التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء مصير الذين يبخلون بنعم الله ، فلا يؤدون حقها . ولا يقومون بشكرها فقال - تعالى - : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } .

وقوله { يَبْخَلُونَ } من البخل وهو ضد الجود والسخاء ، ومعناه : أن يقبض الإنسان يده عن إعطاء الشىء لغيره ، وأن يحرص حرصاً شديداً على ما يملكه من مال أو علم أو غير ذلك .

ويرى جمهور المفسرين أن المراد بالبخل هنا البخل بالمال ، لأنه هو الذى يتفق مع السياق .

ويرى بعضهم أن المراد بالبخل هنا البخل بالعلم وكتمانه ، وذلك لأن اليهود كتموا صفات النبى صلى الله عليه وسلم التى جاءت بها التوراة .

والذى تراه أن ما عليه الجمهور هو الأرجح ، لأنه هو المتبادر من معنى الآية ، وهو المتفق من سياق الكلام .

ولذا قال الآلوسى : قوله - تعالى - { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } بيان لحال البخل وسوء عاقبته ، وتخطئة لأهله فى دعواهم خيريته عقب بيان حال الإملاء . . .

وقيل : وجه الارتباط أنه - تعالى - لما بالغ فى التحريض على بذل الأرواح فى الجهاد وغيره ، شرع هنا فى التحريض على بذل المال ، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل به " .

والمعنى : ولا يظنن أولئك الذين يبخلون بما أعطاهم الله من نعم وأموال أن بخلهم فيه خير لهم ، كلا ، بل إن بخلهم هذا فيه شر عظيم لهم .

والنهى عن الحسبان بأن البخل فيه خير فى قوله { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } يدل على النفى المؤكد .

اى لا يصح لهم أن يظنوا بأية حال من الأحوال أن ذلك البخل فيه خير لهم . بل الحقيقة أن فيه شراً كبيراً لهم .

وفى قوله { بِمَآ آتَاهُمُ الله } إشعار بسوء صنيعهم ، وخبث نفوسهم ، حيث بخلوا بشىء ليس وليد عملهم واجتهادهم ، وإنما هذا الشىء منحه الله - تعالى - لهم بفضله وجوده ، فكان الأولى لهم أن بشكروه على ما أعطى ، وأن يبذلوا مما أعطاهم فى سبيله .

والضمير " هو " يعود على البخل المستفاد من قوله { يَبْخَلُونَ } .

ويرى الزمخشرى أنه ضمير فصل لتأكيد نفى الظن فى الخيرية .

وفى إعادة الضمير ، وذكر الجملة الإسمية فى قوله { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } تأكيد لمعنى الشر فى البخل ، وأنه لا خير من ورائه قط ، ففى الحديث الشريف الذى رواه الإمام مسلم فى صحيحه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " .

ثم بين - سبحانه - المصير المؤلم لأولئك البخلاء فقلا - تعالى - { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } .

وقوله { سَيُطَوَّقُونَ } مشتق من الطوق ، وهو ما يلبس من أسفل الرقبة . أى تجعل أموالهم أطواقا حول رقابهم ، وأغلالا حول أجسادهم ، فيعذبون عذابا أليما بحملها .

وجمهور المفسرين على أن الكلام على ظاهره ، وأن عذاب هؤلاء البخلاء بنعم الله ، سيكون نوعا من العذاب الأخروى المحسوس . وقد أيد القرطبى هذا الاتجاه فقال :

" وهذه الآية نزلت فى البخل بالمال والإنفاق فى سبيل الله وأداء الزكاة المفروضة ، ذهب إلى هذا جماعة من المتأولين ، منهم : ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل .

قالوا : ومعنى { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } هو الذى ورد لى الحديث عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - أى شدقيه - ثم يقول له . أنا مالك أنا كنزك . ثم تلا هذه الآية : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } .

ويرى بعض العلماء أن هذا الوعيد على سبيل التمثيل ، وأن الظاهر غير مراد ومعنى قوله { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ } عند هذا البعض : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم ، فلا يأتون لأنهم ليس فى قدرتهم ذلك .

و المعنى : سيلزمون وبال ما بخلوا به لزوم الطوق ، ويتحملون وزر ذلك يوم القيامة .

فالآية الكريمة تدعو المؤمنين إلى الجود والسخاء من أجل إعلاء كلمة الله ، وتتوعد البخلاء باقسى ألوان الوعيد وأفطعها . وتبين أن كل ما فى هذا الكون إنما هو ملك لله - تعالى - وحده ، فهو المعطى وهو المانع ، ولذا قال - تعالى - : { وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

والميراث : مصدر كالميعاد . وأصله موارث فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها . والمراد به ما يتوارث .

والمعنى : أن لله - تعالى - وحده لا لأحد غيره ما فى السموات والأرض مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره ، فما بال هؤلاء القوم يبخلون عليه بما يملكه ، ولا ينفقونه فى سبيله . وعلى هذا يكون الكلام جار على حقيقته ولا مجاز فيه .

ويصح أن يكون المعنى : أن الله - تعالى - يرث من هؤلاء ما فى أيديهم مما بخلوا به من مال وغيره وينتقل منهم إليه حين يميتهم ويفنيهم ، وتبقى الحسرة والندامة عليهم . وعلى هذا يكون الكلام على سبيل المجاز .

قال الزجاج : أى أن الله - تعالى - يفنى أهلهما . فيفنيان بما فيهما ، فليس لأحد فيهما ملك . فخوطبوا بما يعلمون ، لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثا ، ملكا له " .

وقوله { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } تذييل قصد به حضهم على الإنفاق ، ونهيهم عن البخل ، أى أن الله - تعالى - خبير ومطلع على ما يصدر عنكم من سخاء أو بخل أو غيرهما ، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا الحسنى .

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ساقت ألوانا من التسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ولأتباعه ، وبشرتهم بأن العاقبة ستكون لهم ، وفضحت المنافقين وهتكت ما تستروا به من ريا وخداع ، وبينت أن من سنن الله فى خلقه أن يبتلى عباده بشتى ألوان البلاء ليتميز الخبيث من الطيب ، وأنه - سبحانه - يلمى للكافرين ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وأن البخلاء بما آتاهم الله من فضله ستكون عاقبتهم شرا ، ومصيرهم إلى العذاب الأليم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

180

( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض ، والله بما تعملون خبير . لقد سمع الله قول الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ، ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم ، وأن الله ليس بظلام للعبيد . الذين قالوا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قل : قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم ، فلم قتلتموهم ، إن كنتم صادقين ؟ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير )

لم ترد في الآية الأولى من هذه المجموعة رواية مؤكدة ، عم تعنيهم ، ومن تحذرهم البخل ، وعاقبة يوم القيامة . . ولكن ورودها في هذا السياق يرجح أنها متصلة بما بعدها من الآيات ، في شأن اليهود . فهم - قبحهم الله - الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء . وهم الذين قالوا : إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار .

والظاهر أن الآيات في عمومها نزلت بمناسبة دعوة اليهود إلى الوفاء بالتزاماتهم المالية الناشئة عن معاهدتهم مع الرسول [ ص ] ودعوتهم كذلك إلى الإيمان بالرسول [ ص ] والإنفاق في سبيل الله .

وقد نزل هذا التحذير التهديدي ، مع فضح تعلات اليهود في عدم الإيمان بمحمد [ ص ] ردا على ما بدا من سوء أدبهم مع ربهم ، ومن كذب تعلاتهم ؛ ونزلت معه المواساة للرسول [ ص ] عن تكذيبهم ، بما وقع للرسل قبله مع أقوامهم . ومنهم أنبياء بني إسرائيل ، الذي قتلوهم بعد ما جاءوهم بالبينات والخوارق كما هو معروف في تاريخ بني إسرائيل :

( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ، بل هو شر لهم ، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض . والله بما تعملون خبير )

إن مدلول الآية عام . فهو يشمل اليهود الذين بخلوا بالوفاء بتعهداتهم ، كما يشمل غيرهم ممن يبخلون بما آتاهم الله من فضله ؛ ويحسبون أن هذا البخل خير لهم ، يحفظ لهم أموالهم ، فلا تذهب بالإنفاق .

والنص القرآني ينهاهم عن هذا الحسبان الكاذب ؛ ويقرر أن ما كنزوه سيطوقونه يوم القيامة نارا . . وهو تهديد مفزع . . والتعبير يزيد هذا البخل شناعة حين يذكر أنهم ( يبخلون بما آتاهم الله من فضله ) . . فهم لا يبخلون بمال أصيل لهم . فقد جاءوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئا . . ولا جلودهم . . ! فآتاهم الله من فضله فأغناهم . حتى إذا طلب إليهم أن ينفقوا " من فضله " شيئا لم يذكروا فضل الله عليهم . وبخلوا بالقليل ، وحسبوا أن في كنزه خيرا لهم . وهو شر فظيع . وهم - بعد هذا كله - ذاهبون وتاركوه وراءهم . فالله هو الوارث : ( ولله ميراث السماوات والأرض ) . . فهذا الكنز إلى أمد قصير . ثم يعود كله إلى الله . ولا يبقى لهم منه إلا القدر الذي أنفقوه ابتغاء مرضاته فيبقى مدخرا لهم عنده ، بدلا من أن يطوقهم إياه يوم القيامة !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

وقوله : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ } أي : لا يحسبن{[6256]} البخيل أن جمعه المال ينفعه ، بل هو مَضّرة عليه في دينه - وربما كان - في دنياه .

ثم أخبر بمآل أمر ماله{[6257]} يوم القيامة فقال : " سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قال البخاري :

حدثنا عبد الله بن منير ، سمع أبا النضر ، حدثنا عبد الرحمن - هو ابن عبد الله بن دينار - عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن أبي هُريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ له شُجَاعًا أقرعَ له زبيبتان ، يُطَوّقُه يوم القيامة ، يأخذ {[6258]} بلِهْزِمَتَيْه - يعني بشدقَيْه - يقول : أنا مَالُكَ ، أنا كَنزكَ " ثم تلا هذه الآية : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ } إلى آخر الآية .

تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه ، وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الليث بن سعد ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القَعْقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، به{[6259]} .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حُجَين بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمَر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الَّذِي لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُمَثِّلُ اللهُ لَهُ مَالَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبتَان ، ثم يُلْزِمهُ يطَوّقه ، يَقُول : أنَا كَنزكَ ، أنَا كَنزكَ " .

وهكذا رواه النسائي عن الفضل بن سهل ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ، به{[6260]} ثم قال النسائي : وروايةُ عبد العزيز ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، أثبتُ من رواية عبد الرحمن ، عن أبيه عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح ، عن أبى هريرة .

قلت : ولا منافاة بينهما{[6261]} فقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين ، والله أعلم . وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويَه من غير وجه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة . ومن حديث محمد بن أبي حميد ، عن زياد الخطمي ، عن أبي هريرة ، به .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن جامع ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال : " مَا مِنْ عَبْدٍ لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إلا جُعِلَ لَهُ شُجَاعٌ أقْرَعُ يَتْبَعُهُ ، يَفِرّ منه وهو يَتْبَعُه فَيقُولُ : أنَا كَنْ " . ثُمَّ قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .

وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن جامع بن أبي راشد ، زاد الترمذي : وعبد الملك بن أعين ، كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، عن عبد الله بن مسعود ، به . ثم قال الترمذي : حسن صحيح . وقد رواه الحاكم في مستدركه ، من حديث أبي بكر بن عياش وسفيان الثوري ، كلاهما عن أبي إسحاق السَّبيعي ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، به {[6262]}ورواه ابن جرير من غير وجه ، عن ابن مسعود ، موقوفا .

حديث آخر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أمية بن بِسْطام ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن ثوبان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال : " مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ كَنزا مُثِّلَ لَهُ شُجُاعًا أَقْرَعَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ زَبِيبَتَان ، يَتْبَعُه ويَقُولُ : مَنْ أَنْتَ ؟ وَيْلَكَ . فيقُولُ : أنَا كَنزكَ الَّذِي خَلَّفتَ بَعْدَكَ فَلا يَزَالُ يَتْبَعُه حَتَّى يُلْقِمَه يَدَه فَيقْضِمَها ، ثم يَتْبَعه سَائِر جَسَ " . إسناده جيد قوي ولم يخرجوه{[6263]} .

وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البَجَلي{[6264]} ورواه ابن جرير وابن مَرْدُويه من حديث بَهْز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يَأْتِي الرَّجُلُ مَولاهُ فيَسْأله من فَضْلِ مَالِهِ{[6265]} عِنْدَهُ ، فَيَمْنَعهُ إيَّاهُ ، إلا دُعِي لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجاعٌ يَتَلَمَّظُ فَضْلَهُ الَّذِي مَنَعَ " . لفظ ابن جرير{[6266]} .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود ، عن أبي قَزَعة ، عن رجل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمه ، فيَسْأله من فَضْلٍ جَعَلَهُ اللهُ عِنْدَهُ ، فَيَبْخَلُ بِهِ عَلَيْه ، إلا أخُرِج له من جَهَنَّم شُجَاعٌ يَتَلَمَّظ ، حتى يُطوّقه " .

ثم رواه من طريق أخرى عن أبي قزَعَة - واسمه حُجَيْر{[6267]} بن بَيان - عن أبي مالك العبدي موقوفا . ورواه من وجه آخر عن أبي قَزَعَة مرسلا{[6268]} .

وقال العَوْفي عن ابن عباس : نزلت في أهل الكتاب الذين بَخِلُوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها .

رواه ابن جرير . والصحيح الأول ، وإن دخل هذا في معناه . وقد يقال : [ إن ]{[6269]} هذا أولى{[6270]} بالدخول ، والله أعلم .

وقوله : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ، فإن الأمور كُلَّها مرجعها إلى الله عز وجل . فقدموا لكم من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : بِنياتِكم وضمائركم .


[6256]:في: "تحسبن".
[6257]:في أ: "أمره إليه".
[6258]:في أ، و: "فيأخذ".
[6259]:صحيح البخاري برقم (1403، 4565).
[6260]:المسند (2/98) وسنن النسائي (5/38).
[6261]:في و: "بين الروايتين".
[6262]:المسند (1/377) وسنن الترمذي برقم (3012) وسنن النسائي (5/11) وسنن ابن ماجة برقم (1784) والمستدرك (2/298).
[6263]:عزاه إلى أبي يعلى في المطالب العالية الحافظ ابن حجر (1/254) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2255) وابن حبان في صحيحه برقم (803) "موارد"والبزار في مسنده (1/418) "كشف الأستار" والطبراني في المعجم الكبير (2/91) والحاكم في المستدرك (1/338) وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي، كلهم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به. وقال البزار: "إسناده حسن".
[6264]:المعجم الكبير (2/322) ولفظه: "ما من ذي رحم يأتي رحمه فيسأله فضلا أعطاه الله إياه فيبخل عليه إلا أخرج له يوم القيامة من جهنم حية يقال لها: شجاع يتلمظ فيطوف به". قال الهيثمي في المجمع (8/154): "رواه الطبراني في الأوسط والكبير وإسناده جيد".
[6265]:في ر، أ، و: "مال".
[6266]:تفسير الطبري (7/435) ورواه أحمد في مسنده (5/3) والنسائي في السنن (1/358).
[6267]:في أ، و: "حجر" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
[6268]:تفسير الطبري (7/434).
[6269]:زيادة من أ، و.
[6270]:في أ: "روى".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

عطف على { ولا يحسبن الذين كفروا } ، لأنّ الظاهر أنّ هذا أنزل في شأن أحوال المنافقين ، فإنّهم كانوا يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، كما حكى الله عنهم في سورة النساء ( 37 ) بقوله : { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } وكانوا يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضُّوا ، وغير ذلك ، ولا يجوز بحال أن يكون نازلاً في شأن بعض المسلمين لأنّ المسلمين يومئذ مبرّؤون من هذا الفعل ومن هذا الحسبان ، ولذلك قال معظم المفسّرين : إنّ الآية نزلت في منع الزكاة ، أي فيمن منعوا الزكاة ، وهل يمنعها يومئذ إلاّ منافق . ولعلّ مناسبة ذكر نزول هذه الآية هنا أنّ بعضهم منع النفقة في سبيل الله في غزوة أُحُد . ومعنى حسبانه خيراً أنّهم حسبوا أن قد استبقوا مالهم وتنصّلوا عن دفعه بمعاذير قُبلت منهم .

أمّا شمولها لِمنع الزكاة ، فإن لم يكن بعموم صلة الموصول إن كان الموصول للعهد لا للجنس ، فبدلالة فحوى الخطاب .

وقرأ الجمهور : ولا يحسبنّ الذين يبخلون } بياء الغيبة ، وقرأه حمزة بتاء الخطاب كما تقدّم في نظيره . وقرأ الجمهور : تحسِبنّ بكسر السين ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم بفتح السين .

وقوله : { هو خيراً لهم } قال الزمخشري ( هو ) ضمير فصْل ، وقد يبنى كلامه على أنّ ضمير الفصل لا يختصّ بالوقوع مع الأفعال التي تطلب اسماً وخبراً ، ونقل الطيبي عن الزجاج أنّه قال : زعم سيبويه أنّه إنّما يكون فصلاً مع المبتدأ والخبر ، يعني فلا يصحّ أن يكون هُنا ضمير فصل ولذلك حكى أبو البقاء فيه وجهين : أحدهما أن يكون ( هو ) ضميراً واقعاً موقع المفعول الأوّل على أنه من إنابة ضمير الرفع عن ضمير النصب ، ولعلّ الذي حسنّه أنّ المعاد غير مذكور فلا يهتدي إليه بضمير النصب ، بخلاف ضمير الرفع لأنّه كالعمدة في الكلام ، وعلى كلّ تقدير فالضمير عائد على البخل المستفاد من { يبخلون } ، مثل { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، ومثل قوله :

إذَا نُهِي السفيهُ جَرى إليه *** وخَالف والسفيهُ إلى خلاف

ثم إذا كان ضمير فصل فأحد مفعولي حسب محذوف اختصاراً لدلالة ضمير الفصل عليه ، فعلى قراءة الفوقية فالمحذوف مضاف حَلّ المضافُ إليه محلّه ، أي لا تحسبنّ الذين يبخلون خيراً وعلى قراءة التحتيّة : ولا يحسبنّ الذين يبخلون بُخلهم خيراً .

والبُخْل بضم الباء وسكون الخاء ويقال : بَخَل بفتحهما ، وفعلُه في لغة أهل الحجاز مضموم العين في الماضي والمضارع . وبقية العرب تجعله بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ، وبلغة غير أهل الحجاز جاء القرآن لِخفّة الكسرة والفتحة ولذا لم يقرأ إلاّ بها . وهو ضدّ الجود ، فهو الانقباض عن إعطاء المال بدون عوض ، هذا حقيقته ، ولا يطلق على منع صاحب شيء غير مال أن ينتفع غيره بشيئه بدون مضرّة عليه إلاَّ مجازاً ، وقد ورد في أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « البخيل الذي أُذكرُ عنده فلا يصلّي عليّ » ويقولون : بخِلت العين بالدموع ، ويرادف البخلَ الشحّ ، كما يرادف الجودَ السخاء والسماح .

وقوله : { بل هو شر لهم } تأكيد لنفي كونه خيراً ، كقول امرىء القيس : > وهذا كثير في كلام العرب ، على أنّ في هذا المقام إفادة نفي توهّم الواسطة بين الخير والشرّ .

وجملة { سيطوّقون } واقعة موقع العلّة لقوله : { بل هو شر لهم } .

ويطوّقون يحتمل أنه مشتقّ من الطاقة ، وهي تحمُّل ما فوق القدرة أي سيحملون ما بخلوا به ، أي يكون عليهم وزراً يوم القيامة ، والأظهر أنّه مشتقّ من الطَّوْق ، وهو ما يلبس تحت الرقبة فوق الصدر ، أي تجعل أموالهم أطواقاً يوم القيامة فيعذّبون بحملها ، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم « من اغتصب شبراً من أرض طُوّقه من سبع أرضين يوم القيامة » والعرب يقولون في أمثالهم تقلّدها ( أي الفعلة الذميمة ) طوقَ الحمامة . وعلى كلا الاحتمالين فالمعنى أنّهم يشهَّرون بهذه المذمّة بين أهل المحشر ، ويلزمون عقاب ذلك . وقوله : { ولله ميراث السموات والأرض } تذييل لموعظة البَاخلين وغيرهم : بأنّ المال مال الله ، وما من بخيل إلاّ سيذهب ويترك ماله ، والمتصرّف في ذلك كلّه هو الله ، فهو يرث السماوات والأرض ، أي يستمرّ ملكه عليهما بعد زوال البشر كلّهم المنتفعين ببعض ذلك ، وهو يملك ما في ضمنهما تبعاً لهما ، وهو عليم بما يعمل الناس من بخل وصدقة ، فالآية موعظة ووعيد ووعد لأنّ المقصود لازم قوله : { خبير } .