{ قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
وليست هذه الإِعادة من قبيل التكرار الذي يقصد منه مجرد التوكيد ، بل قص الأمر بالهبوط أولا ليعلق عليه معنى ؛ هو كون بعضهم لبعض عدواً .
ثم قصه ثانية ليعلق عليه معنى آخر هو ما ترتب على الهبوط من تفصيل لحال المخاطبين ، وانقسامهم إلى مهتدين وضالين .
والفاء في قوله { فَإِمَّا } لإِفادة ترتيب انقسام المخاطبين إلى مهتدين وكافرين على الهبوط المفهوم من قوله : { اهبطوا } .
و { إِمَّا } هي إن الشرطية دخلت عليها " ما " لإفادة التوكيد ، ويغلب على فعل شرطها أن يكون مؤكداً بالنون وأوجب بعضهم ذلك .
والهدى من الله معناه الدلالة على ما هو حق وخير بلسان رسول ، أو بآيات كتاب .
وقد صرح - سبحانه - بأن الهدى صادر منه بقوله : { مِّنِّي هُدًى } ثم أضافه إلى نفسه بقوله : { هُدَايَ } للإِيذان بتعظيم أمر الهدى ؛ وأنه أحق بأن يتبع ، ويتخذ سبيلا لطمأنينة النفس في الدنيا ، والفوز بالسعادة في الأخرى .
والخوف : الفزع وهو تألم النفس من مكروه يتوقع حصوله .
والحزن : الغم الحاصل لوقوع مكروه أو فقد محبوب .
ومعنى { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أن نفوسهم آمنة مطمئنة بحيث لا يعتريها فزع ، ولا ينتابها ذعر كما أن قوله : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ينفى عنهم الاغتمام لفوات مطلوب أو فقد محبوب .
ونفي الخوف والحزن ورد في الآية على وجه الإِطلاق ، وظاهره أن المهتدين لا يعتريهم الخوف ولا الحزن في دنياهم ولا في آخرتهم ، ولكن قوله - تعالى - فيما يقابله من جزاء الكافرين { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يرجح أن يكون المراد نفي الخوف والحزن في الدار الآخرة .
ونفى الخوف والحزن عن المهتدين يوم القيامة كناية عن سلامتهم من العذاب وفوزهم بالنعيم الخالد في الجنة .
{ قلنا اهبطوا منها جميعا } كرر للتأكيد ، أو لاختلاف المقصود فإن الأول دل على أن هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون ، والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف ، فمن اهتدى الهدى نجا ومن ضله هلك ، والتنبيه على أن مخافة الإهباط المقترن بأحد هذين الأمرين وحدها كافية للحازم أن تعوقه عن مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى ، فكيف بالمقترن بهما ، ولكنه نسي ولم نجد له عزما ، وأن كل واحد منهما كفى به نكالا لمن أراد أن يذكر . وقيل الأول من الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني منها إلى الأرض وهو كما ترى . و{ جميعا } حال في اللفظ تأكيد في المعنى كأنه قيل : اهبطوا أنتم أجمعون ، ولذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد كقولك : جاؤوا جميعا { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } الشرط الثاني مع جوابه جواب الشرط الأول ، وما مزيدة أكدت به إن ولذلك حسن تأكيد الفعل بالنون وإن لم يكن فيه معنى الطلب ، والمعنى : إن يأتينكم مني هدى بإنزال أو إرسال ، فمن تبعه منكم نجا وفاز ، وإنما جيء بحرف الشك ، وإتيان الهدى كائن لا محالة لأنه محتمل في نفسه غير واجب عقلا ، وكرر لفظ الهدى ولم يضمر لأنه أراد بالثاني أعم من الأول ، وهو ما أتى به الرسل واقتضاه العقل ، أي : فمن تبع ما أتاه مراعيا فيه ما يشهد به العقل فلا خوف عليهم فضلا عن أن يحل بهم مكروه ، ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه ، فالخوف على المتوقع والحزن على الواقع نفى عنهم العقاب وأثبت لهم الثواب على آكد وجه وأبلغه . وقرئ هدى على لغة هذيل ولا خوف بالفتح .
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 38 )
وكرر الأمر بالهبوط لما علق بكل أمر منهما حكماً غير حكم الآخر ، فعلق بالأول العداوة ، وعلق بالثاني إتيان الهدى . وقيل : كرر الأمر بالهبوط على جهة تغليظ الأمر وتأكيده ، كما تقول لرجل قم قم .
وحكى النقاش : أن الهبوط الثاني إنما هو من الجنة إلى السماء ، والأول في ترتيب الآية إنما هو إلى الأرض ، وهو الآخر في الوقوع ، فليس في الأمر تكرار على هذا ، و { جميعاً } حال من الضمير في { اهبطوا } ، وليس بمصدر ولا اسم فاعل ، ولكنه عوض منهما دال عليهما ، كأنه قال هبوطاً جميعاً ، أو هابطين جميعاً( {[516]} ) ، واختلف في المقصود بهذا الخطاب ، فقيل آدم وحواء وإبليس وذريتهم ، وقيل ظاهره العموم ومعناه الخصوص في آدم وحواء( {[517]} ) ، لأن إبليس لا يأتيه هدى ، وخوطبا بلفظ الجمع تشريفاً لهما ، والأول أصح لأن إبليس مخاطب بالإيمان بإجماع ، و «إنْ » في قوله { فإمّا } هي للشرط دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة ، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لتجيء النون( {[518]} ) ، وفي قوله تعالى : { مني } إشارة إلى أن أفعال العباد خلق لله تعالى . واختلف في معنى قوله { هدى } ، فقيل : بيان وإرشاد .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والصواب أن يقال : بيان ودعاء( {[519]} ) .
وقالت فرقة : الهدى الرسل ، وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر : هو فمن بعده .
وقوله تعالى : { فمن تبع هداي } شرط جوابه فلا خوف عليهم .
قال سيبويه ، الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول في قوله : { فإما يأتينكم } .
وحكي عن الكسائي أن قوله : { فلا خوف عليهم }( {[520]} ) جواب الشرطين جميعاً .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : حكي هذا وفيه نظر ، ولا يتوجه أن يخالف سيبويه هنا ، وإنما الخلاف في نحو قوله تعالى : { فأما إن كان من المقربين فروح وريحان }( {[521]} ) [ الواقعة : 89 ] . فيقول سيبويه : «جواب أحد الشرطين محذوف لدلالة قوله : ( فروح ) عليه » ويقول الكوفيون : «فروح جواب الشرطين » .
قال القاضي أبو محمد : وأما في هذه الآية فالمعنى يمنع أن يكون { فلا خوف } جَواباً للشرطين .
وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق : { هدى } وهي لغة هذيل .
قال أبو ذؤيب يرثي بنيه : [ الكامل ] .
سبقوا هويَّ وأعنقوا لهواهُم . . . فتخرموا ، ولكل جنبٍ مصرع( {[522]} )
وكذلك يقولون عصى وما أشبهه ، وعلة هذه اللغة أن ياء الإضافة من شأنها أن يكسر ما قبلها ، فلما لم يصح في هذا الوزن كسر الألف الساكنة أبدلت ياء وأدغمت .
وقرأ الزهري ويعقوب وعيسى الثقفي : «فلا خوفَ عليهم » نصب بالتبرية( {[523]} ) ووجهه أنه أعم وأبلغ في رفع الخوف ، ووجه الرفع أنه أعدل في اللفظ لينعطف المرفوع من قولهم { يحزنون } على مرفوع ، «ولا » في قراءة الرفع عاملة عمل ليس .
وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه «فلا خوفُ » بالرفع وترك التنوين وهي على أن تعمل «لا » عمل ليس ، لكنه حذف التنوين تخفيفاً لكثرة الاستعمال ، ويحتمل قوله تعالى : { لا خوف عليهم } أي فيما بين أيديهم من الدنيا ، { ولا هم يحزنون } على ما فاتهم منها ، ويحتمل أن { لا خوف عليهم } يوم القيامة ، { ولا هم يحزنون } فيه ، ويحتمل أن يريد أنه يدخلهم الجنة حيث لا خوف ولا حزن .