وأغلالا حول أجسادهم ، فيعذبون عذابا أليما بحملها .
وجمهور المفسرين على أن الكلام على ظاهره ، وأن عذاب هؤلاء البخلاء بنعم الله ، سيكون نوعا من العذاب الأخروى المحسوس . وقد أيد القرطبى هذا الاتجاه فقال :
" وهذه الآية نزلت فى البخل بالمال والإنفاق فى سبيل الله وأداء الزكاة المفروضة ، ذهب إلى هذا جماعة من المتأولين ، منهم : ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل .
قالوا : ومعنى { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } هو الذى ورد لى الحديث عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - أى شدقيه - ثم يقول له . أنا مالك أنا كنزك . ثم تلا هذه الآية : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } .
ويرى بعض العلماء أن هذا الوعيد على سبيل التمثيل ، وأن الظاهر غير مراد ومعنى قوله { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ } عند هذا البعض : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم ، فلا يأتون لأنهم ليس فى قدرتهم ذلك .
و المعنى : سيلزمون وبال ما بخلوا به لزوم الطوق ، ويتحملون وزر ذلك يوم القيامة .
فالآية الكريمة تدعو المؤمنين إلى الجود والسخاء من أجل إعلاء كلمة الله ، وتتوعد البخلاء باقسى ألوان الوعيد وأفطعها . وتبين أن كل ما فى هذا الكون إنما هو ملك لله - تعالى - وحده ، فهو المعطى وهو المانع ، ولذا قال - تعالى - : { وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
والميراث : مصدر كالميعاد . وأصله موارث فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها . والمراد به ما يتوارث .
والمعنى : أن لله - تعالى - وحده لا لأحد غيره ما فى السموات والأرض مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره ، فما بال هؤلاء القوم يبخلون عليه بما يملكه ، ولا ينفقونه فى سبيله . وعلى هذا يكون الكلام جار على حقيقته ولا مجاز فيه .
ويصح أن يكون المعنى : أن الله - تعالى - يرث من هؤلاء ما فى أيديهم مما بخلوا به من مال وغيره وينتقل منهم إليه حين يميتهم ويفنيهم ، وتبقى الحسرة والندامة عليهم . وعلى هذا يكون الكلام على سبيل المجاز .
قال الزجاج : أى أن الله - تعالى - يفنى أهلهما . فيفنيان بما فيهما ، فليس لأحد فيهما ملك . فخوطبوا بما يعلمون ، لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثا ، ملكا له " .
وقوله { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } تذييل قصد به حضهم على الإنفاق ، ونهيهم عن البخل ، أى أن الله - تعالى - خبير ومطلع على ما يصدر عنكم من سخاء أو بخل أو غيرهما ، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا الحسنى .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ساقت ألوانا من التسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ولأتباعه ، وبشرتهم بأن العاقبة ستكون لهم ، وفضحت المنافقين وهتكت ما تستروا به من ريا وخداع ، وبينت أن من سنن الله فى خلقه أن يبتلى عباده بشتى ألوان البلاء ليتميز الخبيث من الطيب ، وأنه - سبحانه - يلمى للكافرين ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وأن البخلاء بما آتاهم الله من فضله ستكون عاقبتهم شرا ، ومصيرهم إلى العذاب الأليم .
( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض ، والله بما تعملون خبير . لقد سمع الله قول الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ، ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم ، وأن الله ليس بظلام للعبيد . الذين قالوا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قل : قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم ، فلم قتلتموهم ، إن كنتم صادقين ؟ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير )
لم ترد في الآية الأولى من هذه المجموعة رواية مؤكدة ، عم تعنيهم ، ومن تحذرهم البخل ، وعاقبة يوم القيامة . . ولكن ورودها في هذا السياق يرجح أنها متصلة بما بعدها من الآيات ، في شأن اليهود . فهم - قبحهم الله - الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء . وهم الذين قالوا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار .
والظاهر أن الآيات في عمومها نزلت بمناسبة دعوة اليهود إلى الوفاء بالتزاماتهم المالية الناشئة عن معاهدتهم مع الرسول [ ص ] ودعوتهم كذلك إلى الإيمان بالرسول [ ص ] والإنفاق في سبيل الله .
وقد نزل هذا التحذير التهديدي ، مع فضح تعلات اليهود في عدم الإيمان بمحمد [ ص ] ردا على ما بدا من سوء أدبهم مع ربهم ، ومن كذب تعلاتهم ؛ ونزلت معه المواساة للرسول [ ص ] عن تكذيبهم ، بما وقع للرسل قبله مع أقوامهم . ومنهم أنبياء بني إسرائيل ، الذي قتلوهم بعد ما جاءوهم بالبينات والخوارق كما هو معروف في تاريخ بني إسرائيل :
( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض . والله بما تعملون خبير )
إن مدلول الآية عام . فهو يشمل اليهود الذين بخلوا بالوفاء بتعهداتهم ، كما يشمل غيرهم ممن يبخلون بما آتاهم الله من فضله ؛ ويحسبون أن هذا البخل خير لهم ، يحفظ لهم أموالهم ، فلا تذهب بالإنفاق .
والنص القرآني ينهاهم عن هذا الحسبان الكاذب ؛ ويقرر أن ما كنزوه سيطوقونه يوم القيامة نارا . . وهو تهديد مفزع . . والتعبير يزيد هذا البخل شناعة حين يذكر أنهم ( يبخلون بما آتاهم الله من فضله ) . . فهم لا يبخلون بمال أصيل لهم . فقد جاءوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئا . . ولا جلودهم . . ! فآتاهم الله من فضله فأغناهم . حتى إذا طلب إليهم أن ينفقوا " من فضله " شيئا لم يذكروا فضل الله عليهم . وبخلوا بالقليل ، وحسبوا أن في كنزه خيرا لهم . وهو شر فظيع . وهم - بعد هذا كله - ذاهبون وتاركوه وراءهم . فالله هو الوارث : ( ولله ميراث السماوات والأرض ) . . فهذا الكنز إلى أمد قصير . ثم يعود كله إلى الله . ولا يبقى لهم منه إلا القدر الذي أنفقوه ابتغاء مرضاته فيبقى مدخرا لهم عنده ، بدلا من أن يطوقهم إياه يوم القيامة !
{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ }
القراءات في قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين يبخلون } كالتي تقدمت آنفاً في قوله { ولا يحسبن الذين كفروا } سواء ، وقال السدي وجماعة من المتأولين : الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله وأداء الزكاة المفروضة ونحو ذلك ، قالوا : ومعنى : { سيطوقون بما بخلوا } هو الذي ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله عن فضل ما عنده فيبخل به عليه إلا خرج له يوم القيامة شجاع أقرع من الناس يتلمظ حتى يطوقه{[3742]} . والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز المال كثيرة صحيحة{[3743]} . وقال ابن عباس : الآية إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال ذلك مجاهد وجماعة من أهل التفسير ، وقوله تعالى { سيطوقون } على هذا التأويل معناه سيحملون عقاب ما بخلوا به ، فهو من الطاقة كما قال تعالى : { وعلى الذين يطيقونه }{[3744]} وليس من التطويق ، وقال إبراهيم النخعي : { سيطوقون } سيجعل لهم يوم القيامة طوق من نار ، وهذا يجري مع التأويل الأول الذي ذكرته للسدي وغيره ، وقال مجاهد : سيكلفون بأن يأتوا بمثل ما بخلوا به يوم القيامة ، وهذا يضرب مع قوله : إن البخل هو بالعلم الذي تفضل الله عليهم بأن علمهم إياه وإعراب قوله تعالى : { الذين يبخلون } رفع في قراءة من قرأ «يحسبن » بالياء من أسفل والمفعول الأول مقدر بالصلة تقديره «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم من فضله بخلهم هو خيراً » ، والمفعول الثاني خيراً ، وهو فاصلة وهي العماد عند الكوفيين ، ودل قوله : { يبخلون } على هذا البخل المقدر كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر : [ الوافر ]
إذا نُهِيَ السَّفيهُ جَرى إليهِ . . . وَخَالَفَ ، وَالسَّفيهُ إلى خلافِ{[3745]}
فالمعنى جرى إلى السفه{[3746]} ، وأما من قرأ «تحسبن » بالتاء من فوق ففي الكلام حذف مضاف هو المفعول الأول ، تقديره ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيراً لهم ، قال الزّجاج ، وهي مثل { واسأل القرية }{[3747]} وقوله تعالى : { ولله ميراث السماوات } خطاب على ما يفعله البشر دال على فناء الجميع وأنه لا يبقى مالك إلا الله تعالى وإن كان ملكه تعالى على كل شيء لم يزل ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «والله بما يعملون » بالياء من أسفل على ذكر الذين يبخلون ويطوقون ، وقرأ الباقون بالتاء من فوق ، وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة لأنه قد تقدم