التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

وبعد أن بين سبحانه للناس أنه قد من عليهم بنعمة خلقه ما في الأرض جميعاً ، بدأ بعد ذلك يذكرهم بنعمة أخرى هي نعمة خلقه لأبيهم آدم ، وخلق آدم مبدأ لخلق ذريته ، وتكريمه موصول بتكريمهم فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ . . . }

في هذه الآيات الكريمة عطف - سبحانه - قصة خلق آدم أبي البشر على قصة خلق الأنفس وخلق السماوات والأرض انتقالا في الاستدلال على أن الله واحد ، وجمعاً بين تعدد الأدلة وبين مختلف الحوادث وأصلها ، حتى يكون التدليل أجمع ، والإِيمان بالله أقوى وأثبت .

وإذ وإذا ظرفان للزمان ، الأول للماضي والثاني للمستقبل ، فإن جاء إذ مع المضارع أفاد الماضي كقوله : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ . . . } وإن جاء إذا مع الماضي أفاد الاستقبال كقوله : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } وإذ هنا واقعة موقع المفعول به لعامل مقدر دل عليه المقام . والمعنى : واذكر يا محمد وقت أن قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة . وقد جاء هذا المقدر هنا مصرحاً به في آيات أخرى كما قال تعالى :

{ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } والملائكة جمع ملك . والتاء لتأنيث الجمع ، وأصله ملأك ، من ملك ، نحو شمال من شمل ، والهمزة زائدة وهو مقلوب مالك ، وقيل : إن ملاك من لأك إذا أرسل ، ومنه الألوكة ، أي : الرسالة .

والملائكة ، هم جند من خلق الله ، ركز الله فيهم العقل والفهم ، وفطرهم على الطاعة ، وأقدرهم على التشكيل بأشكال مختلفة ، وعلى الأعمال العظيمة الشاقة ، ووصفهم في القرآن بأوصاف كثيرة منها أنهم { يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ومنها : أنهم رسل الله أرسلهم بأمره " ومنهم رسل الوحي إلى من اصطفاهم من خلقه للنبوة والرسالة . قال تعالى : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } وقال تعالى : { الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس } وقال-تعالى - { يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } و ( الخليفة ) من يخلف غيره وينوب منابه ، فهو فعيل بمعنى فاعل ، والتاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم - عليه السلام - لأنه كان خليفة من الله في الأرض ، وكذلك سائر الأنبياء استخلفهم الله - تعالى - في عمارة الأرض ، وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وإجراء أحكامه عليهم ، وتنفيذ أوامره فيهم . وقيل : آدم وذريته ، لأنه يخلف بعضهم بعضاً في عمارة الأرض ، واستغنى بذكره عن ذكر ذريته لكونه الأصل . وخطاب الله لملائكته بأنه سيجعل في الأرض خليفة ، ليس المقصود منه المشورة ، وإنما خاطبهم بذلك من أجل ما ترتب عليه من سؤالهم عن وجه الحكمة من هذه الخلافة ، وما أجيبوا به من بعد ، أو من أجل تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو - سبحانه - بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة . أو الحكمة تعظيم شأن المجهول ، وإظهار فضله ، بأن بشر بوجود سكان ملكوته ، ونوه بعظيم شأن المجعول بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ، ولقبه بالخليفة .

ثم حكى - سبحانه - إجابة الملائكة فقال : { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .

الفساد : الخروج عن الاعتدال والاستقامة ويضاده الصلاح . يقال فسد الشيء فساداً وفسوداً وأفسده غيره .

والسفك : الصب والإِهراق ، يقال : سفكت الدم والدمع سفكاً - من باب ضرب - صببته . والفاعل سافك وسفاك ، والمراد به حصول التقاتل بين أفراد بني الإِنسان ظلماً وعدواناً .

والتسبيح : مشتق من السبح وهو المر السريع في الماء أو في الهواء ، فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء .

والتقديس : التطهير والتعظيم ووصفه بما يليق به من صفات الكمال .

فيكون التسبيح نفى ما لا يليق ، والتقديس إثبات ما يليق ، وقدم التسبيح على التقديس من باب تقديم التخلية على التحلية . والمعنى : أتجعل في الأرض يا إلهنا من يفسد فيها ويريق الدماء والحال أننا نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ، تنزيهاً متلبساً بحمدك والثناء عليك ، ونطهر ذكرك عما لا يليق بك تعظيماً لك وتمجيداً .

وقولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا . . . إلخ } إنما صدر منهم على وجه استطلاع الحكمة في خلق نوع من الكائنات يصدر منه الإِفساد في الأرض وسفك الدماء . وقطعهم بحكمة الله في كل ما يفعل لا ينافي تعجبهم من بعض أفعاله ، لأن التعجب يصدر عن خفاء سبب الفعل ، فمن تعجب من فعل شيء وأحب الاطلاع على الحكمة الباعثة على فعله لا يعد منكرا . والملائكة لا يعلمون الغيب ، فلابد أن يكونوا قد علموا ماذا سيكون من الفساد في الأرض وسفك الدماء بوجه من الوجوه التي يطلع الله بها على غيبه بعض المصطفين الأخبار من خلقه . قال الإِمام ابن كثير في توضيح هذا المعنى : قوله - تعالى - { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية ، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمأ مسنون ، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم . ويردعهم عن المحارم والمآثم . . وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه البعض . . وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، ولا يصدر منا شيء من ذلك فهلا وقع الاقتصار علينا ؟

وقد رد الله - تعالى - على الملائكة بقوله : { قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .

أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ، فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والمحبون له - تعالى - المتعبون رسله .

فالجملة الكريمة إرشاد لهم إلى الأمر الذي من شأنه أن يقف بهم عند حدود الأدب اللائق بمقام الخالق - عز وجل - وتنبيه إلى أنه - تعالى - عالم بما لا يحيط به علم أحد من خلقه ، فله أن يفعل ما يشاء ويأمر بما يشاء ، وليس من أدب المؤمنين بأنه العليم الحكيم أن يسألوه حين يأمرهم بشيء ، أو يعلمهم بأنه سيفعل شيئاً ، عن حكمة ما أمر به أو ما سيفعله ، بل شأنهم أن يتجهوا إلى استطلاع حكمة الأفعال والأوامر من أنفسهم ، فإذا أدركوها فقد ظفروا بأمنيتهم ، وإن وقفت عقولهم دونها ، ففي تسليمهم لقدر الله ، وامتثالهم لأوامره الكفاية في القيام بحق التكليف والفوز برضا الله ، الذي هو الغاية من الإِيمان به والإِقبال على طاعته .

قال بعض العلماء : " وفي هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب بعض الناس له ، لأنه إذا كان الملأ الأعلى قد مثلو على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين - وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين ، أي : فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

30

فلننظر الآن في قصة آدم - كما جاءت هنا - في ضوء هذه الإيضاحات . .

إن السياق - فيما سبق - يستعرض موكب الحياة ، بل موكب الوجود كله . ثم يتحدث عن الأرض - في معرض آلاء الله على الناس - فيقرر أن الله خلق كل ما فيها لهم . . فهنا في هذا الجو تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض ، ومنحه مقاليدها ، على عهد من الله وشرط ، وإعطائه المعرفة التي يعالج بها هذه الخلافة . كما أنها تمهد للحديث عن استخلاف بني إسرائيل في الأرض بعهد من الله ؛ ثم عزلهم عن هذه الخلافة وتسليم مقاليدها للأمة المسلمة الوافية بعهد الله [ كما سيجيء ] فتتسق القصة مع الجو الذي تساق فيه كل الاتساق .

فلنعش لحظات مع قصة البشرية الأولى وما وراءها من إيحاءات أصيلة :

ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - في ساحة الملأ الأعلى ؛ وها نحن أولاء نسمع ونرى قصة البشرية الأولى :

( وإذ قال ربك للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ) . .

وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود ، زمام هذه الأرض ، وتطلق فيها يده ، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين ، والتحليل والتركيب ، والتحوير والتبديل ؛ وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ، وتسخير هذا كله - بإذن الله - في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه .

وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة ، والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ؛ ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية

وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الأرض - وتحكم الكون كله - والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته ، كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك ؛ وكي لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة !

وإذن فهي منزلة عظيمة ، منزلة هذا الإنسان ، في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة . وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم .

هذا كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) . . حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة ، ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض !

( قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ ) . .

ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال ، أو من تجارب سابقة في الأرض ، أو من إلهام البصيرة ، ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق ، أو من مقتضيات حياته على الأرض ؛ وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض ، وأنه سيسفك الدماء . . ثم هم - بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق ، وإلا السلام الشامل - يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له ، هو وحده الغاية المطلقة للوجود ، وهو وحده العلة الأولى للخلق . . وهو متحقق بوجودهم هم ، يسبحون بحمد الله ويقدسون له ، ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته !

لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا ، في بناء هذه الأرض وعمارتها ، وفي تنمية الحياة وتنويعها ، وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها ، على يد خليفة الله في أرضه . هذا الذي قد يفسد أحيانا ، وقد يسفك الدماء أحيانا ، ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل . خير النمو الدائم ، والرقي الدائم . خير الحركة الهادمة البانية . خير المحاولة التي لا تكف ، والتطلع الذي لا يقف ، والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير .

عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء ، والخبير بمصائر الأمور :

( قال : إني أعلم ما لا تعلمون ) . .

/خ39

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

{ وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } تعداد لنعمة ثالثة تعم الناس كلهم ، فإن خلق آدم وإكرامه وتفضيله على ملائكته بأن أمرهم بالسجود له ، إنعام يعم ذريته . وإذا ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه أخرى ، كما وضع إذ الزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى ، ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل كحيث في المكان ، وبنيتا تشبيها لهما بالموصولات ، واستعملتا للتعليل والمجازاة ، ومحلهما النصب أبدا بالظرفية فإنهما من الظروف الغير المتصرفة لما ذكرناه ، وأما قوله تعالى : { واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف } ونحوه ، فعلى تأويل : اذكر الحادث إذا كان كذا فحذف الحادث وأقيم الظرف مقامه ، وعامله في الآية قالوا ، أو اذكر على التأويل المذكور لأنه جاء معمولا له صريحا في القرآن كثيرا ، أو مضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة ، مثل وبدأ خلقكم إذ قال ، وعلى هذا فالجملة معطوفة على خلق لكم داخلة في حكم الصلة . وعن معمر أنه مزيد . والملائكة جمع ملأك على الأصل كالشمائل جمع شمأل ، والتاء لتأنيث الجمع ، وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي : الرسالة ، لأنهم وسائط بين الله تعالى ، وبين الناس ، فهم رسل الله . أو كالرسل إليهم . واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها . فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ، مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك . وقالت طائفة من النصارى : هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان . وزعم الحكماء أنهم جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، منقسمة إلى قسمين : قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق جل جلاله والتنزه عن الاشتغال بغيره ، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } وهم العليون والملائكة المقربون . وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } وهم المدبرات أمرا ، فمنهم سماوية ، ومنهم أرضية ، على تفصيل أثبته في كتاب الطوالع .

والمقول لهم : الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص ، وقيل ملائكة الأرض ، وقيل إبليس ومن كان معه في محاربة الجن ، فإنه تعالى أسكنهم في الأرض أولا فأفسدوا فيها ، فبعث إليهم إبليس في جند من الملائكة فدمرهم وفرقهم في الجزائر والجبال . وجاعل : من جعل الذي له مفعولان وهما في { الأرض خليفة } أعمل فيهما ، لأنه بمعنى المستقبل ومعتمد على مسند إليه . ويجوز أن يكون بمعنى خالق . والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه ، والهاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان خليفة الله في أرضه ، وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم ، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه ، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه ، وتلقي أمره بغير وسط ، ولذلك لم يستنبئ ملكا كما قال الله تعالى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } ألا ترى أن الأنبياء لما فاقت قوتهم ، واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار أرسل إليهم الملائكة ومن كان منهم أعلى رتبة كلمه بلا واسطة ، كما كلم موسى عليه السلام في الميقات ، ومحمدا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، ونظير ذلك في الطبيعة أن العظم لما عجز عن قبول الغذاء من اللحم لما بينهما من التباعد ، جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ليأخذ من هذا ويعطي ذلك . أو خليفة من سكن الأرض قبله ، أو هو وذريته لأنهم يخلفون من قبلهم ، أو يخلف بعضهم بعضا . وإفراد اللفظ : إما للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه كما استغني بذكر أبي القبيلة في قولهم : مضر وهاشم . أو على تأويل من يخلفكم ، أو خلفا يخلفكم . وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة ، تعليم المشاورة ، وتعظيم شأن المجعول ، بأن بشر عز وجل بوجود سكان ملكوته ، ولقبه بالخليفة قبل خلقه ، وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم ، وجوابه وبيان أن الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره ، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير إلى غير ذلك .

{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها ، أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية ، واستكشاف عما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها ، واستخبار عما يرشدهم ويزيح شبهتهم كسؤال المتعلم معلمه عما يختلج في صدره ، وليس باعتراض على الله تعالى جلت قدرته ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة ، فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى : { بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى ، أو تلق من اللوح ، أو استنباط عما ركز في عقولهم أن العصمة من خواصهم ، أو قياس لأحد الثقلين على الآخر . والسفك والسبك والسفح والشن أنواع من الصب ، فالسفك يقال في الدم والدمع ، والسبك في الجواهر المذابة ، والسفح في الصب من أعلى ، والشن في الصب من فم القربة ونحوها ، وكذلك السن ، وقرئ { يسفك } على البناء للمفعول ، فيكون الراجع إلى { من } ، سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوفا ، أي : يسفك الدماء فيهم .

ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } حال مقررة لجهة الإشكال كقولك أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج القديم . والمعنى : أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك ، والمقصود منه ، الاستفسار عما رجحهم ومع ما هو متوقع منهم ، على الملائكة المعصومين في الاستخلاف ، لا العجب والتفاخر . وكأنهم علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره : شهوية وغضبية تؤديان به إلى الفساد وسفك الدماء ، وعقلية تدعوه إلى المعرفة والطاعة . ونظروا إليها مفردة وقالوا ما الحكمة في استخلافه ، وهو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلا عن استخلافه ، وأما باعتبار القوة العقلية فنحن نقيم ما يتوقع منها سليما عن معارضة تلك المفاسد . وغفلوا عن فضيلة كل واحدة من القوتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل ، متمرنة على الخير كالعفة والشجاعة ومجاهدة الهوى والإنصاف . ولم يعلموا أن التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد ، كالإحاطة بالجزئيات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل الذي هو المقصود من الاستخلاف ، وإليه أشار تعالى إجمالا بقوله :

{ قال إني أعلم ما لا تعلمون } والتسبيح تبعيد الله تعالى عن السوء وكذلك التقديس ، من سبح في الأرض والماء ، وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد ، ويقال قدس إذا طهر لأن مطهر الشيء مبعد له عن الأقذار . و{ بحمدك } في موضع الحال ، أي متلبسين بحمدك على ما ألهمتنا معرفتك ووفقتنا لتسبيحك ، تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم ونقدس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك ، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح ، وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهير النفوس عن الآثام وقيل : نقدسك واللام مزيدة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( 30 )

قال معمر بن المثنى : «إذ زائدة ، والتقدير وقال ربك » .

قال أبو إسحاق الزجاج : «هذا اجتراء من أبي عبيدة » .

قال القاضي أبو محمد : وكذلك رد عليه جميع المفسرين( {[406]} ) .

وقال الجمهور : ليست بزائدة وإنما هي معلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال( {[407]} ) ، وأيضاً فقوله : { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } الآية ، يقتضي أن يكون التقدير وابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة ، وإضافة رب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومخاطبته بالكاف تشريف منه له ، وإظهار لاختصاصه به ، والملائكة واحدها ملك أصله ملاك على وزن مفعل من لاك إذا أرسل ، وجمعه ملائكة على وزن مفاعلة .

وقال قوم : أصل ملك مألك ، من ألك إذا أرسل ، ومنه قول عدي بن زيد : [ الرمل ]

أبلغ النعمان عني مألكا . . . أنه قد طال حبسي وانتظاري

واللغتان مسموعتان لأك وألك ، قلبت فيه( {[408]} ) الهمزة بعد اللام فجاء وزنه معفل ، وجمعه ملائكة ، وزنه معافلة .

وقال ابن كيسان( {[409]} ) : «هو من ملك يملك ، والهمزة فيه زائدة كما زيدت في شمأل من شمل ، فوزنه فعأل ، ووزن جمعه فعائلة » وقد يأتي في الشعر على أصله كما قال : [ الطويل ]

فلستِ لأنسيٍّ ولكنْ لمَلأكٍ . . . تَنَزَّلَ مَن جَوِّ السماءِ يصُوبُ

وأما في الكلام فسهلت الهمزة( {[410]} ) وألقيت حركتها على اللام أو على العين في قول ابن كيسان فقيل ملك ، والهاء في ملائكة لتأنيث الجموع( {[411]} ) غير حقيقي ، وقيل هي للمبالغة كعلامة ونسابة ، والأول أبين .

وقال أبو عبيدة : «الهمزة في ملائكة مجتلبة( {[412]} ) لأن واحدها ملك » .

قال القاضي أبو محمد بن عبد الحق رضي الله عنه : فهذا الذي نحا إليه ابن كيسان .

و { جاعل } في هذه الآية بمعنى خالق ، ذكره الطبري عن أبي روق( {[413]} ) ، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد .

وقال الحسن وقتادة : «جاعل بمعنى فاعل » .

وقال ابن سابط( {[414]} ) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الأرض هنا يعني بها مكة لأن الأرض دحيت من تحتها ، ولأنها مقرٌّ من هلك قومه من الأنبياء ، وإن قبر نوح وصالح بين المقام والركن » .

و { خليفة } معناه من يخلف .

قال ابن عباس : «كانت الجن قبل بني آدم في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله إليهم قبيلاً من الملائكة قتلهم وألحق فلَّهم بجزائر البحار ورؤوس الجبال ، وجعل آدم وذريته خليفة »( {[415]} ) .

وقال الحسن : «إنما سمى الله بني آدم خليفة لأن كل قرن منهم يخلف الذي قبله ، الجيل بعد الجيل » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ففي هذا القول ، يحتمل أن تكون بمعنى خالفة وبمعنى مخلوفة . ( {[416]} )

وقال ابن مسعود : «إنما معناه خليفة مني في الحكم بين عبادي بالحق وبأوامري » يعني ذلك آدم عليه السلام ومن قام مقامه بعده من ذريته .

وقرأ زيد بن علي «خليقة » بالقاف .

وقوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها } الآية ، وقد علمنا قطعاً أن الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول ، وذلك عام في جميع الملائكة ، لأن قوله : «لا يسبقونه بالقول » خرج على جهة المدح لهم( {[417]} ) .

قال القاضي أبو بكر بن الطيب : «فهذه العموم ، فلا يصح مع هذين الشرطين إلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة في الأرض نبأ ومقدمة » .

قال ابن زيد وغيره : إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون ويسفكون الدماء ، فقالوا لذلك هذه المقالة .

قال القاضي أبو محمد : فهذا إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه ، أو من عصيان من يستخلفه الله في أرضه وينعم عليه بذلك ، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعاً ، الاستخلاف ، والعصيان . ( {[418]} )

وقال أحمد بن يحيى ثعلب وغيره : إنما كانت الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء في الأرض فجاء قولهم { أتجعل فيها } الأية ، على جهة الاستفهام المحض ، هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا ؟

وقال آخرون : كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في الأرض خلقاً يفسدون ويسفكون الدماء ، فلما قال لهم بعد ذلك : { إني جاعل } { قالوا أتجعل فيها } الآية ، على جهة الاسترشاد والاستعلام هل هذا الخليفة هو الذي كان أعلمهم به قبل أو غيره ؟

والسفك صب الدم ، هذا عرفه ، ، وقد يقال سفك كلامه في كذا إذا سرده .

وقرأءة الجمهور بكسر الفاء ( {[419]} ) .

وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة : «ويسفكُ » بضم الفاء .

وقرأ ابن هرمز «ويسفك » بالنصب بواو الصرف ( {[420]} ) كأنه قال : من يجمع أن يفسد وأن يفسك .

وقال المهدوي : هو نصب في جواب الاستفهام .

قال القاضي أبو محمد والأول أحسن . ( {[421]} )

وقولهم : { ونحن نسبح بحمدك } قال بعض المتأولين : هو على جهة الاستفهام ، كأنهم أرادوا { ونحن نسبح بحمدك } الآية ، أن نتغير عن هذه الحال .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحض في قولهم : { أتجعل } ؟ .

وقال آخرون : معناه التمدح ووصف حالهم( {[422]} ) ، وذلك جائز لهم كما قال يوسف عليه السلام : { إني حفيظ عليم } [ يوسف : 55 ] .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يحسن مع التعجب الاستعظام لأن يستخلف الله من يعصيه في قولهم { أتجعل } وعلى هذا أدبهم بقوله تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون } .

وقال قوم : معنى الآية ونحن لو جعلتنا في الأرض واستخلفتنا نسبح بحمدك . وهذا أيضاً حسن مع التعجب والاستعظام في قولهم : { أتجعل } .

ومعنى { نسبح بحمدك } ننزهك عما لا يليق بك وبصفاتك .

وقال ابن عباس وابن مسعود : «تسبيح لملائكة صلاتهم لله » .

وقال قتادة : «تسبيح الملائكة قولهم سبحان الله على عرفه في اللغة .

و { بحمدك } معناه : نخلط التسبيح بالحمد ونصله به( {[423]} ) ، ويحتمل أن يكون قوله { بحمدك } اعتراضاً بين الكلامين ، كأنهم قالوا ونحن نسبح ونقدس ، ثم اعترضوا على جهة التسليم ، أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك .

{ ونقدس لك } قال الضحاك وغيره : معناه نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك ، والتقديس التطهير بلا خلاف ، ومنه الأرض المقدسة أي المطهرة ، ومنه بيت المقدس ، ومنه القدس( {[424]} ) الذي يتطهر به .

وقال آخرون : { ونقدس لك } معناه ونقدسك( {[425]} ) أي نعظمك ونطهر ذكرك عما لا يليق به . قاله مجاهد وأبو صالح وغيرهما .

وقال قوم : نقدس لك معناه نصلي لك .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف( {[426]} ) .

وقوله تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون } الأظهر أن { أعلم } فعل مستقبل ، و { ما } في موضع نصب به ، وقيل { أعلم } اسم ، و { ما } في موضع خفض بالإضافة ، ولا يصح الصرف فيه بإجماع من النحاة ، وإنما الخلاف في أفعل إذا سمي به وكان نكرة ، فسيبويه والخليل لا يصرفانه ، والأخفش يصرفه .

واختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى : { ما لا تعلمون } فقال ابن عباس : » كان إبليس- لعنه الله- قد أعجب ودخله الكبر لما جعله الله خازن السماء الدنيا وشرفه « . وقيل : بل لما بعثه الله إلى قتل الجن الذين كانوا أفسدوا في الأرض فهزمهم وقتلهم بجنده ، قاله ابن عباس أيضاً ، واعتقد( {[427]} ) أن ذلك لمزية له واستخف( {[428]} ) الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام .

قال : فلما قالت الملائكة { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك . قال الله لهم { إني أعلم ما لا تعلمون } يعني ما في نفس إبليس( {[429]} ) .

وقال قتادة : لما قالت الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها } وقد علم الله تعالى أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة ، قال لهم { إني أعلم ما لا تعلمون } يعني أفعال الفضلاء من بني آدم . ( {[430]} )


[406]:- قالوا: كان أبو عبيدة ضعيفا في الصناعة النحوية، وكان فيه جرأة.
[407]:- الأحسن أن تكون معلقة بقوله بعد: [قالوا اتجعل فيها] الآية- لأن (إذ) إذا وقعت ظرفا لا تكون إلا للزمان.
[408]:- أي قلبت الهمزة فيه بعد اللام قلبا مكانيا، والضمير في (فيه) لمألك.
[409]:- أبو الحسن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كيسان – أخذ عن المبرد وعن ثعلب، توفي(299)هـ- معجم الأدباء 37/137.
[410]:- أي لكثرة الاستعمال، والمراد بالكلام ما سوى الشعر.
[411]:- أي لتأكيد تأنيث الجمع.
[412]:- أي زائدة لا أصلية.
[413]:- بفتح الراء وسكون الواو، عطية بن الحارث الكوفي صاحب (التفسير) روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه.
[414]:- هو عبد الرحمن بن سابط –تابعي- قال الحافظ بن حجر: يقال: إن عبد الرحمن ابن سابط هذا هو ابن عبد الله بن سابط، وإن الصحبة والرواية لأبيه عبد الله بن سابط، وبذلك جزم البغوي.
[415]:- وعلى هذا فليس المراد بالخليفة آدم عليه الصلاة والسلام، بل هو وذريته، وعلى ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه: فالمراد آدمت، ومن يقوم مقامه في الحكم بين العباد بأوامر الله وأحكامه.
[416]:- أي يخلف من كان قبله من الملائكة أو الجن في الأرض على ما روي فهو خالف، وعلى أنها بمعنى مفعول فهو مخلف أي جعله الله خليفة، وجاء به بعد غيره كما قال: [هو الذي جعلكم خلائف في الأرض] والتاء في خليفة للمبالغة.
[417]:- يظهر من هذا القول الاعتراض، وبما أن الملائكة معصومون من المعصية والاعتراض على الله تأول العلماء الآية الكريمة كما بينه الإمام ابن عطية رحمه الله، ومن أظرف وأغرب ما قيل في تأويلها: أن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب مجملين، وكان إبليس مندرجا في جملتهم، فورد منهم الجواب مجملا، فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه واستكباره، انفصل الجواب إلى نوعين، فنوع: الاعتراض منه كان عن إبليس. وأنواع الطاعة والتسبيح والتقديس كان عن الملائكة، فانقسم الجواب إلى قسمين، كانقسام الجنس إلى جنسين، وناسب كل جواب من ظهر عنه. قال أبو (ح): وهذا تأويل حسن، وصار شبيها بقوله تعالى: [وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا] لأن الجملة كلها مقولة، والقائل نوعان: فرد كل قول لمن ناسبه والله أعلم. وترك الاعتراض على الكبراء والعظماء محمود سواء كان المعترض فيه مما يفهم أولا يفهم، والدليل على ذلك أمور- أحدها: ما جاء في القرآن الكريم، كقصة موسى مع الخضر، واشتراطه عليه ألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرا، فكان ما قصه الله من قوله: [هذا فراق بيني وبينك] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: [يرحم الله موسى لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما]- وما روي في الأخبار أن الملائكة لما قالوا: [أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء] الآية، فرد الله عليهم بقوله: [إني أعلم ما لا تعلمون] أرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم، وهذا مما يشم ولا يفرك، وجاء في أشد من هذا اعتراض إبليس بقوله: [أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين] فهو الذي كتب له به الشقاء إلى يوم الدين. والثاني: ما جاء في الأخبار كحديث: (تعالوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده). فاعترض في ذلك عمر رضي الله عنه حتى أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج ولم يكتب لهم شيئا. والثالث: ما عهد بالتجربة من أن الاعتراض على الأكابر- كما يزعم الصوفية- قاض بحرمان الفائدة، وفاصل بين الشيخ والتلميذ، فإنه عندهم الداء الأكبر كما يدعون. وقد قال الإمام مالك رحمه الله الأسد بن الفرات حين تابع سؤاله له: "هذه سليسلة بنت سليسلة إن أردت هذا فعليك بالعراق"، فهدده بحرمان الفائدة منه بسبب كثرة السؤال وتتابعه. وبالجملة فالسلامة في حسن الظن والاعتقاد، وترك النقد والاعتراض، وهذا في شأن أهل العلم والفضل القائمين على صراط الدين، وسنة سيد المرسلين.
[418]:- هذا والذي قبله متقاربان في المعنى.
[419]:- أي: في قوله تعالى (ويسفك).
[420]:- أي: واو المعية. ومعنى واو الصرف أن الفعل كان يستحق وجها من الإعراب غير النصب فيصرف بدخول الواو عليه عن ذلك الإعراب إلى النصب، كقوله تعالى [ويعلم الذين يجادلون] في قراءة من نصب، فقياسه الرفع ولكن صرفت الواو الفعل إلى النصب فسميت واو الصرف.
[421]:- يعني وتخريج المهدوي حسن. فالنصب بواو الصرف أحسن، والنصب بأن بعد الواو في جواب الاستفهام حسن، لأن المعنى على الجمع ولذلك تقدر الواو بمعنى مع. فإذا قلت: أتأتينا وتحدثنا، بالنصب، كان المعنى على الجمع بين الإتيان والحديث، وكذلك الآية، هذا ما عند ابن عطية رحمه الله، وناقشه أبو (ح) قائلا: "وكيف يكون أحسن وهو شيء لا يقول به البصريون، وفساده مذكور في علم النحو؟" فالنصب بأن بعد الواو في جواب الاستفهام عند أبي حيان أحسن لأنه مذهب البصريين.
[422]:- أي ليس معناه الاستفهام بل التمدح ووصف حالهم، وذلك شيء جائز.
[423]:- أي نقول: (سبحان الله وبحمده)، وروى أبو ذر، كما في صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده".
[424]:- بفتحتين: أي السطل الذي يتوضأ فيه، ويتطهر به.
[425]:- أي: واللام صلة.
[426]:- بل معناه صحيح كما قال الإمام (ق) فإن الصلاة تشتمل على التعظيم، و التقديس، والتسبيح، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، روته عائشة رضي الله عنها كما في صحيح الإمام مسلم. وقد نسب ابن (ك) هذا الرأي إلى ابن عباس، وابن مسعود.
[427]:- أي إبليس لعنه الله.
[428]:- وفي بعض النسخ: "واستحقب الكفر والمعصية".
[429]:- علم الله من كفر إبليس وكبره وحسده مالم تعلمه الملائكة، فلما أمر الله بالسجود ظهرت طاعة الملائكة، وظهر كفر إبليس وحسده، فأبى واستكبر وكان من الكافرين.
[430]:- يعني ففي ذرية آدم الأنبياء والعلماء والأصفياء، والخير يغلب الشر، والنور يطفئ الظلام، وفي أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي من ذرية آدم يقول الله تعالى: [كنتم خير أمة أخرجت للناس] الآية. وفي حذف المتعلق قصد إلى العموم، والمعنى: إني إعلم ما لا تعلمون مما كان ومما يكون ومما هو كائن.